“اليوم التالي” في إسرائيل بعد انتهاء الحرب.. عزلة وتحقيقات ومحاكمات
يتنافس المسؤولون الصهاينة والأمريكيون في رسم سيناريو اليوم التالي لتوقف الحرب على غزة، ما الجهة التي ستوكل إليها إدارة القطاع بعد تصفية حركة حماس؟ هل ستكون السلطة الوطنية الفلسطينية أم إدارة مصرية أم عربية أم عالمية أم إسرائيلية؟ وكأن الانتصار على المقاومة قد تحقق بالفعل، بينما لا تزال المواجهات مستعرة بين كر وفر حتى كتابة هذا المقال.
وفي مقابل هذه السيناريوهات “المغرورة”، فإن من الواجب علينا أن نحاول استشراف المشهد الإسرائيلي نفسه عقب انتهاء المعارك، إذ إن الأمر المتيقن حتى الآن هو انتصار “طوفان الأقصى” في تدمير الجدار الحاجز، واقتحام مستوطنات غلاف غزة، واقتحام كتيبة غزة المختصة أساسا بحصار القطاع، وأسر مئات الأسرى الإسرائيليين العسكريين والمدنيين، والأهم من ذلك هو كسر نظرية الأمن الإسرائيلي، والجيش الذي لا يُقهر، وبث الخوف في نفوس الإسرائيليين، وإشعارهم بأنهم لن يكونوا في مأمن، وهذا نصر كبير للمقاومة لم يتكرر منذ السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولن يمحوه أي انتقام حتى لو كان تدمير غزة، وقد رفعت حكومة الاحتلال هدفين للثأر، وهما القضاء على حركة حماس، واستعادة الأسرى الصهاينة، وهما أمران مستحيلان، وحتى لو تمكن جيش الاحتلال (جدلا) من تحقيق الهدفين فإنه لن يستطيع إعادة الأمن والطمأنينة لسكان المستوطنات في غلاف غزة وفي الجليل على الأقل، ولن يستطيع استعادة صورته كجيش لا يُقهر.
وقبل الحديث عن سيناريوهات اليوم التالي، يجدر التذكير بأن الحرب ذاتها لا تزال مفتوحة على مسارات أخرى، وقد تتسع لتشمل أطرافا أخرى، ولتصبح حربا إقليمية أو حتى دولية، لكن في حدود المسار الحالي للحرب باعتبارها بين جيش الاحتلال وداعميه من جانب والمقاومة الفلسطينية من جانب آخر، فإننا يمكن أن نتوقع المشاهد التالية.
تحقيقات ومحاكمات
أول إجراء عقب وقف العمليات العسكرية سيكون حصر قتلى ومصابي جيش الاحتلال، الذين حرص على إخفائهم خلال الحرب حفاظا على الروح المعنوية لجنوده ولشعبه، وإبلاغ أسرهم، وعمل جنازات لهم.
ومع هذه الجنازات ستتصاعد دعوات المحاسبة للمسؤولين عما حدث، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو وطاقمه الوزاري، وكبار القادة العسكريين، وسيتم تشكيل لجنة تحقيق في الأمر، كما حدث عقب هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، حيث شُكلت على الفور في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1973 -أقل من شهر بعد وقف القتال- لجنة برئاسة رئيس المحكمة العليا شمعون أجرانات، وسُميت باسمه (لجنة أجرانات)، استدعت كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين بدءا من رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووزير الدفاع ورئيس الأركان وغيرهم من القادة، وحمّلت بعضهم المسؤولية، وأوصت بإقالتهم، كما سبقت غولدا مائير نتائج التحقيقات بتقديم استقالتها، والمتوقع أن يتكرر هذا السيناريو مع نتنياهو وغالانت وغانتس وغيرهم، وقد أكد السفير الإسرائيلي لدى روسيا ألكسندر بن تسفي قبل يومين أنه سيتم تشكيل لجنة كبيرة للتحقيق في ما حدث منذ السابع من أكتوبر -والمقصود عملية طوفان الأقصى- والفشل الإسرائيلي في التنبؤ بها ومواجهتها، ومن المتوقع أيضا أن تتم الدعوة إلى انتخابات مبكرة عقب الخلاص من نتنياهو إما بإقالته أو استقالته أو حتى انتحاره.
أزمة المستوطنين
ستظهر أزمة المستوطنين في غلاف غزة والجليل الأعلى الذين تم إجلاؤهم خلال فترة الحرب، وسيجري الترتيب لإعادتهم إلى تلك المستوطنات، وغالبا ستواجه سلطات الاحتلال صعوبة مع معظمهم أو بعضهم في العودة إلى تلك الأماكن نتيجة شعور الخوف الذي يتملكهم بعد الذي عايشوه، وهذه المشاعر لا تتوقف عند المستوطنين ولكنها غزت نفوس الإسرائيليين عموما، وتابعنا خلال الأيام الماضية وعقب طوفان الأقصى نزوح الكثيرين من حاملي الجنسيات الأجنبية منهم إلى بلدانهم الأصلية، كما سعى بعضهم إلى امتلاك جوازات سفر أجنبية ليتمكنوا من الهجرة العكسية.
وفي هذا الإطار سيتصاعد الحديث عن لعنة العقد الثامن، حيث سيعتبر الكثير من الحاخامات وحتى السياسيين أن ما حدث في طوفان الأقصى هو مؤشر جديد على قرب انتهاء دولتهم وفقا للنبوءات التوراتية التي أكدت أنه لم تستمر لهم مملكة أكثر من 80 عاما.
عزلة وعداء بديلا للتطبيع
عقب انتهاء الحرب ستتصاعد مشاعر العدوان للكيان في كل مكان، ولن يشعر إسرائيلي بالأمن في أي مكان يذهب إليه خصوصا في الدول العربية والإسلامية والإفريقية واللاتينية، وسيجد الكيان نفسه في حالة عزلة وحصار مجددا بعد أن نجح في كسر تلك العزلة خلال السنوات الماضية من خلال اتفاقيات التطبيع التي كانت أحدث موجاتها اتفاقيات أبراهام، وكانت دول عربية وإفريقية وإسلامية أخرى في طريقها إلى التطبيع. لقد كان الكثير من القادة المستبدين يعتقدون أن استمرار حكمهم واستقراره رهن برضا الكيان ودعمه، والآن يدركون أن كيانا لم يستطع حماية نفسه لن يكون قادرا على حماية غيره، ولن يجد هؤلاء الحكام ما يغريهم بالتطبيع، الذي يجلب عليهم في الوقت ذاته نقمة شعوبهم، ومحصلة ذلك هي عزلة وحصار جديد على الكيان يعيد إلى أذهان الصهاينة ما عانوه منذ احتلال فلسطين وحتى التسعينيات.
انتعاش المسار السياسي
حال فشل الكيان في تحقيق النصر الموهوم فإنه سيجد نفسه مضطرا لقبول مفاوضات جادة للوصول إلى تسوية سياسية نهائية للقضية الفلسطينية، سواء بحل الدولة الديمقراطية الواحدة، أو حل الدولتين الذي أقره المجتمع الدولي، وعجز عن تنفيذه خلال العقد الماضي بسبب تعنت الكيان، الآن سيجد الكيان نفسه محاصرا ومعزولا، وسيواجه ضغوطا من أصدقائه وحلفائه لقبول الحل السياسي حتى ينعم بالسلام، لقد كسرت معركة طوفان الأقصى حالة الجمود السياسي التي سيطرت على المشهد خلال العقدين الماضيين، وفتحت الباب أمام تسوية سياسية للقضية.
قد يتحقق جُل هذه التوقعات أو بعضها، وفي الحالات كلها فإن العدو تعرَّض لضرر بالغ من طوفان الأقصى لن يستطيع علاجه، وعليه أن يتنازل عن غروره، وينزل من عليائه إلى حقائق الواقع الجديد، وعليه إدراك أنه حتى لو انتهت حماس فستظهر حركات مقاومة أخرى أشد بأسا وأشد تنكيلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق