مصر.. المشكلة والحل!
يقول أهلنا في مصر بلهجتهم الدارجة: "كُتر الحِزن يِعَلِّم البُكا"، ولا أظن المقولة تحتاج ترجمة إلى الفصحى!
هذا هو حال المصريين اليوم.. الكل حزين.. الكل يبكي.. الكل يتكلم في جزع، وغضب، وفُحش أحيانا، حتى أولئك الذين اعتادوا "الفُرجَة"، و"أدمنوا" السكوت!
تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي أعتقد جازما أنها "بفعل فاعل" والفاعلون معروفون، بات المصريون، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، حتى الأميون منهم، يتكلمون في الاقتصاد، ويطرحون حلولا للأزمة الاقتصادية التي تجلت في انهيار القيمة الشرائية للجنيه المصري، والارتفاع الجنوني في أسعار السلع، وانخفاض المداخيل الدولارية، والتوسع في الاقتراض، والعجز عن سداد الديون الهائلة، واستنزاف أو "تبديد" أموال المودعين في البنوك، وتوقف المصانع عن الإنتاج، وزيادة نسبة البطالة، وغياب تام للرقابة على الأسواق، الأمر الذي جعل طبقات المجتمع كافة تصرخ في هلع، وتئن في يأس، وتلعن الساعة التي رأوا فيها سِحنة الجنرال المنقلب ياسر جلال، وسمعوه يقول لهم: "إنتو مش عارفين إنكو نور عينينا وللا إيه؟".. "مصر أم الدنيا، وهتبقى أد الدنيا"!
ولا معنى لأن تكون مصر "أد الدنيا" ما دامت هي "أم الدنيا".. إلا أن طبيب الفلاسفة يجوز له قول ما لا يُستساغ من القول!
وقتذاك، هللت شريحة لا يُستهان بها من المصريين لزوال "حكم المرشد"، وإفشال مشروع "أخونة الدولة"، حتى إن إحداهن (محجبة) حمدت الله؛ "لأنه خلصها من بتوع قال الله وقال الرسول"! وأكاد أجزم أن هذه السيدة وملايين غيرها استفادوا أيما استفادة من مشاريع الإخوان المسلمين الخيرية مثل: المستشفيات والعيادات الاقتصادية، ومعامل التحاليل شبه المجانية.. الصيدليات التي تصرف الدواء (مجانا) لمعدومي الدخل.. معارِض العودة إلى المدارس بأسعار زهيدة.. معارض السلع المعمرة بأقساط مريحة.. توفير اللحوم في الأعياد بأسعار في متناول الفقراء، وغير ذلك من الخدمات التي كان يقدمها الإخوان للطبقتين الفقيرة والمتوسطة..
وأحسب أن حسني مبارك كان يعي تماما أهمية الدور الذي يلعبه الإخوان، في التخفيف من أعباء الحكومة، فوضع سقفا لعداوتهم واضطهادهم، فلم يفجُر في الخصومة معهم، رغم بغضه لكل ما هو إسلامي!
صور من حلول المصريين للأزمة الاقتصادية
الحلول التي يطرحها المصريون لأزمتهم الاقتصادية المزلزلة متباينة كتباينهم فكريا، واجتماعيا، وثقافيا، ودينيا أيضا..
فمنهم من بات يتمنى الموت لينقطع عن هذا العالم الظالم أهله، فيكُف عن التفكير في كيفية توفير الضرورات التي لم يعد دخله يكفي لتأمين رُبعها.. يأس فوقه يأس، تحته يأس، ولا حل يلوح في الأفق!
ومنهم من يفكر في الانتحار منفردا، أو مع أولاده، وقد حدث؛ للخلاص من هذا الغم الذي لا يعرف متى يزول ولا كيف.. قمة الضعف، وقلة الحيلة، وفقدان الأمل!
ومنهم من يتمنى الاعتقال؛ للحصول على "اللقمة" التي يسد بها رمَقه، حتى لو كانت حريته هي المقابل.. عدمية وإحباط!
ومنهم من يجأر بالشكوى لـ"الرئيس" الذي "انتخبه" ثلاث مرات، اعتقادا منه أنه المنقذ والمخلِّص، ولا يزال يراه جديرا بـ"الرئاسة"، فيرجوه ويستعطفه أن يجد حلا لمشكلته التي تتفاقم كل ساعة.. خيبة ما بعدها خيبة، وعمَى ما بعده عمَى!
ومنهم من يمسك براتبه الشهري الذي يساوي خمسين دولارا، ويطلب (في ذل ومسكنة) إلى "رئيسه" الذي يحبه ويقسم على ذلك أن يضع نفسه مكانه، ويريه كيف سيعيش هو وأسرته 30 يوما بخمسين دولارا.. يا مستني السمنة من بطن النملة!
ومنهم من يقدم على طلاق زوجته؛ ظنا منه أن الطلاق سيعفيه من أعباء أسرته، فيكتشف أن هذا ليس حلا، بل هو إجراء أحمق، ضاعف مشكلته، وفاقم أزمته.. إنه فقدان القدرة على التفكير، والهروب من المسؤولية من أي طريق، حتى لو كان مسدودا!
ومنهم من يلعن ياسر جلال "ع السبحة" كما يقولون، في غير خوف ولا وجل.. إذ لم يعد لديه ما يخاف عليه، فهو في نظر زوجته وأبنائه "وجوده زي عدمه".. لا فائدة تُرجى منه ما دام عاجزا عن توفير لقمة العيش لهم.. ليست شجاعة.. إنه نوع من اليأس فاق معنى اليأس!
ومنهم من تظهر على وجهه بقايا آثار النعمة التي زالت، بسبب التضخم الذي ابتلع راتبه، فإذا هو عاجز عن توفير "أساسيات" الحياة، أو فقد وظيفته؛ بسبب إغلاق الشركة التي يعمل بها، أو توقف نشاطه التجاري؛ لعجزه عن توفير الدولار لاستيراد مستلزمات الإنتاج..
هؤلاء يتكلمون (في أسى وغيظ وتوبيخ وتهكم) عن المشاريع الفنكوش، وتدني كفاءة الحكومة، وعدم اكتراثها بمشاكل المواطن، وفشلها في ترتيب الأولويات.. إلخ..
عقلانية وانضباط في الطرح لا أظنهما سيستمران طويلا إذا طالت الأزمة، ساعتها سيفكر هذا النموذج "العاقل" كما يفكر النماذج الثلاثة الأولى.. تمني الموت، أو دخول السجن، أو الإقدام على الانتحار، إلا أن يكون مؤمنا قوي الإيمان، فيرى فيما يمر به ابتلاءً سيزول يوما بحول الله، وما عليه سوى الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره..
ومنهم خبراء اقتصاد ناصحون مخلصون (في مصر وخارجها) يقدمون حلولا اقتصادية علمية باتت من البديهيات، يستحيل تحقيقها للأسف الشديد؛ لأن البيئة المصرية قد ضرب في أطنابها الظلم، والفساد، والخيانة.. ذلك الثالوث الدنس الذي ينخر وينهش في لحم مصر، وعظامها، وأحشائها.. فأنَّى لبذور الإصلاح أن تنمو في بيئة كهذه البيئة؟.. نفخٌ في "قربة مخرومة"!
إن من البلاهة والعَتَه أن يؤمل أحدٌ خيرا، أو ينتظر إصلاحا لهذا الحال، ما بقي هذه الثالوث الشيطاني يحكم ويتحكم، بغض النظر عمن يدير هذه المنظومة الظالمة الفاسدة، الغارقة في وحل الخيانة، بكل أجنحتها!
أزمة مصر بدأت أمس وتفاقمت اليوم!
لا أعرف دولة تقدمت وازدهرت، ووفرت احتياجات مواطنيها، وحققت لهم الرفاه والأمن، وصانت كرامتهم وإنسانيتهم، إلا وقد توفرت لدى إدارتها السياسية الإرادة والعزم على تحقيق ذلك، وهذا أمر لم تعرفه مصر منذ انقلاب يوليو 1952.. ويوم جاء رئيس منتخب (لأول مرة) ووضع نصب عينيه إنجاز كل ذلك وتحقيقه، متسلحا بالنزاهة والزهد والتفاني، تم الانقلاب عليه؛ حتى يبقى الشعب المصري في حالة "موت سريري"، بين الحياة والموت، لصالح الكيان الصهيوني أولا، ولصالح دول الخليج التي دعمت الانقلاب على الرئيس المنتخب ثانيا؛ بهدف "الاستيلاء" على مكانة مصر ودورها في الإقليم!
لننظر إلى الدول التي خرجت مهدَّمة من الحرب العالمية الثانية، في وقت كان الجنيه المصري أقوى من الدولار.. أين أصبحت هذه الدول وأين أصبحت مصر؟
لقد توفرت إرادة النهوض والتقدم والازدهار لدى الإدارة السياسية في تلك البلاد، بينما كان حكام مصر الجُدد (انقلابيو يوليو 1952) مشغولون بالاستحواذ على السلطة، واستعباد الشعب، ونهب مصر..
إن ما تعانيه مصر اليوم من تدهور وتحلل وعجز هو النتيجة الحتمية الذي استغرق ظهورها واستفحالها اثنين وسبعين سنة من العبث والنهب والفساد والخيانة، مع التسليم بأن ما شهدته مصر (من كل ذلك) خلال السنوات العشر الأخيرة، يساوي ما تم ارتكابه في عهد عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
نموذج لتوفر الإرادة
مرت تركيا (تحت حكم العسكر برضه) بظروف اقتصادية أسوأ مليون مرة من التي تمر بها مصر حاليا، ومليون مرة ليست من باب المبالغة، ولكنها من باب التأكيد على كونها حقيقة!
ففي عام 1999، أي قبل 25 سنة فقط، أصدرت تركيا ورقة نقدية بقيمة 10,000,000 (عشرة ملايين ليرة)!
كانت قيمة العشرة ملايين ليرة الشرائية تساوي "عشر ليرات" فقط (10 ليرات) أي "ثلث دولار" بسعر اليوم (0.33 دولار) أي أن الليرة كانت تساوي "عُشر الثلث" من الدولار، يعني (0.033).. يعني ولا حاجة!
ثم جاءت حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان في عام 2002، فأعادت ترتيب الأولويات، وأغلقت صنابير الفساد، وأحدثت طفرة اقتصادية، كان أساسها الإنتاج، والتصنيع، والاكتفاء الذاتي، والتصدير، فاستطاعت في عام 2004 حذف "ستة أصفار" من عملتها، أي بعد سنتين فقط من انتخابها. وأصبحت تركيا (اليوم) في مصاف الدول الكبرى، وبين "العشرين الكبار" رغم ما تعرضت له عملتها المحلية من حراب شعواء (على مدى سنوات) بغية إضعافها.. ولكن وجود إدارة وطنية مخلصة لبلادها وشعبها، لديها إرادة للنهوض، والازدهار، وتوفير حياة كريمة لمواطنيها، حالت دون تفاقم الأزمة الاقتصادية في تركيا، رغم انخفاض الليرة أمام الدولار..
فالسلع كافة متوفرة، والإنتاج يكفي الاستهلاك المحلي ويفيض منه للتصدير، والحد الأدنى للأجور يرتفع باضطراد، بالتشاور مع النقابات العمالية والمهنية، بالقدر الذي يعين المواطن التركي البسيط على توفير حاجاته الأساسية، بجودة عالية..
الحل الجذري للمشكلة
إذن علاج المشكلة المصرية (التي لم تتفاقم بعد) معروف ومدروس ومُجرَّب ولا يحتاج (في تقديري) إلا إلى:
(1) قيادة سياسية راشدة كفؤة، زاهدة في السلطة والمال، لا تحركها سوى المصلحة الوطنية، تضع خطة شاملة لإنقاذ مصر، الأمر الذي يعني (بالضرورة) إزالة هذا النظام بالكلية لاستحالة إصلاحه.
(2) حكومة كفاءات وطنية ترعى مصالح الشعب بحق، ولا تعطي لنفسها أي امتيازات غير التي من شأنها أن تسهل أعمالها..
(3) وقف نزيف أصول البلاد التي تؤول (بالبيع) إلى الأجانب (عن عمد) بهدف الاستحواذ على القرار الوطني، وليس بهدف الاستثمار.
(4) وضع "خريطة اقتصادية" لمصر، كأساس لخطة طموحة تهدف إلى الاستفادة القصوى من موارد مصر الظاهرة والباطنة..
(5) غلق صنابير الفساد، وردم قنوات "التسرب المالي" الذي يشكل رقما ضخما في ميزانية الدولة.
(6) ضم ميزانيات الصناديق الخاصة والسيادية واقتصاد الجيش إلى ميزانية الدولة، ومن المعروف أن ميزانيات هذه "البلاعات" مجتمعة تفوق ميزانية الدولة.
(7) استعادة الأموال المنهوبة المكدسة في البنوك الأجنبية.
(8) بتنفيذ البنود (5) و(6) و(7) سيتوفر لدى الحكومة السيولة الكافية؛ لسداد الديون كافة، وإنشاء مشاريع إنتاجية، وإعادة تشغيل المشاريع التي توقفت، بما يكفي الاستهلاك المحلي، ويفيض للتصدير.
(9) خروج المؤسستين العسكرية والأمنية (بكل فروعهما وأجنحتهما) من السياسة والاقتصاد.
(10) إعادة صياغة علاقات مصر الخارجية بما يحقق مصالح الشعب المصري.
(11) العمل بصبر وأناة على إصلاح ما أفسده العسكر طوال اثنين وسبعين عاما، كانت العشر الأخيرة منها هي الأسوأ على الإطلاق، فحجم الدمار الذي لحق بمصر على يد الجنرال المنقلب ياسر جلال لم يُحدثه عبد الناصر والسادات ومبارك مجتمعين!
(12) قبل كل ذلك وبعده، إطلاق سراح معتقلي الرأي، وتعويضهم ماديا وأدبيا، ورد الاعتبار إليهم، ومحاكمة المفسدين، والقصاص من القتلة، وتعويض ضحايا الانقلاب، وفتح المجال العام.
اللهم هيئ لمصر من أمرها رَشَدا، وولّ عليها من ينهض بها ويصونها، ويحنو على أهلها بحق.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق