الخميس، 8 فبراير 2024

مذاهب البطولة وأنواع الأبطال!

مذاهب البطولة وأنواع الأبطال!


"قد سمعت مني وسمعت منك فأما ما قلته فقد وقع مني موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالي لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن فإن رأوا في الذي عرضت مثل الذي أرى فقد رآه أهل العسكر والأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم وكنت على رأس أمرك".

 

فأعجب الأرطبون أن الصيد سيكون أعظم من هذا، سيبلغ عشرة من كبار القادة، فأرسل إلى المكلفين بالاغتيال أن يتوقفوا، وبهذا نجى عمرو، ثم علم الأرطبون أنه كان هو الخاسر في حرب العقول هذه، فقال: خدعني الرجل هذا أدهى الخلق. ولما بلغت عمر فقال غلبه عمرو لله عمرو، لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب.

 

3. استخدام الحرب النفسية

ومما لا ينتبه له كثيرا في بطولات أجدادنا الفاتحين استعمالهم للحرب النفسية، وبها بلغوا نتائج لم يكن بالإمكان تحصيلها بغير هذه الوسيلة. وهو ما ينبغي أن ننتبه له في واقعنا المعاصر ونستفيد منه.

 

سنحكي في هذا الإطار مثالا واحدا فحسب، وهي الخطة التي وضعها خالد بن الوليد في معركة اليرموك الفاصلة.

 

لقد بنى خالد بن الوليد خطته يوم اليرموك على إحداث الصدمة النفسية في جيش الروم، وكانت الانتصارات السابقة للمسلمين قد أوقعت الفزع في نفوس الروم، حتى إن هرقل إمبراطور الروم أمر قائده في اليرموك باهان -وكان من أشهر قادتهم وأكثرهم قوة وذكاء- أن يضع جيشه في موقع من الأرض "واسع المطرد ضيق المخرج" بحيث لا يكون أمامهم فرصة إلا الثبات، كذلك فقد جعل صفوفا من جنوده مربوطين بالسلاسل لئلا يندفعون إلى الهروب إذا شدّ عليهم المسلمون.. وقد اختار قائده بالفعل موقعا تتحقق فيه هذه الصفات، حيث موقع المعركة نفسه فسيح ولكنه محدود من ثلاث جهات بفروع نهر الأردن، ولا يبق إلا الموضع الذي دخلوا منه، وهو الذي جاءه المسلمون فيما بعد فصار الروم بين المسلمين من الأمام وبين الماء من ثلاث جهات، حتى قال سيدنا عمرو بن العاص: "أبشروا، قد حصرت اليوم، ولا يأتي محصور بخير".

 

البطولة لا تنحصر فقط في القتال، بل لا بد لها من أبطال آخرين في ساحة السياسة والتفاوض والسفارة وعرض الأفكار، أي لا بد أن يكون جهازها الإعلامي والدبلوماسي على نفس القدر من الكفاءة والإجادة

ومن قوة الصدمة النفسية أن أحد فرسان الروم الكبار وهو من سفرائهم كذلك، أي أنه جمع بين القوة والعقل، وكان اسمه جرجة، أسلم قبل أن تبدأ المعركة، حيث خرج بين الصفين بعد انتهاء المفاوضات وقبل ابتداء القتال ونادى على سيدنا خالد بن الوليد، فخرج له واقتربا حتى أمن كل منهما الآخر، ثم قال له:

– يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع.. بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟

–  قال: لا.

–  قال: فبم سميت سيف الله؟

–  قال إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا فنفرنا عنه ونأينا عنه جميعا ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به فتابعناه فقال أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ودعا لي بالنصر فسميت سيف الله بذلك فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

ثم أسلم جرجة وانحاز إلى المسلمين وقاتل معهم، واستشهد في اليرموك ولم يصل إلا ركعتي إسلامه، وقيل: بل لم يصل أبدا. فهو ممن مات على الشهادة ولم يسجد لله سجدة.

 

نعود إلى خطة خالد بن الوليد في اليرموك.. لقد استوعب خالد منذ رأى فرسان الروم أن عددهم وقوتهم أكبر بكثير من فرسان المسلمين، وأنه لا يستطيع أن يتصدى لهم، فكان أساس خطته أن يحتفظ بفرسانه دون خوض قتال، وأن يجعلهم خلف جيش المسلمين من المشاة، وأن يتحمل المشاة المسلمون صدمة فرسان الروم.. لذلك أوصى المسلمين بالصبر والثبات ما استطاعوا، ثم ذهب إلى النساء في مؤخرة الجيش فأوصاهن أن يضربوا من يرجع منسحبا من أمام الروم بالحجر أو حتى بالسيف حتى يعود مرة أخرى لقتالهم فلا يتتابع انسحاب المسلمين.

 

كان خالد يريد امتصاص صدمة فرسان الروم وإضعافها بمقاومة الفرسان المسلمين وتيسير انفصال فرسان الروم عن بقية الجيش وهو من المشاة.. وبالفعل تحقق الواقع كما أراد خالد، فاندفع فرسان الروم يهاجمون الميمنة والميسرة، واستطاعت صدمتهم الشديدة أن تضغط على جيش المسلمين حتى تقهقرت وضعفت الميمنة والميسرة واستطاع بعض فرسان الروم أن ينفذ من جيش المسلمين إلى أن وصل إلى معسكر النساء، ومع قوة الصدمة انهارت بعض قطاعات الميمنة والميسرة فانسحب منهما المسلمون، وهنا جاء دور النساء اللاتي صرن يقذفن المتراجعين ويواجهن من استطاع النفاذ إليهن من فرسان الروم بالحجارة والخناجر وعواميد الخيام.. وكانت لحظات عصيبة ظهرت فيها بطولات وبسالات شديدة في الصمود والثبات.

 

كل هذا وسلاح الفرسان لم يتحرك بعد.. لقد انتظر خالد حتى يتحقق من انفصال الفرسان عن المشاة، ومن تعثر صدمة الفرسان بثبات المسلمين، وهنا تدخل سلاح الفرسان وانطلق قسم بقيادة خالد وقسم بقيادة قيس بن هبيرة، فنفذوا هجوما مفاجئا على فرسان الروم الذين اضطرب أمرهم لظهور قوات أخرى من الجيش لم يتنبهوا لها، فتخلخل هجومهم ونظامهم وزادوا تعثرا، ثم سمح لهم خالد بالنفاذ والخروج من المعركة، فانطلقوا في ظل هذه الصدمة النفسية يهربون من ذلك المنفذ الذي يقع خلف معسكر المسلمين.

 

مما لا ينتبه له كثيرا في شأن الحروب والمفاوضات أمر الحرب النفسية، وهي مسألة في غاية الأهمية ونغفل عنها كثيرا، وقد صارت الحرب النفسية الآن علما كبيرا وله نظرياته وفروعه ومؤلفاته

ثم عاد خالد ليهاجم جيش الروم (المشاة) بعد فراغه من فرسانهم، وعندئذ تحققت الصدمة التي كان ينتظرها خالد رضي الله عنه، إذ صار المشهد عند الروم أن فرسانهم قد انطلقوا فخاضوا المعركة ثم لم يرجعوا، وإذا بهم يفاجؤون بهجوم فرسان المسلمين عليهم.. فوقع فيهم الاضطراب والارتباك، وصاروا يتراجعون إلى الخلف، وزاد الطين بلة أنهم لا مهرب لهم إلى الخلف، بل إن ثمة جنود لا يستطيعون انسحابا طبيعيا لأنهم مترابطين بالسلاسل.. فصارت فرسان المسلمين ثم مشاتهم تضغط على جيش الروم الذي لا يجد إلا الرجوع أكثر مما يزيد في اضطرابه وارتباكه، وكان الزمن في تلك اللحظة قد صار بعد العصر، وكان اليوم ضبابيا.. فانهار جيش الروم بوقوعه في الواقوصة، المرتفع الذي ينحدر إلى النهر. وبهذه الصدمة النفسية، انتصر المسلمون في أعظم معارك فتوح الشام وفي واحدة من أعظم معارك كل تاريخ الإسلام.

 

الخلاصة

لا تتقدم الأمم إلا على أكتاف الأبطال ذوي البسالة والتضحية، وما من أمة نهضت إلا وكان جيل تأسيسها من الأبطال الأشداء الذين بذلوا تضحيات هائلة مهدت الأرض لقيام دولتهم وحضارتهم.

 

إلا أن البطولة لا تنحصر فقط في القتال، بل لا بد لها من أبطال آخرين في ساحة السياسة والتفاوض والسفارة وعرض الأفكار، أي لا بد أن يكون جهازها الإعلامي والدبلوماسي على نفس القدر من الكفاءة والإجادة.. وصحيح أن قوة السياسي تكمن فيما يسنده من المقاتلين البواسل، ولكن الصحيح أيضا أن السياسي يستطيع بذكائه وعقله أن يحقق ما تعجز عنه السيوف وأن يمهد لانتصارها النفوس.

 

ومما لا ينتبه له كثيرا في شأن الحروب والمفاوضات أمر الحرب النفسية، وهي مسألة في غاية الأهمية ونغفل عنها كثيرا، وقد صارت الحرب النفسية الآن علما كبيرا وله نظرياته وفروعه ومؤلفاته، ولا بد للمجاهدين من قراءة هذه الكتب واستيعاب هذه النظريات واستعمال هذه الأساليب.. فرب خطة حكيمة أنهت معركة فاصلة فارقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق