لماذا سكتت عواصم العرب؟
في كل الاعتداءات السابقة على غزة، كانت المظاهرات في العواصم العربية تضغط لوقف الحرب، وكان الحكام يستفيدون من الغضب الشعبي للتهرب من الإملاءات الأمريكية والأوربية، وكانت المظاهرات في القاهرة لها التأثير الأكبر في دعم الفلسطينيين ضد الغطرسة الصهيونية، وكان صانع القرار الغربي يخشى اهتزاز استقرار الأنظمة العربية التابعة فيتدخل لوقف العدوان.
في حرب الإبادة الجارية غابت الشعوب العربية، وسكتت العواصم في العالم العربي، في الوقت الذي خرجت فيه الشعوب في الدول الغربية، وامتلأت الشوارع احتجاجا على المذبحة وقتل الأطفال والنساء والمدنيين في غزة، ورُفعت أعلام فلسطين في حشود ضخمة لم يعهدوها من قبل، في لندن وباريس وواشنطن ومدريد، وكانت موجات البشر لا نهاية لها في مشاهد غير مسبوقة.
كانت الحشود في عواصم أوروبا وأمريكا أكبر من أن يتم احتواؤها، ولم تفلح كل التحذيرات والإجراءات التي اتخذتها الحكومات الغربية التي تؤيد العدوان في وقف الاحتجاجات، وكانت قوة الشعوب أقوى من حكوماتها، حتى أن وزيرة الداخلية البريطانية سويلا بريفرمان التي حاولت التصدي للمظاهرات المؤيدة لفلسطين ورفض قائد شرطة لندن تنفيذ أوامرها تمّت إقالتها.
تسبب هذا الغياب الشعبي في إضعاف الموقف العربي، وتشجيع حكومة الاحتلال الإسرائيلي على الاستمرار في القصف الإجرامي لغزة بكل أسلحة الدمار من الجو والبحر والبر، وأدي إلى استهانة القادة الغربيين بالأمة العربية والإسلامية، والمجاهرة بتأييد الإبادة، وإعلان وقوفهم مع الهجوم الإسرائيلي، بل والضغط على الحكام العرب لمنعهم من تقديم أي دعم للقطاع الذي يتم تدميره.
ضرب المجتمعات العربية وسجن رموزها
الوضع الذي يعيشه العالم العربي اليوم مأساوي، فبعض القادة يعيشون حالة حرب مع شعوبهم، وتزعجهم الأزمات المتعلقة بالسلطة، فتخلوا عن ثوابتهم للحفاظ على كراسيهم، وبحثوا عن دعم خارجي وقبول دولي يبقيهم في السلطة، فتلقفتهم الدوائر الصهيونية وأقنعتهم بتغيير عقيدتهم العسكرية وتبديل العداوات والتحالفات، فأصبحت “إسرائيل” صديقا وحليفا، وتحولت الشعوب وقواها الدينية والسياسية الحية إلى عدو.
ولأن القوى الحية في مجتمعاتنا العربية هي التي تقف ضد الصهيونية، وهي السد المنيع الذي يوقف الاختراق الصهيوني لدوائر السلطة، تم ضربها بلا رحمة، وامتلأت السجون برموز وشباب الحركات الإسلامية واليسارية والليبرالية، والعلماء وقادة الأحزاب والنقابات والكيانات والناشطين بكل ألوانهم وتياراتهم بدعوى “مكافحة الإرهاب” هذا الشعار الصهيوني الذي باسمه تم تمزيق الجبهات الداخلية وتخريبها في معظم دولنا.
وعندما جاءت اللحظة التي يحتاجون فيها إلى الشعوب للتخلص من الضغوط الصهيونية التي تفوق قدرتهم على التنفيذ لم يجدوها، وعندما فكروا في استدعاء الشعوب كان الخصم يعلم أن الاحتجاجات مصنوعة فواصل الضغط بقوة السلاح، وحتى عندما عبَّر بعض المتظاهرين عن رفضهم للعدوان دون تفويض لأحد مع حرصهم على عدم التشويش على تضامنهم مع غزة بمطالب سياسية أخرى احتراما لفلسطين، لم يتحملوا فقرروا إغلاق الشوارع!
وجود الشوارع مفتوحة مهم جدا لأي نظام سياسي، لأن الغرب يجيد التعامل مع الحكام والسيطرة عليهم في الغرف المغلقة، ولديه أوراق كثيرة للضغط على الدول لتمرير مؤامراته، لكنه ضعيف أمام الشعوب، فالشوارع تزعجه، وتقوي عزيمة مواقف حكامهم إذا كانت تدافع عن مصالح الأمة، وكان حسني مبارك يستفيد من الحشود في الشوارع التي كانت تسنده وتقوي موقفه التفاوضي، وعندما توحد الشارع المصري مع الحكم في عهد الرئيس محمد مرسي (الذي قال: لن نترك غزة وحدها) لم يستطع الإسرائيليون مواصلة العدوان، لكن من يضربون الشارع اليوم لن يجدوه عندما يحتاجون إليه.
إعلان هزيمة العرب
مع انكسار الدول العربية الكبرى أمام العلو الصهيوني، أصر الإسرائيليون على أن يكون التطبيع علنيا وليس سريا كما كان في السابق، واستغلوا أزمات بعض الدول في الابتزاز والمساومة، وأشعلوا الصراعات وخربوا دولا للتخويف والإرهاب، فحدثت هرولة جماعية ونكسة أصابت العالم العربي، وعندما ظن الاحتلال أن المناخ مناسب لتحقيق كل أطماعه وأحلامه التوراتية، كان هجومه على المسجد الأقصى والسيطرة عليه، فكان التصعيد الذي بلغت ذروته في هجوم حماس على غلاف غزة.
منذ اليوم الأول للحرب، ظهرت المواقف المتخاذلة من العدوان على غزة والتماهي مع الاحتلال، فتمّت إدانة حماس وهجومها في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وإظهار التعاطف مع المدنيين الإسرائيليين، بل وتأييد العملية العسكرية الإسرائيلية بزعم “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، وكان إعلام بعض هذه الدول منحازا للمحتل، يهاجم المقاومة الفلسطينية ويبشر بهزيمتها.
كانت القمة العربية التي ضمت إليها القمة الإسلامية كاشفة عن حالة الهزيمة العربية، فقد تأخرت عن عمد، لإعطاء الوقت للجيش الإسرائيلي لاحتلال غزة، ليكون الوضع على الأرض مناسبا لتمرير الخطة الأمريكية التي تهدف إلى تسليم القطاع للدول العربية المتحالفة مع إسرائيل في “اتفاقات أبراهام”، لكن المقاومة الفلسطينية تصدت للهجوم الإسرائيلي، ومنعتهم من دخول غزة، وأفشلت ما كان يجري في الغرف المغلقة.
قرارات القمة مخيبة للآمال
رغم تبني القمة العربية الإسلامية بعض القرارات الجيدة لكنها فشلت في تحسين الموقف العربي، ورغم أنها كموقف جماعي أفضل نسبيا من المواقف الفردية للحكام العرب فإنها كانت لصالح العدوان، فالصياغات الخاصة بصلب المعركة حمالة أوجه، فلم تطالب بالوقف الفوري للعدوان بشكل صريح، وهو القرار الذي ترفضه الولايات المتحدة والدول الأوروبية المشاركة والمؤيدة للحرب.
تحدثوا عن الإغاثة وفتح معبر رفح بالمضمون ذاته الذي يتحدث به بايدن والإدارة الأمريكية للحرب، ولم تختلف قرارات القمة عن أي قمم سابقة، فقد تحدثوا عن حل الدولتين بعد تمزيق الضفة بالمستوطنات، وفي وقت يتم فيه تدمير قطاع غزة وطرد سكانه، ورفض القادة العرب والمسلمون اتخاذ أي إجراءات وآليات عملية لتنفيذ القرارات، حيث أسندوا تنفيذ قرارات القمة إلى الأمين العام للجامعة العربية والأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، وتكليفهما بتقديم تقرير للدورة القادمة لمجلسيهما!
بالتأكيد لم يكن مطلوبا من القادة العرب المشاركة في الحرب، لأن تدخلهم سيكون لصالح الاحتلال، كما جرى في حرب 1948 عندما دخلت الجيوش العربية تحت قيادة الإنجليز وجمعت السلاح من الفدائيين بزعم توحيد البندقية، ثم انهزمت وسلّمت فلسطين للعصابات اليهودية، ولكن المطلوب أن يتطهروا من جريمة التطبيع، ويتخذوا موقفا مؤيدا لإخوانهم العرب والمسلمين، ويتركوا الشعوب تدافع عن غزة طالما هم لا يقدرون على ذلك.
صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة أفشل حتى الآن الهجمة الصهيونية الغربية، لكن هذا الصمود يحتاج إلى مساندة عربية شعبية ورسمية ليقوى على الاستمرار والتصدي والمواجهة، ولن نضيف جديدا عندما نؤكد أن انتصار المقاومة انتصار للأمة، فالمعركة لا تخص غزة وحدها، فالجيوش وحاملات الطائرات والغواصات النووية التي جاءت إلى المنطقة ليست لقتال حماس فقط، وإنما لرسم الخرائط وفي مقدمتها خطط تقسيم الدول التي تختبئ الآن وتظن أنها بعيدة عن الاحتلال والتدمير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق