جَريمةُ بِناء الكنائسِ والمعابد في الجَزيرة العربيَّة
عَلَوي بن عبد القادر السَّقَّاف
المشرِف العام على مؤسَّسة الدُّرر السَّنية
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله،
أمَّا بعد
فهذه وُريقات عن حُرمة بناء الكنائس والمعابد في جَزيرة العرب؛ دفعني لكتابتها ما يتردَّد كثيرًا هذه الأيَّام في المحافل والمؤتمرات([1])، وما يُسمَّى بمنظَّمات الحقوق العالميَّة، وتقارير وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة([2])، وغيرها، من الدعوة لبناء الكنائس في الجزيرة العربيَّة؛ يَغيظهم كونُها حرَمَ الإسلام ومعقِلَه وقاعدته الأولى! ويُردِّد ذلك معهم في بعض وسائل الإعلام مَن أعاروا عقولَهم لغيرهم، وأثاروا الشبهات والشكوك حولَ هذه المسألة القطعيَّة من دِين الإسلام.
وقدْ نقلتُ فيها طرفًا من النُّصوص الدالَّة على تحريم ذلك، وأقوال العلماء في المسألة، مع الردِّ على شبهات المعاصرين.
فأمَّا جزيرة العرب، أو شِبه الجزيرة العربيَّة، فـ(يحدُّها غربًا: بحر القُلْزُم، وهو المعروف الآن باسم: البحر الأحمر، وجنوبًا: بحر العرب، ويقال له: بحر اليمن، وشرقًا: الخليج العربي، والتحديد من هذه الجِهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتِّفاق بين المحدِّثين، والفُقهاء، والمؤرِّخين، والجغرافيِّين، وغيرهم. وممَّن أفصح عن هذا التحديد بالنصِّ: ابنُ حَوْقَل، والإصطخري، والهَمْداني، والبَكري، وياقوت، وهو منصوصُ الرِّواية عن الإمام مالكٍ، وتفيده الروايةُ عن الإمام أحمد؛ رحِم الله الجميع. ويحدُّها شمالًا: ساحلُ البحرِ الأحمر الشرقيُّ الشماليُّ، وما على مسامتته شرقًا؛ من مشارف الشام والأردن والعراق، وعليه؛ فالأردُنُّ، وسوريَّا، والعراقُ؛ ليست في محدود جزيرة العرب، وهو ما حرَّره شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى، فقال([3]): "جزيرة العرب: هي من بحر القُلزم إلى بحر البَصرة، ومن أقصى حِجْرِ اليمامة إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخُل اليمن في دارهم، ولا تدخُل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العربُ حين البعث وقَبْله...")([4]).
وهذا يعني: أنَّ دول مجلس التعاون كلها واليمن داخلةٌ تحت مسمَّى الجزيرة العربية - على الرَّاجح من أقوال العلماء.
وهناك أقوالٌ أخرى ذكرها وفنَّدها الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتابه الماتع ((خصائص الجزيرة العربية))؛ فليراجعها مَن شاء.
وأمَّا الأدلَّة على تحريم بناء الكنائس والمعابد فيها: فقد وردتْ أحاديث صحيحة تحرِّم الإذنَ بوجود دِين آخَر مع الإسلام في جزيرة العرب، وهي تقتضي تحريمَ بناء معابد لغير المسلمين من كنائس وغيرها من باب أَوْلى، ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((لا يُترَك بجزيرةِ العربِ دِينانِ)) رواه أحمد وغيره وصححه جمع من أهل العلم.
وعلى هذا جرى عمل الأمَّة قرونًا طويلة، ابتداءً من عصر خير القرون، وحتى وقتٍ متأخِّر من التاريخ الإسلامي، فلقد أجْلى عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يهودَ خَيبر ونجران وفَدَك، ووضَع الشروط المشهورة بالعمريَّة([5])، وفيها: (أنَّا شَرَطْنا على أنفسنا أنْ لا نُحدِث في مدينتنا كَنيسةً، ولا فيما حولها ديرًا، ولا قَلَّايةً ولا صَومعةً([6]))، وفي كتاب ((الأموال))([7]) لأبي عُبيد القاسم بن سلَّام، و((مصنف ابن أبي شَيبة))([8]) بإسنادٍ ضعيف عن عِكرمة، قال: سُئِل ابن عبَّاس عن أمصار العرب، أو دار العرب؛ هل للعجم أن يُحدِثوا فيها شيئًا؟ فقال: ( أيُّما مِصرٍ مَصَّرتْهُ العربُ فليسَ للعَجمِ أن يبنوا فيهِ بناءً، ولا بيعةً، ولا يضربُوا فيه ناقوسًا...).
قال القاضي تقيُّ الدِّين السُّبكي: (وقد أخَذ العلماء بقول ابن عبَّاس هذا، وجَعلوه - مع قولِ عُمَرَ وسكوتِ بقيَّة الصَّحابة - إجماعًا)([9]).
وفَهِمَ هذه الدَّلالةَ من أهل القرون المفضَّلة من غير الصحابة علماءُ التابعين وحُكَّامُهم؛ فقد روى عبد الرزَّاق في ((مُصنَّفه)) عن عمِّه وهب بن نافع، قال: (كتب عُمرُ بن عبد العزيز إلى عُروة بن محمَّد: أنْ يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، قال: فشهدتُ عروة بن محمَّد ركِب حتى وقَف عليها، ثم دعاني فشهدتُ كتابَ عمر، وهدْمَ عروةَ إيَّاها، فهدمها)([10])، ورَوَى عن مَعمَر، عن إسماعيل بن أُميَّة، أخبره: (أنَّه مرَّ مع هشام بحِدَّة([11])، وقد أُحدثت فيها كَنيسة، فاستشار في هدْمها، فهدَمها هشام)([12]). وروَى عن الحسن البصريِّ قال: (من السُّنَّة أن تُهدم الكنائس التي بالأمصار القديمة والحديثة)([13]).
والآثار في هذا كثيرة جدًّا؛ (لهذا أجمع العلماءُ على تحريم بناء المعابد الكفريَّة، مثل: الكنائس في بلاد المسلمين، وأنَّه لا يجوزُ اجتماع قِبلتين في بلد واحد من بلاد الإسلام، وألَّا يكون فيها شيءٌ من شعائر الكفَّار لا كنائس ولا غيرها، وأجمعوا على وجوب هدْم الكنائس وغيرها من المعابد الكفريَّة، إذا أُحدثت في الإسلام)([14])، بل أجمعوا (على أنَّ بناء المعابد الكفريَّة - ومنها الكنائس - في جزيرة العرب أشدُّ إثمًا، وأعظمُ جُرمًا)([15]). وأقوالهم في هذا كثيرة جدًّا؛ منها:
1- قال الإمام محمَّد بن الحسن - صاحبُ أبي حنيفة -: (ليس ينبغي أن تُترك في أرض العرب كنيسة، ولا بَيعة، ولا بيتُ نار)([16])
2- وفي المدوَّنة الكبرى: (قلت: أرأيتَ هل كان مالك يقول: ليس للنصارى أن يُحدثوا الكنائس في بلاد الإسلام؟ قال: نعمْ، كان مالك يَكره ذلك)([17]).
4- وقال الإمامُ أحمد: (ليس لليهود ولا للنصارى أن يُحدِثوا في مِصرٍ مَصَّرَهُ المسلمون بيعةً ولا كنيسةً، ولا يضربوا فيه بناقوس)([19]).
5- وقال أبو الحسن الأشعريُّ: (إرادة الكُفر كفرٌ، وبناء كنيسة يُكفَر فيها بالله كُفر؛ لأنَّه إرادة الكفر)([20]).
6- وقال ابنُ قُدامة: (ويُمنعون من إحداث البِيَع والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين؛ لِمَا رُوي في شروطهم لعبد الرحمن بن غَنْم)([21]).
7- وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في ((الرسالة القبرصية)): (اتَّفق المسلمون على أنَّ ما بناه المسلمون من المدائن، لم يكُن لأهل الذِّمَّة([22]) أن يُحدِثوا فيها كنيسةً ... والمدينة التي يسكُنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجدُ المسلمين لا يجوز أن يَظهرَ فيها شيء من شعائر الكُفر، لا كنائس ولا غيرها)([23])، وقال: (مَن اعتقد أنَّ الكنائس بيوت الله، وأنَّ الله يُعبد فيها، أو أنَّ ما يفعله اليهود والنصارى عبَادةٌ لله وطاعةٌ لرسوله، أو أنَّه يحب ذلك أو يَرضاه، أو أعانهم على فتْحها وإقامة دِينهم، وأنَّ ذلك قُربةٌ أو طاعةٌ- فهو كافر)([24]).
9- وقال الحافظ ابن القيِّم: (ولا يُمكَّنون من إحداث البِيَع والكنائس، كما شرَط عليهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه... وهذا مذهب الأئمَّة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القُرى، وما زال من يُوفِّقه الله من وُلاة أمور المسلمين يُنفِذ ذلك ويَعمل به، مِثل عمر بن عبد العزيز، الذي اتَّفق المسلمون على أنه إمام هدى)([26]).
10- وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: (لا يجوز أن يُبنى في الجزيرة معابدُ للكفرة، لا النصارى ولا غيرهم، وما بُنِي فيها يجب أن يُهدَم مع القُدرة. وعلى وليِّ الأمر أن يهدمَها ويُزيلها، ولا يُبقي في الجزيرة مبادئ أو معاقل للشرك، لا كنائس ولا معابد، بل يجب أن تُزال من الجزيرة؛ حتى لا يَبقى فيها إلَّا المساجدُ والمسلمون)([27])، وقال: (أجمَع العلماء رحمهم الله على تحريم بناء الكنائس في البلاد الإسلاميَّة، وعلى وجوب هدْمها إذا أُحدِثت، وعلى أنَّ بناءَها في الجزيرة العربية - كنجد والحجاز، وبلدان الخليج واليمن - أشدُّ إثمًا، وأعظم جُرمًا؛ لأنَّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم أمَرَ بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، ونهى أن يَجتمع فيها دِينان، وتبِعه أصحابه في ذلك، ولما استُخْلِفَ عمرُ رضي الله عنه أجْلَى اليهود من خيبر؛ عملًا بهذه السُّنة، ولأنَّ الجزيرة العربية هي مهدُ الإسلام ومنطلقُ الدُّعاة إليه، ومحلُّ قِبلة المسلمين؛ فلا يجوز أن يُنشأ فيها بيتٌ لعبادة غير الله سبحانه، كما لا يجوز أن يُقرَّ فيها مَن يَعبُد غيره)([28]).
11- وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية: قولهم: (كلُّ مكان يُعدُّ للعبادة على غير دِين الإسلام، فهو بيت كُفر وضلال؛ إذ لا تجوز عبادة الله إلَّا بما شرَع الله سبحانه في الإسلام، وشريعة الإسلام خاتمةُ الشرائع، عامَّة للثَّقلينِ (الجن والإنس)، وناسخةٌ لِمَا قبلها، وهذا مُجمَع عليه بحمد الله تعالى....ولهذا صار مِن ضروريات الدِّين: تحريمُ الكفر الذي يَقتضي تحريمَ التعبُّد لله على خِلاف ما جاء في شريعة الإسلام، ومنه تحريمُ بناء معابد وَفق شرائع منسوخة يهوديَّة أو نصرانيَّة، أو غيرهما؛ لأنَّ تلك المعابدَ - سواء كانت كنيسة أو غيرها - تُعتبر معابدَ كفريَّةً؛... فجزيرة العرب: حرمُ الإسلام وقاعدتُه، التي لا يجوز السماح أو الإذن لكافر باختراقها، ولا التجنُّس بجنسيتها، ولا التملُّك فيها، فضلًا عن إقامة كنيسةٍ فيها لعبَّاد الصَّليب؛ فلا يَجتمع فيها دِينان، إلَّا دينًا واحدًا هو دِينُ الإسلام، الذي بَعَثَ اللهُ به نبيَّه ورسوله محمدًا، ولا يكون فيها قِبلتان، إلَّا قبلة واحدة، هي قِبلة المسلمين إلى البيت العتيق،... وبهذا يُعلم أنَّ السَّماح والرضا بإنشاء المعابد الكفريَّة، مثل الكنائس، أو تخصيص مكان لها في أيِّ بلدٍ من بلاد الإسلام من أعظمِ الإعانة على الكُفر وإظهار شعائرِه... عائذين بالله من الحَوْر بعد الكَوْر، ومن الضلالة بعد الهِداية، وليحذر المسلم أنْ يكون له نصيبٌ من قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 25-28])([29]).
12- وجاء في فتوى وزارة الأوقاف الكويتيَّة: (إنَّ إنشاء أيِّ دار للعبادة لغير المسلمين في دار الإسلام لا يجوز، وكذلك لا يجوز تأجيرُ الدُّور؛ لتكون كنائسَ، ولا تحويل الدُّور السكنية؛ لتكون كنائسَ أو معابد لغير المسلمين؛ وذلك لإجماع علماء المسلمين على أنَّه لا يبقى في دار الإسلام مكانُ عبادة لغير المسلمين)([30]).13- وقال الشيخ عبد الرحمن البرَّاك –حفظه الله-: (وممَّا يُؤسَف له أنَّ بعض المسلمين استجابوا للكفَّار في بناء الكنائس؛ فها هي بعض البلاد الإسلاميَّة في أطراف الجزيرة العربية؛ جزيرة الإسلام، ها هم أَذِنوا للنصارى في بناء معابدهم، وقد جاء في الحديث: ((لا تكون في أرض قبلتان))؛ فلا تجتمع قِبلة اليهود والنصارى مع قِبلة المسلمين)([31]).
وهكذا، فأنت ترى أنَّ علماء المسلمين وفقهاءهم قديمًا وحديثًا أجْمَعوا على حُرمة بناء الكنائس والمعابد في البلدان الإسلاميَّة، وأنَّها في جزيرة العرب أشدُّ إثمًا؛ لِمَا تمتاز به هذه الجزيرة من خصائص؛ فهي (وقفٌ في الإسلام على أهل الإسلام، وهي وديعةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أمَّته، التي استحفظهم عليها في آخِر ما عهده النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فهي دارٌ طيِّبة، لا يَقطُنها إلَّا طيِّب، ولِمَّا كان المشركُ خبيثًا بشركه؛ حُرِّمت عليه جزيرة العرب... وإنَّه إذا ما عَدَّتْ يومًا نفسَها مثل أيِّ قُطرٍ من الأقطار، ترضَى بمداخلة ما هو أجنبيٌّ عن الإسلام؛ فإنَّها تعمل على إسقاط نفسها من سجل التاريخ، وتَقضي على مَيزتها البارزة في خريطة العالم، فيخفت احترامُ العالم الإسلاميِّ لها، وتفقد رهبةَ شراذم الكُفر منها، وتَفتح مجالًا فسيحًا للقُوى الشرِّيرة العاتية. وإنَّه إذا تَقدَّمت الفِتن، والبدع، والأهواء، والنِّحل، وضروب الغزو الفكري؛ تضرب فارهةً على صخرة هذه الجزيرة؛ فقد تجلَّلتْ حينئذ من كلِّ ويلٍ تيارًا، وأذِنت بمشاكل ذات أحجام مختلفة في التمرُّد، وإذا تشرَّبت النفوس بهذه الأنماط المتناثرة على جَنبتَي الصراط المستقيم؛ تشكَّلت الحياة إلى مَزيجٍ من الأهواء والضَّلال البعيد، وهذا إيذانٌ بدَكِّ آخرِ حِصْنٍ للإسلام، وتَقليصٍ لظلِّه عن معاقله في هذه الجزيرة المسكينة.
فاللهُ طَليبُ الفَعَلةِ لذلك، وهو حسيبُهم... وإنَّ المتعيِّن على أهل هذه الجزيرةِ، وعلى مَن بسَط اللهُ يدَه عليهم وعليها: المحافظةُ على هذه المَيزات والخصائصِ الشرعيَّة؛ ليَظهر تميُّزُها، وتبقى الجزيرةُ وأهلُها مصدرَ الإشعاعِ لنور الإسلام على العالم.
وليُعلَم أنَّه كلَّما قَوِيَ هذا النورُ؛ امتدَّ هذا الإشعاعُ، وكلَّما ضَعُفَ وتضاءَلَ في هذه الجزيرةِ وأهلِها؛ تقاصرَ. ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله)([32]).
وممَّا يثيره - اليومَ في وسائلِ الإعلامِ وغيرها- الجهلةُ تارةً، والمغرِضون تارةً أخرى، قولهم: كيف لا نسمح لهم ببناء الكنائس والمعابد في بلادنا وقد سمَحوا لنا ببناء المساجِد في بلادهم؟! ولو منعناهم من ذلك فسيمنعون المسلمين من بناء المساجِد والصلاة فيها، وأنَّه ينبغي أن نُعطي رَعاياهم حريَّتهم الدينيَّة، كما أعطَوْا رعايا المسلمين حريَّتهم الدينيَّة، وأنَّ مِن العلماء المعاصرين مَن أفتى بجواز ذلك؛ اعتمادًا على رأي أبي حنيفةَ في الجواز، ...إلخ.
وردُّ هذه الشُّبَه من وجوه:
الأول: أنَّ المساجدَ دُورٌ يُعبد فيها الله عزَّ وجلَّ وحده، أما الكنائس والمعابد غير الإسلاميَّة فهي معابدُ كفريَّة، يُكفر فيها بالله عزَّ وجلَّ، ويعبد معه غيره؛ فهل يستويان؛ {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] ؟!
الثاني: أنَّ دعوى منحهم المسلمين الحريَّةَ في ممارسة تعاليمهم الدينيَّة عاريةٌ عن الصحَّة؛ فهاهم يمنعون المسلمين من أقلِّ حقوقهم الشخصيَّة: كتطبيق أحكام الإسلام عليهم، وإنشاء بنوك إسلاميَّة، وتعدُّد الزوجات، ولُبْس الحِجاب، وغير ذلك؛ بحُجَّة أنَّ أنظمة البلد العلمانيَّة تحظر ذلك؛ أفلا يحقُّ للمسلمين أن يمنعوهم من بناء الكنائس والمعابد؛ لأنَّ تعاليم دِينهم الإسلامي تمنع ذلك؟!
الثالث: أنَّ مواطني الدول الغربيَّة قدِ اعتنق كثيرٌ منهم الإسلام، فالمساجد تُعتبر عندهم من حقوق المواطنة، وليس للوافدين من المسلمين، أمَّا دُول الجزيرة العربية؛ فالأصلُ أنَّهم كلَّهم مسلمون، ومن تنصَّرَ منهم، فهو مرتَّدٌ عن دِين الله، وحُكمه في الشرع معروف؛ فلِمَن تُبْنَى الكنائس والمعابد؟ أللعمالة الوافدة غير المستقرَّة؟! ما لكم كيف تَحكُمون؟!
الرَّابع: أنَّ الإذنَ لهم ببناء كنائس ومعابد كفريَّة في دِيار الإسلام بحُجَّة سماحهم للمسلمين ببناء المساجد في بلادهم يقودنا إلى قضية أخرى، وهي الإذن لهم بالدعوة لدينهم بين المسلمين بحُجَّة أنهم يَسمحون للمسلمين بأنْ يدعُوا إلى الإسلام في بلادهم؛ فهل يقول بذلك مسلمٌ؟! (بل مَن يُجوِّز ذلك بحُجَّة ما يُسمَّى بحريَّة الاعتقاد؛ فهو كافر مرتدٌّ وإنْ صلَّى وصام وزعَم أنَّه مسلمٌ)([33]).
الخامس: أنَّ الإذن ببناء معابدَ وكنائس وغيرها من دور الكفر، يجعل الجزيرة العربيَّة مسرحًا لدِيانات الكفر والشرك، وهي التي أمَر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يكونَ فيها دِينان!
السادس: أنَّه لو ترتَّب على منْعِ بناء الكنائس والمعابد في بلاد المسلمين منعُ بناء المساجد في بلاد الكفَّار؛ فإنَّ دَرءَ مفسدة تلويث بلاد المسلمين - وجزيرة العرب خاصَّةً - بدِين النصارى واليهود والهندوس والبوذيين، أَوْلى مِن المحافظة على مصلحة مكاسب بعض المسلمين في بلاد الكُفر، وعلى المسلمين القادرين على الهِجرة أن يُهاجروا، وعلى العاجزين أن يُصَلُّوا في بيوتهم، كما أفتى بذلك الشيخ عبد الرحمن البرَّاك حفظه الله.
السابع: أنَّ ممَّا يدلُّ على اعتبار الخصوصيَّة ومراعاتها، وأنها قاعدةٌ معتمدة عند العقلاء من كلِّ مِلَّة: أنَّ دولة الفاتيكان تمنع من بِناء معابد غير الكنيسة فيه؛ وذلك لِمَا يرونه من كون الفاتيكان معقلًا للنصرانيَّة، وملاذًا لأهلها، فالجزيرة العربية - وفيها البلد الحرام، والكعبة المشرَّفة - أَوْلى بذلك؛ كيف لا؟! وهي ملاذُ المسلمين، ومنتهى مقاصدهم. وعلى هذا الأصل الذي يُقِرُّ به عقلاءُ كلِّ ملَّة، جاءتِ النصوصُ النبوية في بيان كون هذه الجزيرة العربيَّة جزيرةَ الإسلام، لا يجتمع فيها دِينان. ولكن لو سمح الفاتيكان ببناء المساجد فيه؛ هل يكون هذا مسوِّغًا لنا في الإذن ببناء الكنائس في جزيرة العرب؟ الجواب: لا؛ فلسنا تبعًا للفاتيكان، إنْ مَنَعَ مَنَعْنَا وإنْ أذن أذِنَّاا! فالإسلام يَعلو ولا يُعلى عليه، وقد تقدَّم أنَّ التسويةَ بين دُور التوحيد ومعابد الكُفر، سفهٌ وضلال، نعيذ منه كلَّ مسلم.
الثامن: أنَّ حُرمة بناء الكنائس والمعابد الكفريَّة في بلاد المسلمين ممَّا انعقد عليها الإجماع، نقل ذلك كثيرٌ من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية([34])، وتقيُّ الدِّين السُّبكي([35])، والشيخ ابن باز([36])، وغيرهم كثير؛ فلا وجه لِمَا ذكَره بعضُ المعاصرين عن تجويز الإمام أبي حنيفة ذلك، مع أنَّ القاضي تقيَّ الدِّين السبكيَّ قد أوْضح المراد بكلام أبي حنيفة، فقال: (ولعلَّ أبا حنيفة إنما قال بإحداثها في القُرى التي يتفرَّدون بالسُّكنى فيها، على عادتهم في ذلك المكان، وغيرُه من العلماء بمنعها؛ لأنَّها في بلاد المسلمين وقبضتهم وإنِ انفردوا فيها، فهُم تحت يدِهم؛ فلا يُمكَّنون من إحداث الكنائس؛ لأنَّها دار الإسلام، ولا يريد أبو حنيفة أنَّ قريةً فيها مسلمون فيُمكَّن أهل الذمة من بناء كنيسة فيها؛ فإنَّ هذه في معنى الأمصار، فتكون محلَّ إجماع)([37]).
التاسع: أنَّ المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة - في جلسته المنعقدة بالقاهرة في 10/10/2000م - أصدر بيانًا قال فيه: (التأكيد الحاسم بأنَّ الجزيرة العربية وقَلْبها المملكة العربيَّة السعوديَّة هي الحصانةُ الجغرافيَّة لعقيدة الإسلام، لا يجوز شرعًا أن يقومَ فيها دِينان، ولا يجوز بحالٍ أن يُشهَر على أرضها غيرُ دِين الإسلام. كما تَستنكر هيئةُ رئاسة المجلس العودةَ إلى المطالبة ببناء كنائس على أرض السعوديَّة، بعدَ أنْ حُسِمَ هذا الأمر سابقًا في حوار مطوَّلٍ مع الفاتيكان عَبْر اللجنة الإسلاميَّة العالميَّة للحوار، واتَّفق على إغلاق هذا الملفِّ، وعدم إثارته ثانيًا).
وأخيرًا، و(بناءً على جميع ما تقدَّم؛ فإنَّه ليس لكافر إحداثُ كنيسةٍ في [جزيرة العرب]، ولا بيعة، ولا صومعة، ولا بيت نار، ولا نَصْب صنمٍ؛ تطهيرًا لها عن الدِّين الباطل، ولعموم الأحاديث، وعليه؛ فليس للإمامِ الإذنُ بشيء منها، ولا الإبقاءُ عليه؛ مُحدَثًا كان أو قديمًا)([38]).
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آلِه وصَحْبِه
[1] هذه المؤتمرات تأخذ في كلِّ وقت طابعًا أو لونًا مختلفًا؛ فتارةً يُسمُّونها مؤتمرات التقارُب أو التقريب بين الأديان، وتارةً الحوار بين الأديان، وهكذا
[2] كان آخرها التقرير الصَّادر في شهر سبتمبر 2007م.
[3] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: 166).
[4] خصائص الجزيرة العربية للشيخ بكر أبو زيد (ص: 17 - 20) (بتصرف يسير).
[5] قال عنها شيخُ الإسلام ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/199): (اتَّفقت عليها الصحابة)، وفي ((مجموع الفتاوى)) (28/651): (عليها العملُ عند أئمَّة المسلمين)، وقال عنها الإمام ابنُ القيِّم في ((أحكام أهل الذمة)) (1/218): (وشُهرة هذه الشروط تُغني عن إسنادها؛ فإنَّ الأئمَّة تلقَّوْها بالقَبول، وذكروها في كتُبهم واحتجُّوا بها، ولم يزل ذِكر الشروط العُمريَّة على ألسنتهم، وفي كتبهم، وقد أنفذها بعدَه الخلفاءُ، وعمِلوا بموجبها)
[6] القَلَّاية والصومعة: من بيوت عِبادة النَّصارى. انظر: (لسان العرب) (باب: قلا)
[7] (ص269).
[8] . (7/634)
[9] فتاوى السبكي (2/391)
[10] (مصنف عبدالرزاق) (6/59)
[11] حِدَّة أو حدَّاء: هي واد فيه حِصن ونخل بين مكَّة وجُدَّة. معجم البلدان (2/ 226).
[12] (مصنف عبدالرزاق) (6/60)
[13] (مصنف عبدالرزاق) (6/60)
[14] فتاوى اللجنة الدائمة رقم (21413) وتاريخ 1/4 /1421 هـ
[15] المرجع السابق.
[16] ((تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق)) للزيلعي الحنفي (9/452).
[17] ((المدونة الكبرى)) (3/435)، والكراهة عند مالك كثيرًا ما تكون على التَّحريم؛ انظر: ((أعلام الموقعين)) (1/50), و((المدخل لابن بدران)) (1/128).
[18] ((الأم)) (4/206).
[19] ((أحكام أهل الذمة)) (3/1182)
[20] ((أنوار البروق)) للقرافي (1/225)، وانظر التعليق على قوله: لأنَّه إرادة الكُفر، في كتاب: ((التوسط والاقتصاد)) (ص: 28).
[21] ((الكافي)) (4/361)
[22] والعِمالة النصرانيَّة من المعاهَدين والمستأمنين من باب أَوْلى.
[23] ((مجوع الفتاوى)) (28/635)
[24] انظر: ((كشاف القناع)) (5/3073) باب حكم المرتد.
[25] ((فتاوى السبكي)) (2/391)
[26] ((أحكام أهل الذمة)) (3/1193).
[27] ((فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز)) (3/282).
[28] انظر: تقديم الشيخ لكتاب ((حكم بناء الكنائس والمعابد الشركية في بلاد المسلمين)) للشيخ إسماعيل الأنصاري.
[29] فتوى رقم (21413) وتاريخ 1/4/1421هـ (بتصرف يسير).
[30] ((فتاوى قطاع الإفتاء الكويتي)) (6/15).
[31] موقع الشيخ - حفظه الله - على شبكة الإنترنت.
[32] ((خصائص الجزيرة العربية)) للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف يسير).
[33] فتوى الشيخ عبدالرحمن البراك، منشورة في موقعه على شبكة الإنترنت
[34] نقله عنه المَرداويُّ في ((الإنصاف)) (باب أحكام أهل الذمة)، وابن مفلح في ((الفروع))، وقال في ((مجموع الفتاوى)) (28/651) عن الشروط العمريَّة، التي فيها منْع النصارى من بناء الكنائس: (فصلٌ: فى شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرَطها على أهل الذمَّة لَمَّا قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليها العملُ عند أئمَّة المسلمين؛ لقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة))، وقوله: ((اقتدوا باللَّذينِ من بعدي: أبي بكر وعمر))؛ لأنَّ هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهِموه من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم).
[35] تقدم النقل عنه.
[36] تقدم النقل عنه.
[37] (فتاوى السبكي) (2/388).
- وممَّا يؤيِّد أنَّ مراد أبي حنيفة خلافُ ما زعمه هذا المعاصر: أنَّه قولٌ غير معتمَد في المذهب، وجماهير علماء الأحناف بما فيهم صاحباه أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن على عدم اعتبار هذا الفَهم لكلام الإمام، ويرون حُرمةَ بناء الكنائس في الأمصار - أي: المدن - التي يَقطُنها مسلمون. وعلى هذا تضافرتْ كتبهم؛ ففي ((الهداية شرح البداية)) للمرغيناني (2/162): (ولا يجوز إحداث بيعة ولا كنيسة في دار الإسلام ... وقيل: في ديارنا يُمنعون من ذلك في القرى أيضًا؛ لأنَّ فيها بعض الشعائر، والمروي عن صاحِب المذهب [يعني أبا حنيفة] في قرى الكوفة؛ لأنَّ أكثر أهلها أهل الذمَّة، وفي أرض العرب يُمنعون من ذلك في أمصارها وقراها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يَجتمع دِينان في جزيرة العرب»). وفي ((المبسوط)) للسرخسي (15/134) و((بدائع الصنائع)) للكاساني (4/176): قولهم: (فإنَّهم يُمنعون من إحداث الكنائس في أمصار المسلمين)، ونقل الزيلعيُّ الحنفي الإجماعَ في ((تبيين الحقائق)) (باب: العُشر والخَراج والجزية)، فقال: (قال في الفتاوى الصُّغرى: إذا أرادوا إحداثَ البيع والكنائس في الأمصار يُمنعون بالإجماع)، وفي ((حاشية ابن عابدين)) (4/202): [لا يجوز إحداثُ كنيسة في القرى، ومَن أفتى بالجواز فهو مخطئ، ويُحجَر عليه ... وفي الوهبانية: إنَّه الصحيح من المذهب الذي عليه المحقِّقون، إلى أن قال: فقد عُلِم أنَّه لا يحلُّ الإفتاء بالإحداث في القرى لأحدٍ من أهل زماننا بعدما ذكَرنا من التصحيح والاختيار للفتوى وأخْذ عامَّة المشايخ، ولا يُلتفت إلى فتوى مَن أفتى بما يخالف هذا، ولا يحلُّ العملُ به، ولا الأخذ بفتواه، ويُحجَر عليه في الفتوى، ويُمنع؛ لأنَّ ذلك منه مجرَّد اتباع هوى النفس، وهو حرام؛ لأنَّه ليس له قوَّة الترجيح، لو كان الكلام مطلقًا؛ فكيف مع وجود النقل بالترجيح والفتوى؟! فتنبَّه لذلك، والله الموفِّق. مطلب: تُهدم الكنائس من جزيرة العرب ولا يُمكَّنون من سُكْناها؛ قال في (النهر): (والخلاف في غير جزيرة العرب، أمَّا هي فيُمنعون من قراها أيضًا؛ لخبر: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب») اهـ. قلت: الكلام في الإحداث، مع أنَّ أرض العرب لا تُقر فيها كنيسة، ولو قديمة فضلًا عن إحداثها]). انتهى كلام ابن عابدين.
[38] خصائص الجزيرة العربية للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق