أهمية معرفة العقائد والأفكار
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه العظيم، وسنته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظهما وحفظ على هذه الأمة دينها، وهذا من أعظم النعم على هذه الأمة كما لا يخفى؛ ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الفضل والرحمة دين الإسلام، وكتابه العظيم، وهذه المنة التي ينبغي لكل عبد أن يؤدي شكرها للخالق سبحانه وتعالى أن حفظ عليه دينه وعقيدته، فيكون على بينة وبصيرة، فلا تجتاله الأهواء يمنة ويسرة، ولا الدعوات المضللة؛ فإن الإنسان إذا عرف طريقه لم يلتفت إلى أي دعوة عن يمينه وشماله.
ونحن في هذا المجلس نتكلم عن العلوية النصيرية من جهة العقائد والنشأة، وكذلك عن شيء من أهدافها.
والكلام على العقائد والأفكار من الأمور المهمة لكي يعرف الإنسان طريق الخير من طريق الشر، وذلك من الأمور المهمة والمقاصد السامية التي جاء فيها الدليل في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان أقوى ما يكون من جهة الحجة، وأقوى ما يكون من جهة البينة أن يعرف طريق الخير، وأن يعرف كذلك طريق الشر، وكلما كان الإنسان بصيراً بالطريقين كان من أهل التوفيق والتسديد والإعانة، وإذا جهل الإنسان أحد الطريقين فإنه تقل عنده الثقة بسلوكه لهذا الطريق، فربما تردد أو ضعف إيمانه عند شيء من الفتن يلتمس فيها الحق بالباطل.
أهمية معرفة طرق الشر
وأعظم الناس مرتبة الذين يوغلون بمعرفة الحق, ومعرفة طرق الشر التي تقترن بتلك الطرق التي يسلكونها فيهم زمناً من غير إسراف أو غلو، وهذا من الأمور المهمة التي إذا عرفها الإنسان حمى عقيدته، وكذلك حمى فكره؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يسلك طريقاً ممتداً من مكة إلى المدينة، وكان على معرفة بهذا الطريق ومعرفة أيضاً بالطرق التي عن يمينه وعن شماله، فإنه لا يمكن لأحد أن يعكر صفوه إن ضلله فقال له: إن ثمة طريقاً عن يمين وشمال هو أهدى، فإنه إذا عرف الصراط المستقيم والطريق الذي يوصل إلى الحق وإلى الغاية التي يريدها, وعرف الطرق المؤدية إلى خلاف مقصوده فإنه لا يمكن لأحد أن يضلله، ولكن إذا عرف الغاية وجاء أحد من الناس وأراد أن يبين له طريقاً آخر يوصله إلى الحقيقة التي ينشدها ولو بطريق أقرب، فإنه لا ينطلي عليه إلا إذا كان من أهل الجهالة بطرق المخالفين؛ ولهذا كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل العناية بهذا الباب، كما جاء عن حذيفة عليه رضوان الله تعالى كما في الصحيحين وغيرهما أنه قال: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ).
إن معرفة الإنسان بطريق الخير وطرق الشر يعطيه ثباتاً، فإنه لا يمكن لأحد أن يأتيه بشيء قد غاب عنه، فإذا عرف ذلك الطريق الذي يسلكه والطريق المخالف أيضاً له إن دعي إليه كان على بينة وبصيرة أكثر ممن يدعوه إليه، ونحن في هذا الزمن قد كثرت الدعوات المناوئة للإسلام، والمناهضة له، التي تدعو إلى مخالفة دين الله سبحانه وتعالى، وتدعو إلى شيء مما يوافق الحق تارة، ويخالفه تارة أخرى، فنحن أحوج ما نكون إلى بيان تلك الحقائق بالنسبة لطريق الحق، وبالنسبة للطرق المخالفة على شتى أنواع المخالفة بحسب الاقتران، وبحسب الزمن، وبحسب الساعة التي يعيشها الناس، وأفضل ما يكون الإنسان بصيرة ودراية ومعرفة أن يصاحب الإنسان زمنه من جهة إدراك الأفكار والعقائد المحيطة به؛ حتى يضمن الإنسان حياته؛ فإن حياة الإنسان ليس بأن يدرس أشياء قد اندثرت لا يكلف بمعرفتها، وإنما أن يعلم الإنسان أن حياته هي التي يكلف فيها منذ جريان القلم عليه إلى أن يأخذ الله جل وعلا روحه ويختاره إليه.
مقدمة في الحديث عن الأفكار والعقائد
تنوع الأفكار والعقائد
من الأمور المهمة التي ينبغي الكلام عليها قبل الولوج في محاضرة هذا اليوم: أن نعلم أن العقائد والأفكار متنوعة، منها ما هو ظاهر البطلان، ومنها ما بطلانه مشرب ببعض الحقيقة، ولكنه يبدو بشيء من اللباس الذي لا يظهر فيه التزييف، وكذلك التزوير، فيظهر في ظاهره بأن صورته الحق.
الباطن والظاهر في عقائد وأفكار الفرق والطوائف
ومن هذه الحقائق أيضاً: الفرق والطوائف، وكذلك الأفكار والعقائد، فمنها ما لها ظاهر وباطن، ومنها ما لها باطن لا يمكن أن يصل الإنسان إلى باطنها، ولا يعرف إلا ظاهرها؛ ولهذا نعلم أن إدراك الإنسان لهذه الطوائف فيه من المشقة والكلفة ما لا يتيسر له ولو كان في طائفة هي أشد إيغالاً في الباطل، أو تشعباً وكثرة أتباع، وكذلك مصنفات، فإنه لا يعرف ذلك إلا بمعرفة ما هو مدون، يعني: ما هو مدون في مصنفات تلك الفرق، ولهم مصنفات، ولهم أتباع يجهرون بدعوتهم؛ لهذا أعقد الفرق على الإطلاق المنتسبة للإسلام أو غير المنتسبة للإسلام هي فرق الباطنية التي تبدي شيئاً وتخفي شيئاً آخر، وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف الحق على سبيل الحقيقة والبيان الذي هم عليه، ومعلوم أن الشريعة قد خاطبت الناس بالأخذ بالظواهر، وعدم الرجوع وتحكيم الناس إلى ما في قلوبهم؛ فإن القلوب لا يعلمها إلا الله؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )، والمراد بهذا: أن هذه النظرة نظرة خاصة بالرب سبحانه وتعالى لا تتعلق بأمر البشر، وأما بالنسبة للبشر فما عليهم إلا الظواهر؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الناس بظواهرهم, وأما البواطن فأحالها إلى الله ولا يطلع عليها أحد إلا من خصه الله جل وعلا بشيء من الإدراك من معرفة الغيب.
ولهذا جاء في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر من عنده رجل، فقال: ( ما تقولون في هذا؟ فقال: هذا يوشك أن إذا غاب أن يسأل عنه، وإذا خطب أن يزوج، وإذا سأل أن يعطى، فلما جاء رجل آخر فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في هذا؟ فقال: هذا يوشك إذا غاب ألا يسأل عنه، وإذا خطب ألا يزوج، وإذا سأل ألا يعطى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من هذا )، والمراد بذلك أن أمر البواطن لا يدركه كثير من الناس، وإنما يحكمهم ما يرونه من حال الإنسان في ظاهر أمره، والظواهر من الأمور المشكلة لدى كثير من الناس، وذلك أن حكمها بحسب اقتران الإنسان ببصره الذي يشاهده؛ فإن الإنسان قد يطلع على شخص ساعة، أو يطلع عليه عشراً، فتتباين المعرفة بحسب الاطلاع؛ ولهذا تتناقض أحوال الناس بالتحكيم على ظواهر الناس بحسب ما يرون، فهذا يزكى، وهذا يذم، والذات واحدة، وذلك أن الإنسان قد عرف عنه ما لم يعرفه غيره.
وأما بالنسبة للبواطن فإن حكمها واحد؛ ولهذا كانت بالنسبة لله جل وعلا هي الحكم، فالإنسان يتصنع بظاهره ولا يتصنع بباطنه على الإطلاق، وهو يوزن بباطنه كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )، يعني: أن العبرة بعمل القلب لا بعمل الجوارح، وما يلفظه الإنسان من أقوال، فهي ليست عند الله حكماً مجرداً حتى تقترن بشيء من عمل الباطن.
وأعمال الباطن من الأمور التي يكثر الكلام حولها عند أهل السنة والجماعة، وكذلك عند كثير من الطوائف المنتسبة للإسلام وعند غيرهم، وهي من الأمور التي يتشعب فيها الناس والكتاب حتى يصل في ذلك إلى درجة الوسوسة في الحديث عن خواطر القلب، وكذلك أيضاً طرائق الهوى فيه، والنفس والعقل، والتلازم بينهما، وهذا مما لا يمكن للإنسان أن يحيط به؛ لهذا عليه أن يرجع الإنسان في ذلك إلى نصوص الشريعة كتاباً وسنة؛ ولهذا تحير أهل الكتاب بمعرفة الروح، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يسألوا عن هذا الشيء الكامن الغائب في جوف الإنسان، فسألوه عن الروح، فقال الله جل وعلا: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وهذا الأمر فيه إشارة إلى أن الإنسان ينبغي أن يكل الباطن إلى الله، لا يكله إلى أحد من خلقه؛ لهذا ينبغي أن نعلم أن الطوائف المنتسبة للإسلام حكم العلماء عليها هو حكم على ظاهرها لا حكم على باطنها؛ لهذا تتباين نظرات الناس إليها، وكذلك الحكم في أفعالهم بحسب ما يظهر منها، وأشد هذه الطوائف الباطنية التي تحكم حالها إلى ظاهرها، وباطنها مجهول عند كثير من الناس، أو عند أكثرهم هي الطائفة النصيرية العلوية ويقترن بذلك جملة من الطوائف الباطنية المنتسبة إلى طوائف الرفض، وهي أنواع كثر، وهذا مما يطول الخوض فيه في طوائف الباطن، ولكن كان المهم أن نخوض فيه؛ لأن الباطل هو ضد النشر، وضد بيان الحق، وهذا الأمر إذا كان الإنسان يكتم عقيدته، ويكتم فكره الذي انطوى عليه، ولا يصدر منه قول ولا فعل صعب على الإنسان أن يصل إليه؛ لأن الإنسان حكمه في ذلك حسب عمل الجوارح، وكذلك قول اللسان، وأما البواطن فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى.
الظاهر والباطن في الشريعة الإسلامية
إن دين الإسلام من جهة الأصل دين ظاهر؛ ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم محجة بيضاء، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة على خير ما بلغ العلماء الدين، وإذا كتموا الدين فإن الدين حينئذٍ سيضمحل، والعلماء وكذلك الأمة إذا لم يكن فيها متصدرون يبينون الحق، فإن الحق حينئذٍ سيضمحل وينزوي حتى يبقى في الكتمان، حتى يتلاشى من أفعال الناس، وربما من أقوالهم؛ لهذا جاءت الشريعة بحماية الإسلام ظاهراً وباطناً وأمرت بإظهاره، وأن كتمانه نوع من النفاق، فهي تقابل قول الباطنية: إن الشريعة جاءت بإظهار العمل، وذلك لأمور متعددة منها: أن الإيمان لا يمكن أن ينغرس في قلب الإنسان إلا باقتران الباطن بالظاهر، وذلك أقوى، فإنه إذا انفصل الباطن عن الظاهر بقي القلب بعيداً عن العمل الذي يؤكده ويذكره بإيمانه شيئاً فشيئاً حتى لا ينصرف عنها بعمل من الدنيا، أو شيء من العوارض التي تطرأ عليه من وساوس الشيطان أو أعمال الدنيا وملهياتها؛ فإنه إذا كان كذلك قوي إيمانه، وإذا كتم الحق الذي يعلمه وانفصل ظاهره عن باطنه، فإن ذلك يضمحل، وربما كان من أجهل الناس؛ لهذا جاءت الشريعة بمحاربة أمر الباطل المجرد، وأمرت بالعلانية على وجه الحقيقة، وأن الانفصال في ذلك هو علامة نفاق، ولشدة محاربة الإسلام لذلك جعلت خصوم الإسلام على نوعين: كفار مردة، وجعلت المنافقين دونهم؛ ولهذا المنافقون في الدرك الأسفل من النار، وفي هذا نعلم أن الشريعة قد جاءت مخالفة للتيارات الباطنية بالعلانية، وهذا من جهة تقوية الإيمان.
مقارنة العقائد بعضها ببعض
الأمر الآخر: أن الإنسان إذا لم يجهر بما في عقيدته بباطنه فإن هذا علامة ضعف؛ ولهذا نعلم أن العقائد والأفكار لا يمكن أن تصح لدى الإنسان إلا باقترانها بغيرها؛ فإن الإنسان لا يعرف طوله إلا إذا اقترن بغيره من الناس، فيعرف هذا قصير وهذا طويل، كذلك لا يعرف الإنسان من جهة جماله وحسنه وبياضه إلا باقترانه بغيره، وهذا أمر معلوم، وهذا أمر قدري جعله الله جل وعلا كذلك في الأمور المحسوسة؛ فإن الأشياء إذا اقترنت ببعضها تمايزت عن غيرها حسناً وكمالاً، ونضارة وغير ذلك؛ لهذا دعا الإسلام إلى إظهار كل ما فيه من عقيدة وأفكار وأعمال أن تظهر على جوارح الإنسان؛ لهذا كان الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً، وكله من إيمان الإنسان لا بد أن يقترن معه، فإذا تجرد إيمانه من هذه الثلاث لم يكن من أهل الإيمان باتفاق أهل السنة والجماعة، وهذا أمر معلوم.
كذلك فإن إظهار العقائد التي يعتقدها الإنسان بالقول والفعل فيه إشارة إلى أن من أراد أن يقارن الحق الذي نحن عليه بغيره فليأت فليقارن؛ فإن هذا فيه إشارة ومراجعة للإنسان الذي يرى ذلك الأمر؛ فإنه إذا رأى أن غيره أحسن منه دعاه ذلك إلى قبول الحق، وهذا أمر كما أنه في العقائد والأفكار، كذلك أيضاً في الماديات؛ فإن الماديات لا تفهم من جهة جوهرها إلا بضربها ببعض، وهذا أمر معلوم، فالإنسان إذا أراد أن يختبر جرمين من جهة الأقوى سواء كان من الحجارة أو الزجاج أو نحو ذلك ضربهما ببعضهما فامتاز الأقوى وثبت، وانكسر الأضعف، وهذا أمر معلوم.
إذاً: فالمخالطة والنقد وضرب الأفكار وإظهار اقترانها ببعض مدعاة لمعرفة الحق من الصواب، وكذلك أيضاً فإن العقائد إذا لم تظهر على الجوارح لم تنتشر، والعقائد الباطنية تبقى في الزوايا، وتضمحل شيئاً فشيئاً إن لم تتلاش فتبقى عقائد فردية يفعلها الناس في الظلام؛ لهذا كان دين الإسلام يدعو إلى تبليغ الحق للناس، ودعوتهم أياً كانوا سواء كانوا من دائرة الإسلام الذين يتبعونه من أهل الحق والمعرفة الذين خرجوا عن الإسلام بشيء من المفسقات من المعاصي ونحو ذلك، أو كانوا من الكفار على شتى درجاتهم سواء كانوا من أهل الشرائع السماوية المبدلة كاليهود والنصارى، أو كانوا من الملاحدة وغير ذلك من الوثنيين وغيرهم، أو من الصابئة والمجوس وغير ذلك.
فالإسلام ينبغي أن يصل إليهم؛ ولهذا خاطب الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بإخراج ما لديه وعدم حبسه، ولو كان آية، يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].
يقول عبد الله بن عباس كما روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير من حديث علي بن أبي طلحة أن عبد الله بن عباس قال في قول الله جل وعلا: (( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ )) قال: بلغ ما أنزل إليك من ربك ولو كتمت آية فما بلغت رسالته، وهذا يظهر أيضاً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن جماعة من الصحابة قال عليه الصلاة والسلام: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، يعني: أنه ينبغي للإنسان أن يبلغ الحق الذي لديه إلى من طلبه أو لم يطلبه؛ لهذا قال الله جل وعلا مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6].
لهذا يجب على الإنسان أن يبلغ الحق لمن طلبه أياً كان؛ لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعقد المجالس للعلم والتذكير، وكان أئمة الإسلام من الصحابة يدعون إلى ذلك لبيان الحق أنه لا يوجد لدينا عقيدة خافية في هذا الأمر؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ، وكان في ذلك أتباعه، وقد روى البخاري في كتابه الصحيح عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أبي بكر بن حزم فقال: إني خشيت دروس العلم، فاكتبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن العلم لا يذهب حتى يكون سراً.
العلم والعقائد إذا كانت سراً لا تظهر فإنها تذهب شيئاً فشيئاً، وهذا ما لا يمكن للإنسان أن يدركه.
هذه المقدمة من الأمور المهمة التي ينبغي للإنسان أن يدركها قبل ولوجنا فيما يسمى بالعقيدة النصيرية، وبيان الطرق والمذاهب التي هي عليها، وقبل الولوج أيضاً فيها يحسن أن نتكلم على شيء من تفاصيل العقائد، وكذلك الأتباع للحق الذي يدعون إليه.
إن أتباع الحق يتباينون: فمنهم من يعرف الحق على سبيل التمام والكمال، ومردهم في ذلك إلى دساتيرهم وقوانينهم التي يعتمدون عليها فهي الحكم، وأما تفسيرات الناس وأهواء الناس فإنهم يتباينون في هذا الأمر فضلاً عن الفسقة، والذين يخالفون أمر الله جل وعلا، فإذا أتيت إلى الإسلام تجد أن ثمة أناساً يخالفون أمر الله سبحانه وتعالى في كثير من أوامره كتاباً وسنة وهم ينتسبون إلى الإسلام، من جهة المخالفة في الظاهر كموافقة أهل البدع، وموافقة أهل الفسق، ربما مشابهة اليهود والنصارى ونحو ذلك، هذا لا يخرجهم في كل الأحوال من إطار الإسلام، فهم يعدون من أهل الإسلام، وهذا ما يشكل عند كثير من المخالفين الذين يخرجون عن دائرة الإسلام الكبرى في تفسير كثير من تصرفات أتباع تلك المذاهب في أي هذه الأفعال تنتسب للإسلام، فيقع لديهم إشكال؛ ولهذا يجد المحققون في تفسير العقائد والأفكار والمذاهب إشكالاً كبيراً في إفحام العامة أو الناس البعيدين عن فهم عقائد تلك الأفكار وأصولها، وكذلك أيضاً ما يقولون في مصنفاتهم، وكذلك أيضاً ما يقوله علماؤهم، وكذلك أيضاً ما في دساتيرهم وقوانينهم وآثارهم فضلاً عما يدينون به، ويكون هذا من الأصول الكلية التي يعتقدها الجميع.
إن من الأمور المهمة: أن يتأصل لدينا أن العقائد الباطنية التي ينفصل ظاهرها عن باطنها هذه من العقائد المشكلة من جهة بيانها للناس، وأما من جهة أهل التحقيق فإنها من الأمور الظاهرة البينة.
نشأة الفرق الباطنية
فرق الباطنية نشأت في الإسلام في عقائد أهل الرفض الذين جعلوا الإمامة في الأئمة الاثني عشر, وهم من نسل علي بن أبي طالب من فاطمة عليها رضوان الله تعالى، ويحسن أن نتكلم على نشأة هذه الفرق الباطنية، وكذلك أصل وولادة النصيرية بابتدائها.
لقد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وأنجبت له أبناءً وهم الحسن و الحسين، و الحسن و الحسين هما سيدا شباب أهل الجنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن منزلتهما في نصوص كثيرة من الأحاديث المتفق على صحتها، وكذلك أحاديث كثيرة صحيحة عند أهل العلم، ويأتي في ذلك أنهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم من أول من يدخل في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبب تعلق أهل الأهواء بالحسن والحسين
الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة بدأ من هنا التعلق بهما باعتبار أنهما الذكور من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا نعلم أن لله جل وعلا حكمة عظيمة أن لم يجعل لرسوله عليه الصلاة والسلام نسلاً ذكراً مباشراً، فإذا كان هذا التعلق بالذكور من نسل ابنته عليه الصلاة والسلام، ومعلوم عند العرب أن ابنة الرجل أبناؤها لا يعتبرون منه مباشرة من جهة الإرث، بخلاف الولاء والقربى ونحو ذلك، ولهذا يقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنابنوهن أبناء الرجال الأباعد
يعني: أن أبناءنا هم أبناء أبنائنا من أصلابنا، وأما بالنسبة لبناتنا فإن أبناءهن هم أبناء الرجال الأباعد، ولكن لما كان من نسل فاطمة عليها رضوان الله تعالى من علي بن أبي طالب وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلق بهما أهل الأهواء، واخترعوا عقيدة الأئمة الاثني عشري الذين يزعمون لهم العصمة، وهم من نسل الحسين، ويخرج منهم واحد وهو الحسن عليه رضوان الله تعالى، وهو أخو الحسين، والحسين عليه رضوان الله تعالى يعتبرونه ثالث الأئمة، فأولهم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وهؤلاء الأئمة هم كلهم من نسل واحد ينتهون بـمحمد بن الحسن المزعومة ولادته، وهو المهدي المنتظر الذي يزعمون أنه في السرداب، وينتظرون خروجه حتى يفتح على الأمة الظلمات، وهو محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر، ويضاف إليهم الحسن بن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى.
ما فعله الرافضة عند موت الحسن العسكري من غير نسل
لما كانت الولادة على سبيل التسلسل في هؤلاء الأئمة توقفت الولادة عند الحسن العسكري، فلم ينجب له على الصحيح من كلام المؤرخين، فلما كانت السلالة توقفت تحيروا في ذلك؛ لأنهم يرون أن هؤلاء هم الأئمة، فلما توفي الحسن انصرف أتباعه في ذلك أشياعاً، وقالوا: إنه بموتهم مات الشيعة، ومات أتباع آل البيت، ولم يبق ولي يبلغهم الوحي، فكانوا يتعلقون بهم، ويرون أنهم معصومون أشد من عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخذ الرافضة يموجون في ذلك موجاً كثيراً، وتباينوا في ذلك في المخرج من هذا، حتى ظهرت تلك الدعوة بأن الحسن العسكري قد ولد له ولد، قيل: إن عمره ثلاث سنوات أو ست سنوات، وأدخل السرداب، فأخفي ذلك؛ لأنه لم يكن له جسد ظاهر بيّن فأخفوه وقالوا: هذه هي الغيبة، وأن الفرج للأمة لا يمكن أن يظهر إلا بظهوره، وحين وضعوه بمثل هذا الموضع حلوا مسألة الإمامة، وأن الإمامة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلما كان ثمة خفاء ظهر ما يسمى بالأوصياء والنواب والأبواب الذين يكونون لـمحمد المهدي المنتظر، وظهر أناس يزعمون أنهم أبواب وأوصياء لـمحمد المهدي الذي كان في السرداب، وهم قد أدخلوه فيما يزعمون في السرداب عام مائتين وستين لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: بيننا وبين دخوله للسرداب ألف ومائة واثنان وسبعون عاماً، وهو في السرداب، ولم يخرج، وهذا جعلهم يتعلقون ويختلفون كثيرا،ً وأصبحوا على طوائف وفرق.
ظهور النصيرية
ظهرت في هذه المرحلة بعد محمد بن الحسن العسكري بعد دخوله السرداب فيما يزعمون ظهر ما يسمى بالأوصياء، وكذلك الأتباع، فكان منهم: محمد بن نصير النميري، وقال: إنه باب له، ويصل إليه، وأنه يبلغه الأمر، فظهرت حينئذٍ ما يسمى بالنصيرية، و محمد بن نصير قد أدرك الحسن العسكري وأدرك والده الهادي وأدرك أيضاً فيما يزعم محمد بن الحسن وهو المهدي أدرك هؤلاء الثلاثة وقد توفي عام مائتين وسبعين، يعني: بعد دخوله في السرداب بعشر سنين.
وفي هذه العشر ظهرت هذه الدعوة، ثم تطورت في بضع سنين وادعى النبوة، وأن جسد الغائب قد حل فيه.
ظهرت هذه الفرقة وخالفت طوائف من أهل الرفض والتشيع في هذا الأمر.
والشيعة في ذلك على طوائف متنوعة، منهم غلاة, وأشد طوائف الرفض المتبعين في ظاهرهم لآل البيت هم النصيرية أشدهم غلواً وأبعدهم عن دائرة الإسلام على الإطلاق، ويليهم بعد ذلك المخطئة، والمخطئة هي طائفة أيضاً خارجة عن الإسلام، ولكنها أقل كفراً من النصيرية، وهم الذين يقولون: إن جبريل أخطأ برسالته، فيقولون: أخطأ الأمين فصدها عن حيدرة، يعني: أخطأ الأمين برسالته وهو جبريل عليه السلام، فصدها عن حيدرة وهو علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وهم يخطئون جبريل، وتبعاً لذلك يخطئون كل من أخذ الولاية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فيرون أن أبا بكر مخطئ، بل يضللونه ويلعنونه، وكذلك عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان عليهم رضوان الله، يرون أنهم قد اغتصبوا الخلافة؛ لأنهم رأوا أن علياً أولى بمقام النبوة من غيره كمحمد صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يرجع الحق إليه بموت محمد صلى الله عليه وسلم، فلما لم يرجع إليه صار كل من نازعه منازعاً للحق.
وعلى هذا يرون أن الحق قد انصرف من أول وهلة ابتداءً، وهذا طعن في جبريل عليه السلام، وطعن أيضاً في حفظ الإسلام من جهة الأصل، وفي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حمل حقاً ليس له، وهذا أمر زور، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن في مسألة المرأة التي تقول: إن لي ضرة، وإني أريد أن أتشبع من زوجي بما لم يعطني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور )، وهذا إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله في حال امرأة تتشبع في حق زوجها عند ضرتها تريد إثارتها فكيف التشبع بالوحي، لعن الله من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
ويرون أن الحق والضلال قد تفاصلا من تلك اللحظة، ويرون أنهم أتباع علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى.
وقيل: إن النصيرية لم يسموا بهذا الاسم نسبة لـمحمد بن نصير، وثمة قول ضعيف أنهم يتبعون نصيراً وهو مولى علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، قالوا: وذلك أنه ادعى الربوبية لـعلي بن أبي طالب، فـعلي بن أبي طالب لما علم -بزعمهم ذلك- دعاه واستتابه، فلما لم يتب أراد قتله، فلما قتله وحرقه بالنار قال: علمت أنك رب، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، ولم يرجع عن قوله، وهذا غاية في التمسك بأمر وعقيدة الباطل ظاهراً وباطناً.
وبدأ التعلق بحق علي بن أبي طالب بعد موته وإن كابروا في ذلك.
ظهور الرافضة
والرافضة هي الطائفة الثالثة أيضاً الذين رفضوا مجلس زيد بن علي بن الحسين حينما سألوه عن أبي بكر و عمر، فترضى عنهما عليه رضوان الله تعالى، فرفضه مجلسه، فقال عليه رضوان الله: رفضتموني رفضتموني، فسموا رافضة؛ ولهذا نعلم: أن أعظم طوائف الرافضة من جهة شدة بعدهم عن الحق هي النصيرية, وهي التي نتكلم عليها في هذا المجلس.
الثانية: هي المخطئة.
والثالثة: هم الرافضة.
ثم يتباينون في ذلك من جهة تعلقهم، ومنهم من يحمل من بعض هذه الطوائف شيئاً من الباطل، ومنهم من يتجرد من بعض الباطل ويتمسك بشيء من ذلك بحسب ما يرون.
ولما كان هذا القول يتعلق برجل خفي والناس يتعلقون به كل يظهر أنه وصي، فظهر أوصياء كثر في هذا، أولهم محمد بن نصير، ثم جاء بعد ذلك أناس كثر، ومن متأخريهم الخميني قال: إنه وصي محمد بن الحسن المهدي المنتظر, وأنه يبلغهم بذلك, وأنه يلتقي به مراراً، وهذا من الأمور التي تحمل جملة من المتناقضات، وهي سبب تشتتهم في ذلك، وكذلك سبب عدم وجود كلمة لهم سواء لو أظهروا، وذلك أن الحق إذا ظهر للناس يختلف بعض الناس في تفسيره؛ لهذا جعل الله جل وعلا الحق في أهل الإسلام يختلفون فيه ولو بشيء يسير في ظاهر الأمر؛ لهذا كان اختلاف الأمة رحمة، وهذا في بعض فروع الإسلام، وأما في العقائد فليس برحمة؛ ولهذا جاء عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: اختلاف الأمة رحمة إلا في تجريد التوحيد، يعني: أنهم إذا خالفوا في أمر التوحيد فإنهم خالفوا أمر الرحمة، وأما إذا كان في أمر الفروع فإن الخلاف رحمة، والمراد بالرحمة أن العقائد إذا ظهرت للناس فإن بعض الفروع يختلفون فيها بحسب اجتهادهم، ويكون هذا الاختلاف من أمور الرحمة، والرافضة حينما كان عقيدتهم باطلة، فإنه لا يمكن أن يكون ثمة زمن يجتمع فيه الرافضة على كلمة سواء؛ لأنهم قد أضمروا باطناً باطلاً فلا يمكن أن يجتمعوا على ذلك الباطل لاختلاف الناس عليه من باب أولى، كما تقدمت الإشارة إليه.
أثر الاعتقاد بالمهدي على العمل بالإسلام لدى النصيرية
لما كان هذا الأمر يتعلق بعقيدة الباطنية صعب على الرافضة، وصعب أيضاً على النصيرية إدراك أحكام الدين، وذلك أنهم يرون ألا وسيط بين العباد وبين ربهم إلا من كان باباً بينهم وبين ذلك المهدي المنتظر , فعلقوا جميع شرائع الإسلام على ذلك؛ ولهذا تجدهم كثيراً ما يقررون عدم العمل بشرائع الإسلام، فلا يرون الصلاة، ولا يرون الزكاة والصيام، ولا يرون الحج، ولا يرون الجهاد، ولا يرون كثيراً من أحكام الدين؛ وذلك أنه لا يقيمها إلا المهدي المنتظر، وهذا عند النصيرية على خلاف مع الطوائف من المخطئة، وكذلك الرافضة الذين يؤمنون بشيء من أركان الإسلام.
أما بالنسبة للنصيرية فإنهم يقرون في مصنفاتهم أنه لا يوجد شيء من أحكام الإسلام ينبغي العمل به، فيفسرون الصلاة المذكورة في القرآن وما جاء في السنة بجملة من التفسيرات الباطلة التي ينبغي للإنسان ألا يعمل بها، فيفسرون فروع الإسلام بجملة من التفسيرات يأتي الكلام عليها بعد الكلام على عقيدتهم وكذلك إيمانهم بالله سبحانه وتعالى.
عقائد النصيرية
عقيدة النصيرية في علي بن أبي طالب
إن إيمان النصيرية بالله جل وعلا من الأمور المشكلة عند كثير من العامة، وإدراك تلك الطائفة على الحقيقة الباطنة صعب على كثير من الناس فهمه؛ لإضمارهم ذلك الباطل وقلة مصنفاتهم وكتبهم التي يروجونها بين الناس في ذلك، فمن صنف في العقائد يجمعون، وكذلك يجمع أئمة النصيرية على أن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله إله يعبد من دون الله، وأنه يتصرف في الكون، ويعتقدون فيه كما يعتقد النصارى في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، ويرون أن وجود علي بن أبي طالب في الأرض كوجود عيسى في الأرض، وأن علي بن أبي طالب حينما قتل في الأرض أنه كان متجسداً بجسدٍ كما تجسد جبريل عليه السلام بصور من البشر حينما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه حينما قتل عليه رضوان الله تعالى قتل ذلك الجسد والروح باقية فارتفع، فيرون أن ذلك الجسد هو الناسوت، وأن الروح التي هي فيه هي اللاهوت، وأن الذي قد قتل علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى هو عبد الرحمن بن ملجم رجل مقدس معظم؛ لأنهم يرون أنه قد خلص اللاهوت من الناسوت، يعني: أنه قد خلص الإله من ذلك الجسد الذي اضطره بالبقاء في الأرض؛ ولهذا يعظمون من قتل علي بن أبي طالب. وهذا أمر في غاية القبح لا يمكن أن يؤمن به عاقل.
وهو من جهة التشبيه مشابه لعقيدة النصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام من جهة قتله، وكذلك تلبسه بصورة بشر، وكذلك أيضاً في صلبه عليه الصلاة والسلام.
عقيدة النصيرية في محمد عليه الصلاة والسلام
وكذلك أيضاً في عقيدتهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم جسد لـعلي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى، وأن هذا الجسد له تشريع، وأن ذلك التشريع يكون في سلمان الفارسي عليه رضوان الله تعالى، فكانوا حينئذٍ من جهة عقيدتهم يقولون بعقيدة تثليثية باطنة تشابه ما عليه النصارى، من جهة هذه العقيدة التثليثية في علي بن أبي طالب وأنه هو الإله، وأن الجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المشرع وحامل التشريع هو سلمان الفارسي وهو مشابه لعقيدة النصارى.
ثمة إشكال عند كثير من العامة، أو كثير من المثقفين والمطلعين على بعض ظواهر العقائد أنهم لا يربطون كثيراً بين أصول العقائد واللوازم التي يجري عليها أصحاب تلك العقائد، فحينما يتكلم العلماء على عقائد فرقة من الفرق فإن المؤصلين للعقائد يحملونها على تأصيل عقيدة الإسلام من جهة الإيمان واللوازم؛ لهذا تجد بعض العلماء من أهل التحقيق من أئمة الإسلام حينما يتكلمون على النصيرية، يقولون: إن النصيرية لا يؤمنون بوجود رب، ولا يؤمنون بوجود إله، يريدون بذلك أنهم لا يؤمنون بإله الإسلام كما يقولون عن النصارى أنهم لا يؤمنون بربنا.
عقيدة النصيرية في اليوم الآخر
كذلك أيضاً حينما يقول المحققون من أهل العلم: إن النصيرية لا يؤمنون باليوم الآخر، وهذا الأمر من جهة عدم إيمانهم باليوم الآخر أخذ على سبيل اللزوم، وذلك أنهم يعتقدون أن الأرواح تتناسخ، يقولون: إن الأجساد إذا قتلت أو ماتت أنها لا تفنى، وإنما تكون الأرواح والأجساد ممتزجة كما يكون القميص حينما يلبسه الإنسان وينزعه ويضعه ويلبس ثوباً آخر، هذا الجسد هو الروح، ويرون ذلك الثوب هو الجسد، فيرى أن الروح التي في داخل الجسد إذا قتل ذلك الجسد انتقلت إلى شخص آخر، والناس في ذلك على أقسام: منهم أهل الطاعة والديانة الذين يسلكون تلك العقيدة النصيرية، فإن هؤلاء تنتقل أرواحهم إلى الأجرام السماوية والأفلاك، فبحسب عظمهم وقربهم ودنوهم من اتباع علي بن أبي طالب فإنهم يكونون من أهل العلو، فيتعلقون بالنجوم، وإذا عظموا كانوا في الكواكب، وإذا عظموا كانوا في القمر أو في الشمس ونحو ذلك؛ لهذا يتوجه طوائف منهم إلى الكواكب العظيمة تعلقاً بأولئك الصالحين الذين تعلقت أرواحهم فهم موجودون، ولكنهم قد اختلفت أجسادهم بينما كانوا أجساداً بشرية تحولوا إلى أجرام سماوية، وما كان من المتوسطين أو فيه ضعف وفسق ونحو ذلك، فإن أرواحهم تتحول إلى أجساد أشخاص آخرين، فتتحول هذه الروح إلى جسد آخر، وإذا كانوا من الأشرار فيرون أن هذه الأرواح تتحول إلى البهائم، فإذا كان شريراً تحولت إلى حمارٍ أو كلب ونحو ذلك، فأخذ العلماء من ذلك لازم عقيدتهم أنهم لا يؤمنون بالبرزخ، وعذاب البرزخ، ولا يؤمنون أيضاً بالبعث والنشور؛ لأنه يلزم من التناسخ على سبيل الدوام والتحول أن ينتقل الإنسان من جسد إلى جسد آخر، فروحه تنتقل، والبدن يتغير من صورة إلى صورة أخرى، وهذا ينافي ظواهر الأدلة من كلام الله جل وعلا، وكذلك أيضاً القطعيات والمسلمات عقلاً ونقلاً؛ لهذا العلماء حينما يقررون بيان عقائد الطوائف يحملونها كثيراً على اللزوم، وحينما قالوا بعقيدة التثليث للنصيرية، فإنهم لا يقولون بالتثليث ولا يقولون: ثالث ثلاثة ونحو ذلك، كما يقول النصارى لا. ولكن حينما تحلل هذه العقيدة يعلم أنها على نفس ذلك الاعتقاد الذي يعتقد به النصارى.
ومن اللوازم ما في مسألة الحلول، وأن الخالق حال في كل مكان، فهذا على سبيل اللزوم يأخذونه من جملة من العقائد منها ما يسمى بتناسخ الأرواح، ومنها يرون أن مطلق العلم يقتضي الحلول، وأن للإنسان جسداً وروحاً، وهذا الجسد فيه الروح، وتلك الجسد تكون عائمة أيضاً في المخلوقات، ويرون في ذلك جملة من اللوازم لا حاجة إلى إيرادها.
عقيدة النصيرية في العبادات
كذلك أيضاً في قول بعض العلماء: إنهم لا يؤمنون بشيء من شرائع الإسلام، فلو أردنا أن نرجع إلى شرائع الإسلام مما يسمى بالعبادات البدنية فسنجد أنهم لا يؤمنون بها، فحينما نتكلم عن الصلاة فالصلاة عندهم يحملونها على أنها أسماء ورموز، وهذه الأسماء ورموز هي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد، و علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين، وأن ذكرهم هو أداء لهذه الصلاة، وأن الإنسان إذا أراد أن يؤدي هذه الصلوات الخمس عليه أن يذكر أسماء هؤلاء، كذلك أيضاً بالنسبة للزكاة يرون أنها ذكر سلمان الفارسي عليه رضوان الله تعالى، كذلك أيضاً بالنسبة للجهاد فإنهم لا يرون الجهاد، ويرون الجهاد المذكور في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه هو لعن أبي بكر و عمر , ويرون أن الجهاد له شقان: الشق الأول هو لعن أبي بكر و عمر والشق الثاني يرون أنه إفشاء السر، وإفشاء العقيدة التي هم عليها، وأن المخالفين لذلك يجب أن يقاتلوا وأن يبادوا، وألا يرحموا.
المرأة في العقيدة النصيرية
ولهذا كان هناك رجل على العقيدة النصيرية في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، ويسمى بــسليمان الأفندي الأنطاكي، وكان من تركيا، فلما كان على عقيدتهم وبدأ معهم، وأخذ سنة يعطونه على سبيل التدرج، واختلط ببعض المستشرقين، وتأثر بعقيدتهم وكان محور انحرافه في ذلك أنه لما علم وتطور في تلك العقيدة، وعلم أنهم لا يحرمون نكاح المحارم لا نكاح الأخوات ولا الأمهات فضلاً عن العمات والخالات، فيرون جواز نكاح ذلك، بل يرون ما يسمى باللزوم أو الحق الواجب، أو الحق اللازم أن الإنسان إذا نزل عنده أحد من أهل مذهبه وبات عنده وجب عليه أن يخرج زوجته له، وهذا من كرم الضيافة ويسمونها حقاً واجباً، وهذا له لوازم أخرى، وذلك أنهم لا يرون المرأة لها روح، وأن الروح مجرد في نفس الرجل، ويرون أن المرأة لها نفس وجسد، وليس لها روح، وأن الرجل لديه روح ونفس وجسد، وأنه بالنسبة للمرأة فلديها نفس وجسد وهو النمو، فالمرأة تختلف عن الرجل.
فلما نزل عند أحدهم، يقول: لما كان في منتصف الليل وجدت أن امرأة قد فتحت الباب ثم انسلت معي في فراشي فسألتها، فقالت: ألم تعلم أن هذا هو الحق الواجب؟ فبدأ يفكر بتلك الحقيقة، فتنصر وترك النصيرية التي هو عليها، وألف كتاباً في ذلك يسمى الباكورة السليمانية، وذلك السليماني نسبة إليه في فضح وكشف أسرار النصيرية، وانتقل إلى بيروت، ولم يتركوه حتى قتلوه وأحرقوه في اللاذقية، بعد أن دعوه وأمنوه وأغروه بأن يرجع وله الأمان في ذلك، وقتل؛ لأنه كشف هذا السر؛ لأنهم يرون أن الجهاد هو فيمن كشف أسرار ذلك؛ ولهذا نجد أنه حتى من جهة الفكر السياسي والعقدي لدى الفئة النصيرية أو العلوية لديهم تأصيل لهذا الأمر أن كشف السر خيانة عظمى يلزم منها الإبادة، وهذا نشأ حتى عند النصيرية تسلل إليهم في تعاملهم مع الفكر البعثي أو الفكر السياسي؛ لهذا نجد هذا لديهم من جهة التعامل العسكري في الخيانة وكشف السر أن الإبادة هي النهاية لمن كشف السر، فهم أشرس الناس في هذا الأمر، وهذا من بقايا تلك العقيدة وذلك الفكر.
التقية عند النصيرية
نريد أن نتكلم على مسألة تعامل العلماء معهم من جهة إبطال تلك الأعمال، لديهم أصل هو الذي تسبب في الإشكال عند كثير من الناس، وخاصة من عامة المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي، كذلك أيضاً من المسلمين في الشام أنهم حينما يخالطونهم يجدون أنهم يصلون معهم، لديهم أصل من أصولهم, وهم يشتركون فيه مع الشيعة وهو ما يسمى بالتقية، وأن هذا ركن من أركان عقائدهم، ويرون أن التقية لباس وأن من لم يلبس ذلك اللباس فهو عريان ككاشف العورة, وهو مرتكب لذلك الإثم، قالوا: واللباس يتزين به الإنسان عند كل صاحب عقيدة، ولكن يستثني أئمتهم من ذلك عقيدة واحدة، وهي البراءة من عبودية علي بن أبي طالب، فإذا تبرأ أحدهم من عبودية علي بن أبي طالب فإنه لا تقية في هذه الجزئية، وما عدا ذلك فإنه يجب عليه أن يصلي معهم ولكن لا يذكر أذكارهم، وكذلك يختلط معهم فيما يقولون، وإن أقر بشيء فإنه يقر به وهذا على سبيل الوجوب، ومن لم يقر به فإنه قد كشف عورته، وثمة تلازم بين قضية الجهاد لديهم وقضية التقية، فهما ضدان من جهة اكتمال باطنية تلك العقيدة؛ ولهذا العلماء رحمهم الله يتكلمون على تلك المصنفات التي يصنفها أئمتهم.
انتشار المذهب النصيري وأسباب ضعفه
العقيدة النصيرية، أو الفكر النصيري من جهة انتشاره في الناس هو من أضعف المذاهب انتشاراً، سواء في الشيعة أو في الطوائف كلها؛ وذلك لشدة انحرافه عن الفطرة السوية، كذلك لشدة انحرافه أيضاً حتى عند طوائف الرافضة؛ فإن الطوائف من الرافضة من المتقدمين والمتأخرين إلا طوائف قلة من المعاصرين أو بعض المتأخرين يقولون بإسلامهم، فالطوائف من الشيعة والرافضة يقولون بكفرهم، وقد صنف في ذلك طوائف من المتقدمين بإخراجهم من الملة حتى في زمن محمد بن نصير النميري صنف أناس من الرافضة بكفره مع كونهم يقولون بألوهية علي بن أبي طالب , وصنف في ذلك سعد بن عبد الله القمي رسالة في ذلك، وبيّن كفره ومنهجه في ذلك، وبيّن أيضاً عقيدته الوثنية جماعة كـأبي الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين، وصنف في ذلك أيضاً عبد الحسين بن مهدي العسكري رسالة في ذلك باسم: النصيريون العلويون، وصنف في ذلك أيضاً طوائف في هذا بينوا عقيدتهم، بل إن النصارى الذين قد تمرسوا بمعرفة فكرهم وكذلك عقيدتهم يعلمون أنهم لا يجرون على عقيدة الإسلام، لما كان من قرابة نصف القرن أو يزيد شيئاً يسيراً، كان الناس يتوجهون إلى عدم الخفاء، وظهر ما يسمى بالإعلام وظهر إظهار المكنون ونحو ذلك، بدأ الانكماش الباطن لهذه العقيدة، وبدأت تتصور وتتشكل بصورة أخرى فانطلى على كثير من الناس حتى من يخالط النصيرية في بلاد الشام عن إدراك حقيقتهم؛ ولهذا يمتزجون معهم من جهة الزواج، ويمتزجون معهم من جهة الموالاة، وأنهم في دائرة الإسلام ونحو ذلك.
وهذا الضعف بسبب أمور كثيرة، منها: ما تقدم الإشارة إليه، ومنها أنه لما ظهر أجيال كثيرة بعد تلك الأجيال قد عاصرت ما يسمى بالانفتاح الإعلامي، وأن الإنسان إذا فعل فعلاً أو أنشأ شيئاً من الأقوال أو العقائد التي يبديها سراً أنه لا بد أن تظهر سواء عن طريق الصور، أو عن طريق المصنفات، أو النقل، فكان الانتشار في ذلك عظيماً، وهو يناقض عقيدتهم الباطنية؛ لهذا بدأت الباطنية بالتلاشي، فأصبحت الأجيال الجديدة من النصيرية لا يعرفون من عقيدتهم شيئاً، فالأجداد يخفونها على الأبناء، فإنهم لا يرون أن تلك العقيدة يبلغون بها إذا تيقنوا أن هذه العقيدة تصل إليهم، وإنما يعطونهم الأصل العظيم أصل الانتماء لآل البيت؛ لهذا كثير ممن ينتمي إلى النصيرية العلوية لا يدرك تلك العقيدة.
ومن وجوه الاضمحلال وسبب عدم الانتشار: أنهم يرون أن من يتعلم تلك العقيدة النصيرية أنهم الرجال فحسب، ولا يتعلمون إلا ببلوغ سن الرشد، وأنهم قبل ذلك لا يجوز أن يتعلموا إلا بدرجات كثيرة، منهم من يسقط في أولها، ومنهم من يستمر إلى آخرها، هؤلاء هم الذين يسمون بالسادة، ولا يمكن أن يصبح من أهل السيادة والرءوس فيهم إلا ويتجرد من أشياء ثقيلة على النفس فطرياً، يتجرد من الوالدين والولاء لهما، والولاء لشيخه وسيده، وأن يضع نعلي الشيخ على رأسه ثم يتدرج في ذلك من جهة الولاء له، والسمع والطاعة؛ لأن هذا هو الذي أنقذ روحه، وأما بالنسبة لأبويه فإنه لا يبرهما؛ لأنهما سبب وجوده في دار الشقاء، كذلك أيضاً يرون أن الوالدين ليس لهما حق باعتبار أنه ولد منهما وهو قد أمتع أنفسهما، وأما بالنسبة للسيد والمعلم فإنه قد علمه وتعب معه حتى أبلغه ذلك السر العظيم عن محمد المهدي المنتظر ؛ ولهذا اضمحل هذا الأمر، وأصبح متلاشياً عند كثير من الطوائف الذين ينتسبون للعلوية، وأصبح كثير من المسلمين من أهل الشام وغيرهم ربما يتزاوجون معهم ويخالطونهم ولا يرون من أفعالهم شيئاً يستنكر، وهذا يرجع إلى تلك الأسباب، ولو استمر ما يسمى بالدعوة إلى الحياة المدنية، وكذلك أيضاً النظريات العقلية القائمة على الإيمان بالمحسوس في ظل الأفكار الحديثة كاللبرالية أو العلمانية، أو الماسونية ونحو ذلك، الذين يؤمن أهلها بالمادة ولا يؤمنون بما وراء الطبيعة، فإن هذا إذا انتشر -ويدعمه الإعلام العالمي الآن، العالم الغربي ومن يواليه من الإعلام العربي- فإن هذا سيضرب في باطن تلك العقيدة، فأصبحت تضمحل.
إذاً فأصبحت النصيرية تخشى قطبين:
القطب الأول: القطب الحضاري الغربي الذي يدعو إلى الطبيعة، ولا يؤمن بما وراء الطبيعة.
القطب الثاني: القطب الإسلامي الذي يؤمن بالباطن والظاهر، وأنه يصارع ظاهراً وباطناً ويدلل على ذلك بالحجج من الكتاب والسنة، وأيضاً من العقل، فأصبح ذلك منزوياً، وأصبح كثير من الناس ينتمون إليه ولاءً.
ومن الأمور المهمة: أن المدارك العقلية والفطرة السليمة تجعل الإنسان صاحب العقيدة الصحيحة التي يعمل بها يكون من أصحاب التوازن، بخلاف الإنسان الذي يكون لديه عقيدة باطلة لا يستطيع العمل بها فإنه يصبح قلقاً ومتوجساً، وأيضاً إذا كان صاحب سلطة يكون من أهل الانتقام والبطش، وذلك أنه لا يمكن أن يخرج مكنونه بعمل الجوارح ولا بقول اللسان، فيصبح لديه شيء من العقيدة المشحونة التي يظهرها في كثير من المخالفين؛ لهذا تجد عند هذه الطائفة من الانتقام من المخالفين ما لا يمكن أن يخطر على بال بشر.
ولهذا جاءت الشريعة بأن يعمل الإنسان بما علم من الحق لماذا؟ لغرس أمور كثيرة منها: الطمأنينة في النفس، وقطع ما يسمى بالترقب، والإسلام يدعو إلى إخراج المكنون الصحيح أياً كان لكل أحدٍ، وذلك أن الإنسان لا يستحي من عقيدته، بل يبينها وأنه إذا أضمر شيئاً وقع في شيء من النفاق؛ ولهذا حذر الإسلام من كثير من الأمور المناوئة لهذا الأمر، والمحاربة له، وهو ما يسمى بالنفاق، وكذلك الكذب، وأباح الإسلام شيئاً يسيراً من هذا الأمر وهو ما يسمى بالمعاريض، وأباحها في نطاقات ضيقة ونحو ذلك؛ لشدة العقيدة بالتوازن بين الباطن والظاهر.
أسباب شدة عداوة النصيرية لخصومها
ولهذا نجد عند أرباب هذه العقيدة الانتقام من الخصوم ونحو ذلك، وذلك لاعتبارات متعددة، منها: أنهم يرون الذين يخالفونهم هم سبب الكتمان، وعدم الإظهار، وأن هؤلاء ينبغي أن يبادوا حتى يخرج المكنون على الجوارح، وكذلك أيضاً يرون أن هؤلاء الذين يخالفونهم هم العائق في خروج المهدي المنتظر، فينبغي أن يبادوا وأن أولياء وأوصياء المهدي المنتظر ينبغي أن يظهروا حتى يمهدوا الطريق له، فيخرج إلى النور، وينشر العدل في الناس، وهذا من المتناقضات؛ فإنهم يرون أن المهدي المنتظر، وكذلك الأئمة الاثنا عشرية أن مقام الربوبية قد حل فيهم، ويرون كذلك أنهم يعلمون الغيب، وأما عدم خروجه فيعللونه بقوله: إنه يخشى أن يقتل في حال قوة الأعداء، فإذا كان يعلم الغيب، فهو يعلم أنه متى يموت، فإذا كان يعلم متى يموت، فإنه يعلم متى يتوقع، والمواضع التي يتوقع فيها مواضع الخطورة، إذاً ما المانع حينئذٍ من خروجه، كذلك أيضاً فإن المخلوق لا يمكن أن يذب عن خالقه، وهذا فيه اعتبارات كثيرة من جهة التناقض من لوازم كثير من العقائد.
الحياة الاجتماعية والسياسية عند النصيرية
بالنسبة للنظام الاجتماعي في حياة كثير من أرباب هذه الطائفة النصيرية العلوية يحتاج إلى وقفات كثيرة، ولكن نشير إليها على سبيل الإشارة:
دخول النصيرية إلى الشام
منها: ما يتعلق بالحياة الاجتماعية والسياسية لهذه الطائفة، هذه الطائفة لم تنشأ في بلدان الشام، وإنما نشأت في بلاد فارس، فالذي أنشأها ابتداءً فارسي من جهة الأصل وهو محمد بن نصير النميري وكذلك أتباعه الذين خالفوه في ذلك، محمد بن جندب، وكذلك عبد الله بن محمد، وكذلك أيضاً أتباعه في ذلك كـعلي بن الحسين وغيرهم من أتباعهم، وفي القرن الرابع بدأت بدخولها الشام، وذلك أنها نشأت أول ما نشأت في حلب، ثم كانت في العراق في بغداد، ثم اندثرت في بغداد وانتقلت من حلب إلى اللاذقية وانتشرت في ذلك، وأصبح أولئك الطوائف يتوارثون تلك العقيدة توارثاً وأصبحت سرية، وهذا نشير إلى ما تقدم في قول عمر بن عبد العزيز قال: إن العلم لا يذهب حتى يكون سراً؛ ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح كما في حديث عبد الله بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )، وهذا فيه إشارة إلى أن العالم إذا لم يبرز فوجوده كعدمه، كذلك العلماء وفقهاؤهم إذا لم يبرزوا للعامة، فإن العلم يندثر؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً..)، فلا بد من وجود رأس سواءً كان بالحق أو الباطل حتى ينشر تلك العقيدة، سواءً كانت صحيحة أو باطلة للناس؛ لهذا العقيدة التي ليس فيها ظاهر وفيها باطن فقط فإنها لا تظهر؛ لهذا نجد عقائد وثنية موغلة في الوثنية تعبد غير الله جل وعلا كالحجارة أو بعض الحيوانات التي يستقبحها الإنسان كعبودية الفأر أو يعبدون مثلاً البقر أو نحو ذلك، تنتشر دعوتها ويدخل فيها كثير؛ لأنها ظاهرة وموغلة في البطلان، أما السرية ولو كان فيها شيء من الحقيقة، فإنها تضمحل وتكون بعيدة عن الأتباع، وهذا ما يظهر في كثير من الطوائف الباطنية، ومنها النصيرية.
خدمة النصيرية للغزاة على مر التاريخ
النصيرية لم يكن لها رأس على مر العصور، وإنما تنطوي تحت أي فرقة تأتي في محاربة الإسلام؛ ولهذا انطووا تحت بعض الطوائف كالتتار ونحو ذلك، وكذلك أيضاً لا يأتي مستعمر إلى بلدان الشام إلا ويكونون له أعيناً، ولا يأتي مستعمر لبلدان المسلمين إلا ويقاتلون معه، ولما جاء المستعمر إلى بلدان الشام وهم الفرنسيون واستعمروا الشام نظروا إلى الشريحة الواسعة الموجودة في المسلمين في بلاد الشام فنظروا في الطوائف في ذلك، فإنهم لا يريدون أن يحكموا الأكثرية في ذلك؛ فإن الأكثرية تؤمن بالجهاد، وهم أهل السنة، فلما نظروا إلى هذه الطائفة وهي الطائفة النصيرية وتأملوا في عقيدتها، ونظروا في تأليههم لـعلي فدرسوا تلك العقيدة دراسة عميقة؛ ولهذا هم أول من أطلق على النصيرية العلوية؛ ولهذا النصيريون يأنفون من هذا الوصف: النصيرية، ويحبون العلوية، وسماهم بذلك الفرنسيون وهذا الاسم العلويون لا يعرف على الإطلاق على مر التاريخ قبل الفرنسيين، وإنما يوجد هكذا على سبيل التلفظ أنهم من آل البيت من آل علي ونحو ذلك، أما علويون على أن يكون مصطلحاً على فرقة، فإن هذا لا يوجد إلا بعد الفرنسيين، وهذا يعني أن المستعمر قد درس تلك الفرقة دراسة جيدة، ويعرف مقام علي بن أبي طالب لديهم، ويعرف أيضاً مقام الجهاد والمقاومة في هذه الطائفة، فرأى أن الطائفة مسالمة، ولا تفسر الجهاد أبداً على الإطلاق، ويفسرونه بقتال المخالفين وهم الأكثرية، فرأوا أنه لا بد من إشغال المسلمين ببعضهم، وانتشال هذه الطائفة الأقلية، وتسميتها باسم جديد إبعاداً عن مسألة الخلاف والتشنج والإتيان بمصطلح جديد، وجعلهم في كتلات سياسية ونحو ذلك، فأنشأوا كتلاً وسموها كتلاً وطنية وحزبية ونحو ذلك، وجاء ما يسمى بحزب البعث ومزجوا شيئاً من عقائدهم ونحو ذلك؛ لهذا هذه الطائفة لا تمانع من أخذ أي شيء للوصول إلى الغاية، وهذا كما تقدمت الإشارة إليه هو أصل عقيدة التقية في هذا الأمر؛ لهذا مكن لهم في تلك البلدان، وأصبح لهم قرار سياسي في ذلك، وكذلك أيضاً قرار في حياة الناس الاجتماعية.
أسباب عدم حكم النصيريين بعقيدتهم في المجتمعات التي يحكمونها
ولكن لا يستطيعون أن يحكموا الناس بتلك العقيدة، لماذا؟
أولاً: أنها من جهة الأحكام والفروع لا يوجد لديهم أحكام، ولا يؤمنون بالقرآن، ويرون أن القرآن مع المهدي، والمصحف الموجود لا يشكل الثلث، والعمل به بتر له، قالوا: ربما نعمل بشيء منسوخ والناسخ مفقود، أو نعمل بشيء مطلق والمقيد مفقود، فلا يجوز العمل به حينئذٍ، فيبطلون هذا الثلث، ويجعلون العمل بذلك لا يكون إلا بخروج ذلك المصحف مع المهدي المنتظر فيعطلون جميع الشرائع، فيعملون بالقوانين الوضعية، ويرون أن العمل بالشريعة التي تكون لدى أهل الإسلام من أهل السنة عمل بشيء من الباطل، وعمل من المخالفين الذين ينسبونه إلى الله وهو باطل، فيرون العمل بشيء من الأمور المادية والنظريات والقوانين الوضعية أولى من العمل بشيء مكذوب ومنسوب إلى الله، فينسب الشيء إلى البشر ولو كان باطلاً أولى من أن ينسب الباطل إلى الله سبحانه وتعالى فيعمل به؛ لهذا يحكمون بقوانين وضعية ونظريات بعيدة، وكذلك أيضاً حتى لا يكون ثمة ثورات داخلية يحكمون بشيء من بعض الشرائع الإسلامية ببعض الأحوال الشخصية، وكذلك أيضاً بعض الأحكام فيما يتعلق بالعدد والطلاق، وكذلك ما يسمى بالرجعة والخلع وغير ذلك من أحكام النكاح، وما عدا ذلك فمرده إلى أحكام الوضع، وإنما يتهيبون الأعراف، مع أنهم في جانب مباين جداً في أبواب الأعراف؛ لشدتها عند أهل الإسلام وعند العربي على سبيل الخصوص.
أسباب تمكين الفرنسيين لهم في حكم الشام
ولقد مكن لهذه الطائفة لأجل هاتين العقيدتين: العقيدة الأولى: أنها باطنية، فتستطيع أن تركب أي مطية ظاهراً، ولا تمانع من أي نظام أو تتبع أي طريق، والعقيدة الثانية: إبطال شريعة الجهاد؛ فإنهم لا يرون جهاداً إلا مع المهدي المنتظر ؛ ولهذا رأى الفرنسيون أنهم مع هذه الطائفة مخيرون بين أمرين: إما أهل سنة، ولو كان فيهم ضعف، والعقيدة موجودة في قلوبهم يخشون من أن تحيا، أو طائفة تؤمن برجل قد غاب بالسرداب، ولو كانت تؤمن بالجهاد، وهذا الجهاد لا يمكن أن يكون إلا بخروجه، ومتى يخرج؟ هذا يرون أنه من الخرافات، ويرون أنها طائفة خرافية؛ فلهذا مكنوا لها فجعلت أهل الشام ينشغلون بالحياة المدنية، ومع قمع كل المخالفين لهم من أهل السنة وغيرهم.
وكذلك أيضاً لم يمكنوا لأنفسهم ظاهراً في تلك البلدان من جهة العقيدة؛ وذلك لمخالفة أصل الجهاد في ذلك فيما تقدم بأحد شقيه وهو مخالفة من أفشى السر حتى يظهر المهدي المنتظر، وأن من أفشاه يجب قتله.
الحكم على النصيرية
هذه الطائفة على مر القرون لم تكن من أهل الإسلام على الإطلاق عند سائر الطوائف حتى عند الشيعة على اختلاف أنواعهم؛ ولهذا كفروهم كما تقدم الكلام عليه، ولم يدخلهم في طائفة الرافضة والشيعة إلا محمد الصدر وهو جد أو والد مقتدى الصدر الحالي بوثيقة وقعت بين الاثني عشرية الصفوية الإيرانية، وبين النصيرية قضت بأنهم من الاثني عشرية، مع أنهم في كتبهم يكفرونهم، وقد كفرهم في ذلك متقدموهم، وكذلك أيضاً متأخروهم، وهذه الطائفة استيعاب فروعها وأحكامها، وكذلك أيضاً عقائدها، وكذلك أيضاً السلوكيات التي يؤمنون بها، هذا من الأمور المشكلة عند كثير من الناس؛ لأن المصنفات في إظهارها من أشد نواقض إيمانهم، ومحاربة تلك الظواهر واجب عليهم، بل هو أعظم الجهاد، ثم أيضاً إذا ظهر شيء من ذلك أنكروه، وأنه لا ينبغي أن يظهر في هذا، ويكفي في ذلك قتلهم لـسليمان الأفندي الأنطاكي حينما كان فيهم وخرج منهم وتنصر، وألف ذلك المصنف، فأرسلوا إليه أناساً من أهله وأقاربه أنه ينبغي أن يرجع وله الأمان في ذلك، فلما رجع إلى اللاذقية قتلوه وأحرقوه في ساحتها، وهذا نوع من الجهاد يرونه؛ لأنه أفشى ذلك السر، وهذا الكتاب مع أنه صنف بغير العربية إلا أنه ترجم في ذلك، وهو موجود أيضاً ومتوفر في اللغة العربية في قرابة مائة وخمسين صفحة، ذكر عقائدهم وما علموه في ذلك، وكذلك أيضاً المراحل المتطورة فيها، وذكر عقيدتهم في فروع الإسلام، وعقيدتهم في الآداب والسلوك، وعقيدتهم في أركان الإسلام والإيمان بالله سبحانه وتعالى، وعقيدتهم في علي بن أبي طالب ومحمد صلى الله عليه وسلم وكذلك سلمان الفارسي ، وعقيدتهم في الأئمة الاثني عشرية، وقليل من يخرج منهم في ذلك؛ لأنهم يطيلون أمد التعليم، والاختبار في هذا.
وأول ما يستعملونه هو الإهانة النفسية والخضوع للولي، ويصبر في ذلك مدة ثلاثة أشهر، كذلك يكرر اسم محمد و علي و سلمان الفارسي بثلاثة رموز وهي الميم والعين والسين يكررها خمسمائة مرة في كل يوم لمدة ثلاثة أشهر، وهذا لا يطيقه أحد، ثم يبدءون بعد ذلك بإخباره بشيء من تعليم دينهم من جهة بعض العقائد الباطنية، ثم بعد ذلك يخبرونه باستباحة الفروج، بل واللوطية يستبيحونها، ويرون أن هذا من التواضع للإيمان، وقد ذكر بعضهم وهو سعد بن عبد الله القمي وهو من الرافضة أيضاً، وذكر بإسناده في كتابه في مقالات عن الشيعة، وهو قد توفي في أوائل القرن الرابع، ذكر بإسناده عن محمد بن نصير أنه سئل عن اللوطية فقال: هذا من التواضع للرب، بل ذكر بإسناده أنه شوهد رجل يواقعه في ذلك، فقيل: لم تفعل هذا؟ قال: هذا من التواضع للإله، ويرون هذه العقيدة، وأصبح كثير من الناس من الأتباع يتنكرون، منهم من يتنكر لهذا الأمر، ومنهم من يؤمن به، ولكن لا يؤمن به أحد إلا بعد مراحل متعددة؛ ولهذا ذكر سليمان وهو أظهر فيما أرى من فضحهم من الداخل، وهو سليمان أفندي الأنطاكي أو الأذني صنف فيهم رسالة تسمى الباكورة السليمانية في كشف أسرار النصيرية، صنف فيهم وتكلم عليهم من الداخل بعد ما تربى ونشأ على شيء من تعاليمهم، وقد تنصر وبقي على نصرانيته إلى أن قتل.
مراجع تتحدث عن النصيرية
نكتفي بهذا القدر ونعتذر عن الإطالة، والكلام فيه شيء من فروع هذه العقائد، وكذلك التأصيل لها والكلام أيضاً على المصنفات في ذلك القديمة منها والمتأخرة مما يطول جداً، وثمة مصنفات يحسن الرجوع إليها، منها: الباكورة السليمانية, وكذلك تاريخ العلويين لـمحمد أمين الطويل وهو منهم، وذكر شيئاً من تاريخهم، وكذلك العلويون النصيريون لـعبد الحسين بن مهدي العسكري، وثمة مصنفات أيضاً متأخرة تكلمت عن هذه الطائفة، ولا يوجد مصنف استوعب العقيدة باطناً وظاهراً فيما أعلم, وإنما هي منتشرة في كثير من المصنفات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق