الثلاثاء، 25 أغسطس 2015

السوق السعودية في عيون ابن زريق البغدادي

السوق السعودية في عيون ابن زريق البغدادي

أحمد بن راشد بن سعيّد


هل اكتوى ابن زريق البغدادي بنار الأسهم؟ هل جرب التداول والمضاربة في سوق الأوراق المالية السعودية التي سارت بذكرها الركبان؟
هل كانت انهياراتها مطلع هذا الأسبوع نتيجةَ غدر مضارب, أو صدمة رعب، أو هبوط سهم؟
 لكن ما خبر ابن زريق؟
تقول القصة إنه كان رجلاً عالماً أديباً عارفاً بفنون الشعر والإنشاء، وكان شديد الحب لزوجته وابنة عمه, لكنه اضطر أن يفارقها في بغداد، ويرحل إلى الأندلس لفاقةٍ نزلت به. لم تكن ابنة عمه ترغب أن يضرب بعلُها أكباد الإبل، ويخوض غمار المحيطات من بغداد إلى أوروبا من أجل عطاء قد لا يتيسر, لكنه أصر على موقفه، وقصد أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس, فمدحه بقصيدة عصماء, غير أنه أعطاه عطاءً قليلاً. سُقِط في يد ابن زريق، وتمتم: إنا لله وإنا إليه راجعون، جُبتُ القفار والبحار إلى هذا الرجل, ليعطيني هذا العطاء! ثم تذكّر فراق زوجته وما بينهما من المسافات الشاسعة, وفكر في ما آل إليه أمره, فاعتل غماً ومات.
يُقال إن الوالي الأندلسي أراد بذلك العطاء اليسير أن يختبره, فلما مضت بضعة أيام, سأل عنه, فالتمسوه, فإذا هو في الخان (النّزُل) الذي أقام فيه, وإذا هو ميت, وتحت رأسه رقعة كَتب فيها قصيدته الشهيرة التي مطلعها: «لا تعذليه فإن العذل يوجعه».
لم يحتمل الشاعر صدمة الوالي البخيل, وشعر أنه راهن على حصان خاسر, وأنه تنازل عن كل شئ من أجل لا شيء. تراءت أمامه صور شتى: صورة حبيبته وهي تودّعه ساكبةً دموع الفراق في منطقة الكرخ من بغداد، وصورة الطريق الطويلة المحفوفة بالمخاطر، وصورة الانكسار أمام ذلك الرجل الذي لم يكرم وفادته. عندئذ، انثالت أبيات ابن زريق الخالدة، وسجّل لنا التاريخ واحدة من عيون الشعر العربي.
لكن ما علاقة ابن زريق البغدادي بسوق الأسهم السعودية؟ العلاقة وثيقة. ابن زريق مات بسبب قلة ذات اليد، والحسرة على ضياع الفرصة، والفشل في بلوغ المراد.
والمنكوبون في السوق السعودية يمرضون ويشقون وينتحبون للأسباب ذاتها تقريباً. لقد كانوا كشاعرنا يؤمّلون في الرفاه ورغد العيش، فإذا بسوقهم تسلبهم صباح مساء أقواتهم ومدّخراتهم وأموالاً اقترضوها وآمالاً عقدوها. بل إن مأساة ابن زريق تهون عند نكبة كثير من السعوديين أصحاب الأسهم، إذ إن كثيراً منهم لُدغوا من جحر واحد مرات ومرات، ولم يخسروا أموالهم فحسب، بل ظلوا يدفعون للمموّلين ما اقترضوه منهم، وإلى ذلك فوائد ومرابحات.
لنعدْ إلى صاحبنا، ومقتطفات من قصيدته. يقول مخاطباً زوجته:
لا تعذليه فإنّ العذلَ يوجعُهُ
قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعُهُ
جاوزتِ في لومِه حدّاً أضرَّ به
من حيثُ قدّرتِ أنّ اللومَ ينفعُهُ
فاستعملي الرفقَ في تأنيبهِ بدلاً
من عذلِه فهو مُضنى القلبِ مُوجعُهُ

ما الفائدة من العذل واللوم؟ إنهما لن يعيدا الأيام الجميلة، ولن يصلحا ما أفسد الدهر.
 ليته لم يغامر منذ البداية، لكن هل ينفع التمني؟
ليتَ وهل تنفعُ شيئاً ليتُ
ليتَ شباباً بُوعَ فاشتريتُ

والمأزوم المهموم لا يجدي معه التقريع والتبكيت, بل اللطف والمواساة وتطييب الخاطر، حتى لا يصاب بنكسة تُذهب عقله. يمضي شاعرنا فيقول:
ما آب من سفرٍ إلا وأزعجه
عزمٌ إلى سفرٍ بالرغم يزمعُهُ
كأنّما هو في حِلّ ومُرتَحلٍ
موكَّلٌ بفضاءِ الله يذرعُهُ

والأمر نفسه ينطبق على حال صاحب الأسهم؛ إنه يحاول ويحاول، يكرّ ويفر، يقبل ويدبر، خارجاً من حفرة إلى حفرة، ومن نفق إلى نفق..وهكذا، كأنما هو في حل ومرتحل، موكّل بفضاء (الربح)، أو فضاء (الوهم) يذرعه. ثم يصرخ ابن زريق كأنما يعظ اللاهثين في الأسواق من بعده، في أبيات رقيقة مؤثرة:
وما مجاهدةُ الإنسان تُوصلُه
رزقاً ولا دعةُ الإنسان تقطعُهُ
قد قسَّم الله بين الخلق رزقَهمو
لم يخلق الله من خلقٍ يضيّعُهُ
لكنهم كَلِفوا حرصاً فلستَ ترى
مسترزقاً وسوى الغاياتِ تُقنعُهُ
والحرصُ في الرزقِ والأرزاقُ قد قُسِمت
بغيٌ ألا إنّ بغيَ المرءِ يصرعُهُ

الركض في هذه السوق الورقية الوهمية -كما يوحي ابن زريق- لن توصلك إلى المجد والغنى، وإجحامك عن الركض فيها لن يوقف رزقك.
يعظنا ابن زريق (ومن العجيب أن اسمه قريب من الرزق) قائلا إن الله (عزّ وجل) قسم الرزق بين عباده، وإنه لا يضيعهم, «ومامن دابة في الأرض إلا على الله رزقها», منحياً باللوم على آفة الحرص التي تستبد بالإنسان، فيكدح ويخبط، غير مقتنع إلا بالنهايات، ولا متعظ إلا بالغايات.
ولهذا السبب يلوم الشاعر نفسه ومن سلك طريقه محذراً من حرص يورد المرء موارد الهلاك. يتحدث شاعرنا في قصيدته الحزينة عن فراق ابنة عمه، وسعيها لثنيه عن عزمه، ومن أجمل ما قال في هذا السياق:
أستودع الله في بغدادَ لي قمراً
بالكرخ من فَلَكِ الأزار مطلعُهُ
ودّعتُه وبودّي لو يودّعني
صفوُ الحياةِ وأنّي لا أودّعُهُ
وكم تشبّث بي يومَ الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلّاتٌ وأدمعُهُ

لكننا لن نتوقف كثيراً عند هذا المشهد, وننتقل إلى مشاهد أخرى ذات صلة بواقع الناس والسوق.
يقول ابن زريق في سياق تأنيب نفسه:
رُزقتُ مُلكاً فلم أحسنْ سياستَه
وكلُّ من لا يسوسُ المُلْكَ يُخلعُهُ

ربما تمثل كثير من رواد السوق السعودية بهذا البيت، فكثيرون حظوا بمال وافر، لكن لأسباب كثيرة منها المضاربات العشوائية، و(فوبيا) الرعب من الهبوط، والاستسلام للإشاعات، والجري وراء التوصيات العبثية، فقدوا معظم أموالهم. وهكذا: «وكل من لا يسوس المُلكَ يُخلعُهُ»، وقد قالت أم أبي عبد الله الأحمر (آخر ملوك الأندلس) لابنها الذي كان يبكي عشية سقوط غرناظة:
ابكِ مثلَ النساءِ ملكاً مُضاعاً
لم تحافظْ عليه مثلَ الرجالِ

وحده من (يغرس) حسن التدبير، (يجني)الربح الوفير، كما قال محمد إقبال:
أليس من العدالةِ أن أرضي
يكونُ حصادُها للزارعينا

ويواصل ابن زريق تسليتنا بالحديث عن مأساة السوق قائلاً:
ومن غدا لابساً ثوبَ النعيم بلا
شكرٍ عليه فإن الله ينزعُهُ

مضيفاً:
كم قائلٍ ليَ ذقتَ البينَ قلتُ له
الذنبُ والله ذنبي لستُ أدفعُهُ
هلاَّ أقمتُ فكان الرشدُ أجمعُهُ
لو أنني حين بان الرشدُ أتبعُهُ

كم من مستثمر سيردد مع الشاعر هذين البيتين مهمهماً: إنه ذنبي، لا ألومنّ إلا نفسي، لقد سعيت إلى حتفي بظلفي، يداي أوكتا وفيّ نفخ، هلّا أحجمت عن الدخول، أو سارعت بالخروج، أو امتنعت عن الاقتراض، «لو أنني حين بان الرشد أتبعه»! ويتحسر ابن زريق على حبيبته قائلاً:
ما كنت أحسبُ أنّ الدهرَ يفجعني
به ولا أنّ بي الأيامُ تفجعُهُ
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيدٍ
عسراءَ تمنعني حقي وتمنعُهُ

يا الله! حدث مالم يكن في الحسبان، انفض الجمع وتفرّق السامر، ألم يتغنّ بعض السعوديين بُعيد الانهيار الشهير عام 2006 بقولهم: «المصافي كلها مشتاقة لك»؟ لقد مسّ أهل الجزيرة الضر، وهنا يهتف شاعرنا:
بالله يا منزلَ القصر الذي دَرَستْ
آثارُه وعفَتْ مذ بِنتُ أربُعُهُ
هل الزمانُ معيدُ فيك لذّتنا
أم الليالي التي أمضتْه تُرجعُهُ
في ذمةِ الله من أصبحتَ منزلَه
وجاد غيثٌ على مغناكَ يُمرِعُهُ

ما الحيلة إذن يا ابن زريق؟ هل تملك دفع الضر عنك؟ هل تملك عصا سحرية تحيل فقرك مالاً جماً وحالاً جميلة؟ يجيب:
لأصبرنَّ لدهرٍ لا يمتّعني
به ولا بيَ في حالٍ يمتّعُهُ
علماً بأن اصطباري مُعْقبٌ فرجاً
فأضيقُ الأمرِ إنْ فكّرتَ أوسعُهُ
عسى الليالي التي أضنتْ بفرقتِنا
جسمي ستجمعني يوماً وتجمعُهُ

هكذا يواجه المؤمن المصيبة: بالصبر والفأل معاً. إن المؤمن لتُنزع روحه من بين جنبيه وهو يحمد الله (عز وجل)، ويحسن به الظن، وهذا ما ختم به ابن زريق قصيدته:
وإنْ تَغُلْ أحداً منا منيّتُه
فما الذي بقضاءِ الله نصنعُهُ

ينقل لنا ابن زريق البغدادي عبر القرون دروساً للتعامل مع نوائب الدهر، وملامح تجربة إنسانية غنية وصادقة.
ربما تصلح القصيدة نبراساً لكثير من التائهين واللاهثين خلف سراب الأسواق وإغرائها وبريقها.

•  @LoveLiberty

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق