الثورة العميقة
في مواجهة الدولة العميقة
د.أحمد موفق زيدان
ما تراكم من استبداد ومستبدين، وما تجذر من أجهزة عقيمة في الدول الاستبدادية الشمولية الديكتاتورية على مدى عقود، كل ذلك أفرز دولة عميقة ومتجذرة في كل مناحي الحياة مما يتعذر خلعها بالسهولة التي يتمناها أصحاب الثورات والنوايا الطيبة، وما لم يتكاتف ويتحالف الجميع في مواجهة الدولة العميقة كل بحسب موقعه وقدراته وإمكانياته، لحشد المجتمع كله في مواجهتها، مع توفر رأس يفكر لها ويوظف الجميع من أجل الهدف الأسمى والأعلى وهو خلع الاستبداد فسيظل الطريق طويلاً والتضحيات عظيمة أمام الثوار والمجاهدين في أحسن الأحوال، وإلا فإن الفشل والتفشيل سيكون حليفهم في مواجهة شراسة محلية وعالمية، إذ إن الدولة العميقة تستمد عمقها أيضاً من نظام عالمي عميق وعقيم تأسس في منطقتنا العربية ولمجابهة هذا الاستحقاق يوما ما وقد حان.
الدولة العميقة هي عبارة عن تبادل الدولة العميقة للمصالح والحماية، مع شراء الولاءات والفوضى، فلديها رموز وإدارات في كل مناحي الحياة وهو ما تجلى وظهر بوضوح في سوريا ومصر واليمن وغيرها، تبدأ هذه الدولة العميقة من المؤسسة العسكرية والأمنية ومعها القطاع الخدماتي كله، حيث تقطع الكهرباء أو الغاز في الوقت المحدد من أجل تحريك الشارع ضد المنتخبين أو ممثلي الشعب كما حصل مع مرسي، وكذلك تصل أذرع الدولة العميقة إلى التعليم والإعلام والفن ورجال الدين، فالكل له مصالح عند هذه الدولة العميقة لا يستطيع أن يتخلى عنها، وإلا فقد تتهدد حياته الشخصية، ولنتذكر تدخل أجهزة المخابرات وهي أعمق ما في الدولة العميقة في كل شاردة وواردة من حياة الناس ببعض هذه الدول.
الرد الثوري الجهادي على هذه الدولة العميقة هو بتجذير الثورة وتعميقها وتوسيعها بين كل شرائح الشعب المنتفض ضد الظلم والاستبداد وحين سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام هل أتباعه يزيدون أم ينقصون؟ رد عليه بصدق بل يزيدون، فقال له هرقل وتلك سنة الأنبياء، وسيملك أي النبي عليه الصلاة والسلام، ما تحت قدمي، إذن أدرك هرقل أن الثورة المحمدية تتعمق وتتوسع وبالتالي بقدر ما تتمدد يتقلص الحكم القبلي العميق ويتآكل، وقد كان..
وحين اختلفت قريش على من يحمل الحجر الأسود دخل النبي عليه الصلاة والسلام بفكرته الرائعة الممثلة بوضعه في ردائه الشريف لتحملها كل القبائل المتنازعة، ليؤكد من جديد أن الكل ينبغي أن يشعر بحجمه وأهميته وضرورته، وألا يقتصر الأمر على جماعة وتنظيم، وهذا في حمل حجر الأسود فما بالك في انتزاع صخرة دولة كالشام من نظام عالمي مجرم احتلها لعقود فكانت واجهته العصابة البرميلية فقط، ويظن صاحب الجماعة المسكين أنه بحوله وقوته سيزيح النظام أو يفرض مشروعه، وإن أصر على موقفه هذا متجاهلاً إخوانه وشعبه فسيتذكر قول النبي عليه السلام «فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
النوافل حين فرضت كما يقول الأصوليون كانت لحماية الفرائض وبقدر أداء المسلم للنوافل بقدر حماية الفرائض من أن تنتقص، ولو تخلى المسلم عن النوافل فإن أي نقص قادم سيكون للفرائض، وهو ما ينطبق تماماً على الثورة والثوار فإن رأس المال هم الثوار المدافعون عن الثورة ولكن مع مرور الوقت لا بد من تشكيل الأطر والأجهزة والإدارات الحياتية الخادمة للثورة من أجهزة مشيخية وثقافية وإعلامية ونسوية وفنية، وحقوقية، وتعليمية، ونقابات خدماتية، وعمالية وفلاحية وتجارية، وبالطبع عسكرية وسياسية وعلاقات دولية وغيرها من شؤون الحياة، بحيث لا نغفل شريحة مجتمعية دون أن نؤطرها في إطارها فالكل له دوره، والكل سنحتاجه يوماً ما، وبقدر توسيع دائرة المستفيدين من الثورة بقدر ما نقلّص من دائرة المتضررين منها.
نرى اليوم مثلاً ساطعاً حين يبتعد أو يتأخر علماء الشام مثلاً عن دورهم في تبيان حقيقة ما يقع على الأرض كيف يتقافز بعض المشايخ من خارج الحدود ليفتون لصالح تنظيم أو مجموعة لا يدرون أن خطر ذلك سيكون كارثياً على الثورة والثوار ومصير الشام وأهلها، فلا يزال البعض يفكر بعقلية غيتو التنظيمات والجماعات، ولم يكسر حاجز التنظيم لينطلق إلى رحابة الأمة التي انتفضت شيبها وشبانها على الظلم والظالمين والاستبداد والمستبدين.
وحين ضرب ربنا مثل الشجرة الطيبة «أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ» كان التأكيد على الثبات، فالأصل هو العمق في كل شيء، وإن تباعدت الفروع والأغصان فإن جذور الأشجار متقاربة في الأرض، فلا تحكم على عمل واحد للشخص أو للجهة، وإنما لا بد من فهم وفقه مقاصده ومراميه وأفكاره، وإلا فسيكون حالك كمن قال ربنا تبارك وتعالى «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».
ما زلت أتذكر ما قاله لي أحد السياسيين المعروفين حين التقى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين فقال الأخير حين قمنا بانقلابنا وجدنا أن معوقات عملنا هم المراسيل بين الوزارات حيث لا يزالون على ولائهم الملكي القديم، فأقمنا جامعة البعث لتخريج الخريجين بسرعة من أجل خدمة الدولة والنظام الذي نريده، فلك أن تتخيل دور مرسال في تعويق ثورتك ونظامك، فما بالك بأجهزة متجذرة عميقة وخطيرة لها مصالح وعلاقات داخلية ودولية، وهنا تستطيع فهم إصرار العالم المجرم كله على فرض مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية السورية على الثورة السورية.
فلباب النصر مفاتيح عسكرية وسياسية وثقافية وفكرية وعلمية ومشيخية وغيرها، وللمفاتيح أسنان، ولا يمكن فتح الباب إلا بمفتاحه وأسنانه، ومن لم يتواضع في البحث عن المفتاح صاحبة الأسنان الخاصة بذاك الباب، فإنه سيضيع ويضيع معه جهود كل من بذلوا دماءً وآهات وتشرد لا يعلم بها إلا الله تعالى في الشام وغيرها، فالحكمة الحكمة، والحزم الحزم.
@ahmadmuaffaq
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق