نبوءة العقد الثامن التي تثير الرعب في إسرائيل
أكاديمي، وسياسي، وكاتب تركي
إنها الذكرى المئوية للجمهورية التركية وبداية المئة الثانية، ويمكننا بيان حال العالم الذي نعيشه الآن على النحو التالي:
أولًا، وكما هو معلوم فإن الجمهورية التركية قد تأسست في أعقاب حرب كبرى أدت أيضًا إلى وجود الاحتلال والنظام الاستعماري في أراضي الإمبراطورية العثمانية المتداعية، ولا يزال هذا النظام يتسبب في الدمار والاضطرابات وإراقة الدماء والآلام لشعوب هذه المنطقة كلها. وفي تلك الأثناء كانت الجمهورية التركية هي الدولة الإسلامية الأولى والوحيدة التي اعترفت بإسرائيل منذ أن احتلت الأراضي الفلسطينية وأعلنت نفسها دولة عام 1947. لكن إسرائيل التي تعتبر نفسها دولة يهودية شرعية، وتدَّعي أن مرجعيتها هي كتبها المقدسة، لم تتوقف عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.
نتذكر ونتقال
وها هو العالم كله يرى جثث الأطفال الأبرياء الذين طالهم القصف الهمجي الذي وجهته إسرائيل إلى جميع المناطق المدنية بما في ذلك المستشفيات والمدارس والأسواق والمساجد والكنائس. ومن المثير للشفقة أمام هذا الوضع وهذه الصور التي لا تحرك ضمير أي أوروبي يدَّعي “الحضارة الحديثة”، أننا نجد نتنياهو لا يتورع عن التصريح بأن هذه التصرفات التي يقوم بها تتوافق مع ما هو موصوف في التوراة.
علاوة على ذلك خرج نتنياهو للصلاة والدعاء من أجل الجنود الإسرائيليين، وقال إن الجنود الذين قتلوا هؤلاء الأطفال الأبرياء قد حفروا أسماءهم في تاريخ اليهودية التي تقاتل من أجل إسرائيل منذ 300 عام، ووعدهم بأنهم سيرون “نبوءة إشعياء” التي وردت في التوراة، وأن تلك النبوءة تضع حماس في مواجهة الرب وإسرائيل.
وهو في هذا الوعد يشير إلى ما يطمع فيه اليهود معتمدين على تعاليمهم الدينية من احتلال الأراضي الممتدة من النيل إلى الفرات. وبالطبع، لا فائدة في ذلك السياق لأن هذا الدين قد تم تحريفه، وذلك الوعد المزعوم هو مجرد خيال وتلفيق صهيوني.
وفي خطاب آخر لنتنياهو، قال: “نحن أيضًا نتذكر ونقاتل”، في إشارة منه هذه المرة إلى ما جاء في التوراة: “لا تنسوا ما فعله بكم العماليق”. وتلك الإشارة تربط بين أهل غزة والعماليق الذين عاشوا قبل 3100 عام، وما تعنيه واضح تمامًا لليهود والمسيحيين على حدٍّ سواء.
وتبعًا للتاريخ اليهودي فإن قيام دولة إسرائيل في الماضي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد قد اقتضى بتوجيه من الرب الإبادة التامة للعماليق الذين أزعجوا اليهود في تلك الحقبة. وتشمل الإبادة “البشر رجالًا ونساءً وأطفالًا، والحيوانات أبقارًا وأغنامًا وجِمالًا وحميرًا” وكلهم قُتلوا دون تمييز. حتى الأطفال الذين كانوا يرضعون في مهدهم قُتلوا في هذه المجزرة. والشيء المثير للاهتمام هو أنه عندما استولى العماليق الذين يربطهم نتنياهو بحماس بهذا التفسير الغريب على مدن الإسرائيليين، “لم يقتلوا أيًّا من النساء، بل أخذوهن جميعا، صغارًا وكبارًا دون أن يؤذوا أحدًا منهم”. وبالتالي فإن هذا الوصف يمكن أن يناسب حماس من هذه الزاوية. كما أن ربط نتنياهو نفسه بالطرف المجرم القاتل والعديم الرحمة في مثل هذا التشبيه يعد من قبيل لحن القول وإظهار الحقيقة على لسان الظالم المريض نفسيًّا. ويا له من بعد مأساوي آخر لمثل هذا التفسير الذي يشكل خطرًا واضحًا على البشرية، ويتمثل ذلك البعد في إمكانية أن يحظى هذا المنهج بقبول ودعم جماعي في أوروبا.
وفي السياق ذاته فإنه من العبث أن نعتقد أن جثث الأطفال التي رآها العالم في المجزرة التي قام بها نتنياهو بحقده وغضبه في غزة هذه الأيام يمكن أن تثير ضمير شخص ما وتحركه. فعلى الصعيد اليهودي فإن هذه الصور تزيد من الإثارة والحَمِيَّة الدينية لدى شريحة كبيرة جدًّا من اليهود.
كما أن أوروبا وبعد مرور قرابة مئة عام، تدرك أنها تدعم بكل الوسائل العدوان الإسرائيلي ودولته الدينية التي أصبحت تشكل تهديدا للبشرية. فأوروبا حينما يتعلق الأمر بإسرائيل تتجاهل كل شعاراتها ودعاواها بالعلمانية والإنسانية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
وبينما كان نتنياهو يستشهد بالكتاب المقدس ويعزو المسؤولية عن المجازر التي ارتكبها إلى نبوءة التوراة، فإن هناك نبوءة أخرى مثيرة للاهتمام للغاية ذكرها أبو عبيدة المتحدث باسم حماس فقال: “إذا كنت تصدق نبوءات كتابك وتثق فيها كثيرًا، فدعني أخبرك بنبوءة تُذكِّرك بنهايتك”.
نبوءة متداولة
وفي إشارة ذكية إلى نبوءة متداولة في الأوساط الإسرائيلية، قال أبو عبيدة: “لقد بدأ وقت هزيمة الصهيونية، وستقع عليهم لعنة الثمانين. وعلى اليهود أن يعودوا إلى التوراة والتلمود ويعيدوا قراءتها بعناية وينتظروا إلى الوقت الذي يتعرضون فيه للإذلال”.
والحقيقة أن ما يقوله أبو عبيدة هو نبوءة معروفة يجب أن يأخذها اليهود على محمل الجد اليوم، وأقصد أولئك الذين يأخذون التوراة والنبوءات المستخلصة منها على محمل الجد. فالعِقد الثامن يمثل الوقت الذي انهارت فيه جميع الدول التي أنشأتها إسرائيل في التاريخ. وليس هناك ما يضمن أن الأمر نفسه لن يتكرر بالنسبة للدولة الحالية. بل على العكس من ذلك، تشير جميع الدلائل إلى أن جميع الأعمال العدوانية التي قامت بها إسرائيل في العقد الثامن من تأسيسها تدفعها نحو الدمار.
إن حقيقة أن فئةً ما قادرة على ارتكاب عديد من المذابح اليوم ليست علامة على القوة أو طول عمرها، بل إنها دليل واضح على كراهية يرفضها عقل وضمير العالم بأسره، وهي كراهية كادت تصل إلى حد الانفجار. وفي جميع المدن الأوروبية مثل لندن عاصمة إنجلترا التي بادرت إلى دعم تأسيس إسرائيل، قد وصل الغضب على إسرائيل إلى حد الانفجار.
وفي تقرير إخباري نشرته قناة الجزيرة عن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك التي نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية العام الماضي، أعرب باراك عن قلقه بشأن النهاية الوشيكة لإسرائيل قبل الذكرى الثمانين لتأسيسها، فقال: “يذكر التاريخ اليهودي أنه لم يكن لليهود قط دولة استمرت أكثر من 80 عامًا، باستثناء فترتين استثنائيتين، هما: عهد الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين بدأت في الانحلال أثناء العقد الثامن.
وأضاف باراك أن التجربة الحالية للدولة العبرية الصهيونية هي الثالثة، وأنها تعيش الآن عقدها الثامن، ويخشى أن تصيبها لعنة العقد الثامن كما حدث لسلفها.
كما أشار باراك في نفس المقال إلى أنهم لم يكونوا الوحيدين المتضررين من لعنة العقد الثامن، فقال: “اندلعت الحرب الأهلية في أمريكا في عقدها الثامن، وتحولت إيطاليا إلى دولة فاشية في عقدها الثامن، وتحولت ألمانيا إلى دولة نازية في عقدها الثامن وكان ذلك سببًا في هزيمتها وتقسيمها. علاوة على الاتحاد السوفيتي الذي قام بثورة شيوعية، ثم تفكك وانهار في عقده الثامن”.
والحقيقة أن باراك كان يحاول على طول المقال شرحَ تاريخ إسرائيل، مستصحبًا تحذيرات التلمود ونبوءاته، في محاولة منه لوضع إستراتيجية مستندة إلى التلمود. واستنادا إلى حقيقة أن إسرائيل في بيئة صعبة لا رحمة فيها للضعفاء، فإنها دائما ما تلفت الانتباه إلى العواقب الوخيمة للتقليل من شأن جميع أنواع التهديدات، وتشير إلى أنها ستُرهِب وتضطهد وتدمر أعداءها من خلال سياسة أكثر عدوانية، وانتقاد لسياسات الإدارات الحالية.
ولا يبدو أن إسرائيل تدرك أن متلازمة العقد الثامن أصبحت نبوءة تحقق ذاتها. لا هذا ولا أولئك الذين يفسرون هذه النبوءة بهذه الطريقة ويعتقدون أن كونك أكثر عدوانية باسم اتخاذ الاحتياطات والتدابير هو الحل للتخلص من تلك النبوءة، رغم أنهم إذا أرادوا درسًا من التاريخ، فليس عليهم سوى النظر إلى فرعون ومصيره. فقد اعتقد فرعون أيضًا أن قتل موسى في مهده سيكون إجراءً احترازيًّا، وتوقع أن ذلك سيحقق له نهاية النبوءة وعدم وقوعها، لكن هذا الإجراء نفسه كان سببًا في توقُّف عمليات قتل الأطفال التي قام بها باسم هذا الإجراء.
ولذلك فإن عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها قوات الاحتلال ضد غزة تكشف عما تعانيه إسرائيل من متلازمة العقد الثامن، كما أن الإجراءات التي تتخذها للهروب من نهايتها المقدَّرة تقربها من النهاية الحتمية، وإن كانت لا تدرك ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق