عندما يصبح التعرّي بطولة!
٢٠٠ خطوة قطعها، وكأنه يقطع ٢٠٠ كم، قطعها في بضع دقائق وكأنها بضع ساعات، شعر فيها لو أنه استشهد ألف مرة مع عائلته تحت القصف لكان أهون عليه من أن يعيش هذه اللحظات المفرطة في القسوة والإذلال والإهانة. اضطر الدكتور محمد إبراهيم الرن، مدير قسم الجراحة بالمستشفى الإندونيسي في مدينة غزة للإذعان لطلب الجيش الصهيوني منه بتسليم نفسه وإلا سيقومون بتدمير المستشفى على من فيه، وما أن أطل برأسه خارج بوابة المستشفى، حتى قرع أذنيه صوت قادم من جهة الدبابة الواقفة في منتصف الشارع وقد صوبت مدفعها باتجاهه؛ يأمره بأن ينزع ملابسه كلها الخارجية والداخلية، وأن يمسك لباسه الداخلي، ويلوح به ويمشي بخطوات ثابتة بين المواطنين الذين أمرهم الاحتلال بالوقوف صفين، أحدهما للرجال على يمين الشارع، والثاني للنساء على يساره.
ظن جلادوه أنهم بأفعالهم هذه سيقتلونه مرات ومرات كلما خطر بباله ما حل به من إذلال وامتهان، وما خطر ببالهم أن "محمد الرن" خرج من المعتقل إنساناً آخر، يحمل في صدره ثورة عارمة وبركانا لا يهدأ، سيظل يغلي في صدور أبنائه وأحفاده ومواطنيه، ملتصقا بأرض فلسطين إلى أن يتحقق الوعد.
الهمجية الخاسرة
يعلم الدكتور محمد الرن جيداً بشاعة الاحتلال الصهيوني وهمجيته التي تربى عليها منذ نعومة أظافره، ويعلم جيدا أصناف التعذيب والتنكيل التي يمارسها الكيان الصهيوني في السجون المعتقلات، وعندما خرج من بوابة المستشفى مفضلا التضحية بنفسه على التضحية بالمستشفى ومن فيه من المرضى والجرحى؛ لم يكن يدور في مخيلته أن ذاهب لضيافة قصيرة عند زبانية الاحتلال، فهو يعرفهم جيدا، ويعرف تفاصيل قصته معهم منذ نعومة أظفاره، وهي ذات القصة نفسها التي عاشها معهم أبوه وجده. إنها قصة مصير، وقصة ماض مؤلم لا ينفك يغذي حاضره، ويتسلق جدران مستقبله الحالم، فقد ورضع أهازيج الحنين وقصائد العزة والصمود، وحفظ قصص المقاومة والبطولة والشهادة والنصر عن ظهر قلب، ولم تفارق مخيلته شعارات المقاومة والتحرر والعودة المرشوشة بألوان ثورية لا تخرج عن الأسود والأحمر والأخضر والأبيض، على الأبواب والحيطان وأغلفة الكراسات والكتب، فقد عششت تفاصيل القضية الفلسطينية في خلايا جسده الممتد عبر السنين، دون أن ينتمي إلى تنظيم ساسي أو عسكري، وحملها معها إلى مدن عديدة في العالم أثناء دراسته الجامعية، وأثناء عمله في المستشفيات الفلسطينية في غزة.
كان بإمكان محمد الرن أن يرفض أوامر الجيش الصهيوني، وأن يتلقى بصدره رصاصات الانتقال إلى جنة الخلد صابراً محتسباً، مسطّراً قصة بطولية استثنائية، ولكنه استجاب لطلبهم، ليسطر بعرضه معانٍ جديدة من البطولة والصبر والتحمل والثبات، وليرد الغيظ والقهر إلى صدور جلاديه.
لوحة المجد
بعد "طوفان الأقصى" وبدء حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية على قطاع غزة؛ كان الدكتور الرن كغيره من الكوادر الطبية الصامدة في المستشفيات وكغيره من المواطنين والنساء والأطفال؛ يتوقع الشهادة في أي وقت، بسبب وبدون سبب، وكانوا جميعا يصرون بثبات صلب وبسالة عجيبة على القيام بما ينبغي عليهم مهما كان الثمن، معتبرين ذلك هو الشكل الوحيد الذي يملكونه لمواجهة هذه الحرب الظالمة، ولكن الدكتور الرن لم يدر في خلده، ولم يخطر بباله أن الجيش الصهيوني الغاشم سيجبره على السير عاريا يلوح بلباسه الداخلي كالبهلوان بين أبناء شعبه الذين طأطأوا رؤوسهم خجلا وحياء، وضاقت صدورهم كمدا وحسرة منذ اللحظة الأولى الذي تبين لهم فيها هول المشهد. أما جلادوه، فكانوا في انتظاره فور وصوله بالضرب والركل والشتم المتواصل ولساعات طويلة في السيارة التي نقلوه فيها بعد أن قيدوا رجليه ويديه وراء ظهره، وعلى أبواب المعتقل الذي المعتقل الذي قضى فيه ٥٠ يوما، عاريا إلا من حفاظة (بامبرز)، مع حوالي ١٠٠ من المعتقلين الذين يعيشون ظروفا متشابهة، ويرسمون معا لوحة المجد التي ستضيئ صفحات التاريخ على مدى الأجيال.
كان بإمكان محمد الرن أن يرفض أوامر الجيش الصهيوني، وأن يتلقى بصدره رصاصات الانتقال إلى جنة الخلد صابرا محتسبا، مسطرا قصة بطولية استثنائية، ولكنه استجاب لطلبهم، ليسطر بعرضه معان جديدة من البطولة والصبر والتحمل والثبات، وليرد الغيظ والقهر إلى صدور جلاديه.
اعتقلوه عاريا، وأفرجوا عنه عاريا على بوابة كرم "أبو سالم"، يتلفت يمنة ويسرة، ومن خلفه ومن أمامه ومن بين قدميه، بحثا عن خرقة ممزقة يستر بها عورته،
لقد ظن جلّادوه أنهم بأفعالهم هذه سيقهرونه، وسيقتلونه مرات ومرات كلما خطر بباله ما حل به من إذلال وامتهان، وما خطر ببالهم أن محمد الرن خرج من المعتقل إنسانا آخر، يحمل في صدره ثورة عارمة وبركانا لا يهدأ، سيظل يغلي في صدور أبنائه وأحفاده ومواطنيه، وسيزيده التصاقا بأرض فلسطين وامتزاجا بترابها إلى أن يتحقق الوعد.
عاد د. محمد الرن، استشاري الجراحة العامة والأورام والمناظير، إلى أسرته وعيادته ليزاول عمله، ويواصل صموده، ويعزز التحامه بالأرض التي ارتوت بدماء الأبطال والشهداء، تأبي أن تستسلم للدمار، وأن تستكين تحت الركام، وأن تنهزم أمام حمم الإبادة المجنونة.
عاد الرن، وبقيت الأسئلة: لماذا يقوم الكيان الصهيوني بهذه الأفعال، وغيرها الكثير من الانتهاكات اللاأخلاقية التي لم تعرفها الحروب من قبل؟ وأين سدنة النظام العالمي الإنساني الأخلاقي عن الوقوف في وجه هذه الأفعال؟
أما الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي، فقصته ملحمة بطولية أخرى، تنتظر إتمام الفصل الأخير بالإفراج القريب عنه إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق