طرد مصر من مضيق تيران
لم نكن نتوقع أن تخرج مصر من خليج العقبة بهذه السرعة، فمنح السعودية ألف كم2 من جنوب سيناء يأتي تتويجا للاستراتيجية الإسرائيلية لطرد مصر من مضيق تيران الذي كان محور الصراع لما يقرب من 70 عاما ومن أجله كانت حروب الجيش المصري مع الاحتلال الإسرائيلي، وهي الخطوة الثانية للدور السعودي بعد صفقة تيران وصنافير لتسليم مضيق تيران بضفتيه الشرقية والغربية إلى الإسرائيليين.
هذه النكسة الاستراتيجية لا يمكن تبريرها بأن مصر تشارك في الاستثمار مع السعوديين بالأرض، أو أن الاتفاق لتطوير المنطقة لصالح البلدين كما يزعم البعض، لأن الجانب السعودي هو الذي أعلن عن ضم الأرض إلى مشروع “نيوم”، أي أصبحت جزءا من المنطقة الدولية التي يبنيها ولي العهد السعودي لتأمين مدخل خليج العقبة لصالح الملاحة الإسرائيلية.
مشروع نيوم هو عبارة عن مستوطنة للأجانب من الألف إلى الياء، وهو إحياء لمستوطنة “مدين” شرق خليج العقبة التي حاول تأسيسها اليهودي بول فريدمان عام 1891بموافقة الاحتلال الإنجليزي واختارها لكي تكون وطنا قوميا لليهود كبديل من البدائل التي طرحت حينها قبل الاستقرار في فلسطين، ولهذا قام السلطان عبد الحميد بضم المنطقة للحجاز واقتطعها من ممتلكات مصر.
هذه المستوطنة عبارة عن منطقة دولية مغلقة لا تنطبق عليها قوانين المملكة، ولها قانون خاص، وإدارة أجنبية مستقلة، مخصصة للسائحين والمستثمرين الأجانب بمن فيهم اليهود ولن يسكنها الشعب السعودي، فالمرخص لهم بالوجود فيها ثلاثة أصناف ” مستثمر وسائح وعامل في أحد المشاريع” كما يقول الأمير محمد بن سلمان، وما ينطبق على “نيوم” في الجانب السعودي ينطبق علي أرض المشروع في جنوب سيناء، أي لن يدخلها المصريون أيضا.
إن إخراج مصر من مضيق تيران بالمال السعودي يضع نهاية مأساوية للصراع العربي الإسرائيلي في خليج العقبة، ويعد هزيمة استراتيجية لمصر لا يمكن تعويضها، وانتكاسة للدولة المصرية التي خاضت الحروب لمنع الاحتلال الصهيوني من الوجود في مياه العقبة، ابتداء من حرب فلسطين وحروب 1956 و1967 وقدمت الكثير من الشهداء.
حتى مارس/آذار 1949 لم يكن للصهاينة وجود على خليج العقبة، إلى أن خرقوا الهدنة بدعم بريطاني واحتلوا أم الرشراش، وهي أرض مصرية وأطلقوا عليها ميناء إيلات. لقد كانت المعركة الأساسية للجيش المصري في 1948 في صحراء النقب جنوب فلسطين لمنع اليهود من الوصول إلى مياه العقبة ولكن كانت النهاية المعروفة.
إن مصر التي يتم طردها الآن من مضيق تيران خاضت الحروب لمنع مرور السفن الإسرائيلية من المضيق، وتمتليء مضابط الجامعة العربية ووثائق مجلس الأمن بالوقائع التي تناقش إغلاق مصر للمضيق واستخدام المدفعية لمنع السفن الإسرائيلية والأجنبية من دخول خليج العقبة.
إغلاق مضيق تيران في وجه الإسرائيليين كان نهج الحكومات المصرية قبل 1952 وبعدها لحصار الاحتلال الإسرائيلي، ومن أهم ما قامت به الحكومة المصرية في يوليو/تموز 1948 أنها أسست مجلسا للغنائم للنظر في أمر السفن التي يتم مصادرتها لاتهامها بالتوجه إلى الاحتلال الصهيوني، وكان مجلس الغنائم يحقق مع قادة السفن الأجنبية المقبوض عليها ومصادرتها، ولم ينظر المجلس في أمر السفن الإسرائيلية التي كانت تصادر بدون عرضها على المجلس.
في عام 1950 توسعت حكومة الوفد في استهداف السفن حتى تلك التي كانت تحمل السلع الغذائية، وتم وضع بطاريات المدافع المصرية في شرم الشيخ لإحكام غلق مضيق تيران.
من الوقائع المشهورة التي دارت حولها المناقشات في مجلس الأمن ضرب السفينة البريطانية “إمباير روش” أثناء مرورها في مضيق تيران في يوليو 1951 لرفضها الوقوف، حيث أطلقت عليها سفينة حربية مصرية النيران واحتجزتها.
لقد استمر إغلاق مضيق تيران بعد نهاية الملكية، وفي جلسة شهيرة بمجلس الأمن في فبراير 1954 – انظر ملف وثائق فلسطين – قدم المندوب الإسرائيلي شكوى ضد مصر بسبب إغلاق المضيق وذكر بعض الوقائع، منها مصادرة سفينة نرويجية في أكتوبر 1952، واعتقال ثانية دنماركية في يناير 1953 وثالثة في مارس 1953، وإطلاق النار على سفينة أمريكية أثناء دخولها خليج العقبة في ديسمبر 1953، وصادرت مصر شحنة لحوم كانت محملة على سفينة إيطالية في ديسمبر 1953، وفي يناير 1954 أطلقت مصر نيران مدافعها على سفينة إيطالية دخلت مضيق تيران في طريقها إلى إيلات.
وبسبب مضيق تيران انضمت “إسرائيل” إلى إنجلترا وفرنسا في العدوان الثلاثي عام 1956، وبعد انتهاء الحرب ووضعت ترتيبات دولية لضمان مرور السفن الإسرائيلية في تيران، وتم إبعاد الجيش المصري عن شرم الشيخ، واستمر مرور الإسرائيليين في حماية قوات الطواريء الدولية إلى أن قرر عبد الحكيم عامر وجمال عبد الناصر طرد القوات الدولية من شرم الشيخ وإعادة القوات المصرية إلى المضيق فكانت حرب 1967 والعدوان الإسرائيلي وظل المضيق تحت السيطرة الإسرائيلية حتى اتفاقية كامب ديفيد.
عمل الإسرائيليون منذ كامب ديفيد على طرد الجيش المصري من مضيق تيران، فتم تقسيم سيناء إلى 3 مناطق “أ” و “ب” و “ج”، وقضت الاتفاقية بأن تكون المنطقة “ج” التي تضم خليج العقبة وحتى شرم الشيخ خالية من أي وجود عسكري لمصر، أى منزوعة السيادة، وكان الإسرائيليون يدخلون إليها بدون تأشيرة وينظمون الرحلات إليها بدون تدخل من السلطات المصرية.
لم يكتف الصهاينة بمنع الوجود العسكري للمصريين، بل عملوا على منع الوجود المدني أيضا، فسعوا لمنع الدولة المصرية من ممارسة حقها في تعمير المنطقة وبناء المدن لوقف تدفق السكان، وقاموا بأغرب حيلة لم نرها في أي مكان في العالم وهي تحويل معظم أراضي الضفة الغربية لخليج العقبة إلى محميات طبيعية.
لقد تم تحويل المثلث الجنوبي لسيناء إلى محميات طبيعية من خلال المتعاونين مع الكيان الصهيوني داخل دوائر السلطة المصرية، وتم تمرير الخطة الصهيونية بقرارات رسمية من مجلس الوزراء المصري.
عقب الانسحاب الإسرائيلي من سيناء تم الإعلان عام 1983 عن تحويل منطقة رأس محمد وجزيرتى تيران وصنافير إلى محمية طبيعية وتأكيده بقرار آخر عام 1996، ومساحة رأس محمد 480 كم2، منها 135 كم2 فى اليابس و 345 كم2 فى الماء وتبلغ مساحة جزيرتى تيران وصنافير حوالى 113 كم2.
ما حدث مع محمية سانت كاترين يكشف حالة التآمر الدولي وتورط الحكومة المصرية في الجريمة إذ صدر عام 1988 قرار مجلس الوزراء باعتبار معظم المثلث الجنوبي وليس فقط دير سانت كاترين، بمساحة 4300 كم2 محمية طبيعية، وتم تفعيل القرار بآخر عام 1996، ولفرض حماية دولية قررت منظمة اليونسكو في عام 2002 اعتبار المحمية من تراث الإنسانية!
وصدر قرار بمحمية أبو جالوم من مجلس الوزراء عام 1992 والمعدل بقرار ثان عام 1996 وتقع على الطريق بين شرم الشيخ وطابا بمنطقة تسمي وادي الرساسة بمساحة 500 كم2، منها 350 كم2 في اليابس و 150 كم2 في الماء.
صدر قرار بتحويل نبق إلى محمية عام 1992، فى المنطقة ما بين شرم الشيخ ودهب ووادى أم عدوى، وتبعد 35 كم شمال شرم الشيخ، ومساحتها 600كم2، منها 440 كم2 في اليابس و 130 كم2 في الماء.
وما حدث في طابا يكشف لعبة المحميات بوضوح؛ ففي عام 1998 صدر قرار مجلس الوزراء بتحويل مساحة3600 كم مربع إلى محمية رغم عدم وجود مناطق أثرية أو تاريخية تستحق، غير القلعة التي بناها صلاح الدين أواخر القرن الثاني عشر الميلادي لحماية طريق الحج القديم والتصدي للصليبيين، والتي تقع على بعد 8 كم جنوب المدينة الصغيرة في جزيرة فرعون.
بالإضافة للخسائر الاستراتيجية الكبيرة لنزع مضيق تيران من السيادة المصرية، فإن إبعاد مصر ينهي عقودا من الصراع على الممر الملاحي لصالح الكيان الصهيوني، ويزيل التهديد المصري لحركة الملاحة في خليج العقبة ويفتح الطريق لإحياء ميناء إيلات، والبدء في تحويل حركة النقل البحري من قناة السويس إلى إيلات وهناك خطط إسرائيلية تنتظر هذه اللحظة لتنفيذها، أهمها مشروعان: أولهما خط السكة الحديد من إيلات وحتى أشدود الذي ينقل الأوعية المعدنية (حاويات الشحن) التي تحملها السفن إلى البحر المتوسط، وهو الأقل تكلفة والأقرب للإنجاز، والمشروع الثاني متعلق بشق قناة مائية من إيلات إلى حيفا أو تل أبيب، تستوعب السفن الكبيرة التي لا يمكنها المرور من قناة السويس.
أمة العرب أمام كارثة مهينة، وهزيمة استراتيجية بعد صراع امتد لنحو سبعة عقود، وها هي مصر تخرج من مضيق تيران وتتنازل عن أراضيها قطعة قطعة، وتترك لعدوها الخليج والبحر الأحمر، لكن الجديد هو الدور السعودي الذي تحول إلى سمسار مستعار، يقوم بدور المحلل، لأداء مهام غير شريفة في صفقات حرام، ضد ثوابت الدين والتاريخ والجغرافيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق