"جداً.. جداً"..
المقال الذي كتبه الدكتور مصطفى محمود (رحمه الله) عام 1981
المقال
"إن أسوأ ورطة نقع فيها هى أن يستحوذ علينا أى شىء جداً جداً.
حتى الفرح حينما يستحوذ علينا جداً جداً.. فإنه يهزنا بما يشبه الحزن.. إننا من فرط خوفنا على هذا الفرح.. ومن فرط لهفتنا على أن يطول.. ومن فرط ذعرنا من أن ينتهى.. نفرح بحزن.. نفرح بخوف.. نفرح والدموع تترقرق فى أعيننا..
إن فرحنا جداً جداً.. فرح أليم.. فرح يرتجف.. فرح يبكى..
والحب جداً جدا.. هو حب مُر غَيور ملتهب أعمى يبهظ صاحبه لدرجة أنه ينقلب إلى كراهية و عداوة..
المُحِب جداً جدا.. يكره حبيبته من فرط حبه لها.. لأن حبه يكلفه ويرهقه ويبهظه ويؤرقه.. فهو يتمنى لو أنها تعذبت وتألمت وسهرت وتشردت مثله..
يتمنى لو أنها كانت على شفا الموت ونادته.. لو أنها كانت تحترق ومدت له يديها لينقذها.. لو أنها كانت تعبده حباً وهو يتمنع عليها.. لو أنها كانت تخلص له وهو يخونها..
إن عذابه يجعل مخيلته تموج بصور العداوة.. والانتقام.. والتشفي..
إن الحب جداً جداً.. حب طعمه مالح حرّيف لاسع.. إن فيه نفوراً وبغضاً بقدر ما فيه من حب.. إنه لعنة..
و الثراء جداً جداً .. هو فقر مدقع فى نفس الوقت.. فقر فى الحواس..
حواس الغَنيّ جداً جداً.. المترف جداً.. الشبعان.. المتخم.. الدفيان.. تتبلد وتكسل أشواقه.. ولهفاته تكسل..
ولماذا يشتاق.. ولماذا يتلهف.. وكل شىء بين يديه..
والجوع جداً يقتل حتى الإحساس بالجوع.. وينتهي بموت الحواس.. وبشبع الفناء وقناعة الجدث الهامد..
و الفقر جداً.. يؤدى إلى الاستهتار والاسراف والاستهانة بالرزق من فرط قلته.. وكما يقول المثل: ضربوا الأعمى على عينه.. قال خسرانة.. خسرانة.. وعلى إيه حانحوش .. اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب..
و الشيخوخة جداً تؤدى إلى انحلال العقل.. والعودة بالتفكير إلى سذاجة الطفولة.. وهذيانها..
و الضعف جداً.. يؤدى الى جبروت الشخصية وقسوتها.. وأصحاب العاهات جبابرة.. و القصار جداً بهلونات سيرك..
وأدنياء الأصل طمحون طلابون للعلا..
وأبناء الوجهاء عواطلية..
والاستهتار بشدة يؤدى إلى التوبة.. والرهبنة..
والاغراق فى اللذة يؤدى إلى النفور من اللذة.. والارتداد إلى الدين والصومعة..
و الاستقامة بشدة تؤدى إلى الضيق بالاستقامة..
فكل شىء يزيد على حده ينقلب إلى ضده..
وجداً جداً.. هى الجرس الذى يدق؛ لتنقلب الصفات على رأسها.. البركات تصبح لعنات.. والسيئات تصبح حسنات..
السعادة ليست فى أن يكون عندك الكثير جداً..
و إنما السعادة فى أن تحب الدنيا والناس.. وأن تواتيك الفرصة لتأخذ بنصيب قليل من خيراتها..
إن القليل الذى تحبه يسعدك أكثر من الكثير الذى لا تحبه.
و القليل يحرك الشهية.. بينما الكثير يميتها.. وبلا شهية لا وجود للسعادة..
و القليل يحفز على العمل.. وفى العمل ينسى الانسان نفسه.. وينسى بحثه عن السعادة وهذا فى الواقع منتهى السعادة..
و العمل تشحيم ضرورى للعقل والقلب والمفاصل.. وبدون العمل تصدأ المفاصل ويتعفن القلب وينطفىء العقل .. وينخر سوس الفراغ والبطالة فى المخ.. فتبدأ سلسلة من الأوجاع يعرفها أفراد الطبقة "الراقية".. ويعرفها أطباء الطبقة الراقية..
ولذلك، أعتقد أن أسعد الطبقات هى الطبقة المتوسطة.. لأنها الطبقة التى تملك القليل من كل شىء، فهى ليست معدمة مفلسة كالطبقة الدنيا، و ليست متخمة كالطبقة الراقية..
ولهذا فهى الطبقة التى تملك الدوافع.. والآمال.. والمطامع والمُثل العليا.. والأخلاق.. والامكانيات..
وهى لهذا.. الطبقة التى يخرج منها العلماء والفنانون والعباقرة والزعماء والأنبياء..
ومن فضائل الوسطية أنها تضغط الطبقات وتذيبها فى عجينة متوسطة خصبة.. وتشغل جميع الأيدى بالعمل..
إن المليون جنيه شِتْمَه..
والذى يقول لى.. إلهى يرزقك بمليون جنيه.. كمن يقول لى.. إلهى يرزقك بكارثة..
وتعالوا نفكر معا..
لو أنى وضعت المليون جنيه فى بنك لكنت بهذا أرتكب جريمة بتجميد هذه الإمكانية المادية فى رصيد باسمى..
و لو أنى أنفقته على نفسي لكنت بهذا أرتكب جريمة أبشع؛ لأن إنفاق مليون جنيه على نفسى معناه أن أتوقف عن كل عمل منتج.. وأتحول إلى مستهلك ينفق فقط.. وهذا معناه شلل كامل فى قواي الإنتاجية..
و لو أنى انتفعت بالمليون جنيه كرأسمال تجاري، فسيكون معناه استغلال ألف عامل.. وملايين المستهلكين المساكين.. أتاجر بهم.. وأتاجر عليهم.. و أبتز أموالهم لمجرد أنهم لا يملكون إلا بضاعتي.. بينما أنا أملك كل الخامات التى يحتاجون إليها..
إن المليون جنيه فى يد واحدة هى فى الواقع إمكانية ظلم لا نهائية لآلاف الأيدى التى لا تملك.. وإمكانية ظلم حقيقية لصاحبها؛ لأنها تضعه فى قائمة الذين يملكون كثيرا جداً جداً.. و يخسرون من أرواحهم بقدر ما يكسبون لأرصدتهم..
و لهذا فأنا أشعر بالسعادة.. لأنى رجل متوسط.. إيرادى متوسط.. وصحتى متوسطة.. وعيشتى متوسطة..
وعندى القليل من كل شىء.. وهذا معناه أن عندى الكثير من الدوافع..
والدوافع هى الحياة..
إنها الرصيد الذهبي لكل المكاسب الورق..
إنها المتجمد فى خزينة كل إنسان..
إنها المتجمد الذى نفك منه كل يوم الرغبات التى نعيش بها..
ونحن نعود فنفك هذه الرغبات إلى خبطات مادية.. وفرص نكسبها و نخسرها..
وهذه الخبطات هى العملة الورق..
أما الرصيد الحقيقى فهو الدوافع.
الدوافع فى قلوبنا هى حرارة حياتنا الحقيقية.. وهى الرصيد الذى يكون به تقييم سعادتنا..
لا تسألني.. هل عندك صحة؟ هل عندك ثروة؟ هل عندك شهادة؟ هلى عندك فرصة؟ هل عندك أملاك؟
اسألنى سؤالا واحدا:
هل عندك دوافع؟
فهذا أنا.. وهذه حقيقيتى التى بها تعرف حاضرى ومستقبلى ومصيرى وقيمتى ووزنى..
وكل منا يوزن بقدر دوافعه و إرادته.. وعزمه .. وإصراره.. و قواه الحافزة..
إن الذى يملك وفرة من الدوافع مثل الماكينة قوة مائة حصان.. أو العربة ستة سلندر، أو الراديو عشرة لمبة، أو التيار الكهربائى 200 فولت..
أما الذى يفتقر إلى الدوافع.. ويمتلك كثرة من وسائل الترف ووفرة من الصحة والعمر فهو حتى ولو كان مليونيرا لا يزيد عن ماكينة ضعيفة قوتها الدافعة 2 حصان، أو عربة صغيرة 2 سلندر، أو راديو ترانزستور، أو تيار بطارية واحد ونصف فولت..
الدوافع هى الترجمة الحرفية لكلمة روح..
عندك دوافع معناها عندك روح.. معناها عندك أمل.. طموح.. حب.. شغف.. شهية.. رغبة.. كل وسائل السعادة..
إنى أدعو الله لقارىء هذه السطور أن يمنحه حياة متوسطة .... ويعطيه القليل من كل شىء.. وهى دعوة طيبة والله العظيم.. دعوة نصوحا.. مخلصة لوجه الخير و الحب..
أدعو الله أن يقيه شر المليون جنيه.. وأن يحفظه من ملكية العمارات الشاهقة.. والأبعديات العريضة..
أمي لم تكن تفهم الفلسفة.. ولكنها كانت تملك فطرة نقية تفهم معها كل هذا الكلام دون أن تقرأه.. وكانت تطلق عليه اسما بسيطا فصيحا معبرا هو "الستر"..
والستر معناه فى القاموس الشعبي.. القليل من كل شيء والكثير من الروح..
وأنا بعد ثلاثين سنة من التفلسف وقراءة المعاجم والمراجع و المصطلحات.. لم أجد أفصح من هذه الكلمة البسيطة.. الستر..
ولهذا فأنا أطلبه لك كما كانت أمي تطلبه لي.. و أعتبر أنى بهذا أكون قد طلبت لك كل شىء..
ملحوظة :
أنا متأكد أنك بعد قراءة هذه الكلمات سوف تمصمص شفتيك و تقول: و إيه يعني.. ما هو مفهوم الكلام ده..
ومع هذا فإنك فى أول فرصة تقع فيها على كاديلاك 81 فى الشارع سوف تصرخ بلهفة وعيناك تخرجان من رأسك..
يا سلام لو الواحد عنده عربية زى دى.. يا سلام يا ولاد.. يا سلام على كاديلاك وعمارة ومليون جنية يا خواتى.. و بحرقة أكثر من حرقة مطربي هذه الأيام سوف تكتشف أن كلامي العادي المفهوم لم يكن مفهوما.. و أنك لم تكن فى أى يوم فاهما لنفسك.
وأن حكاية الفهم حكاية طويلة ومتعبة.. جداً جداً..
مقال "جداً.. جداً"
كتاب/ في الحب و الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق