عكاشة مصدر السلطات
وائل قنديل
يقول المنطق، منذ بداية الفيلم الردئ، إن القبض على مذيع النظام العكاشي لم يكن إلا فقرة في مسلسل الإلهاء، وتحويل مجرى الكلام، بعيدا عما هو جاد. الجميع يعرفون النهاية السعيدة منذ بداية العرض، وأن مهرجان الكلام سينعقد وينفض، من دون أن يتغير من الأمر شيء، وأن المذيع في كل ذلك كان يؤدي دورا مرسوما بعناية. لذلك، يصبح مصدر الدهشة الحقيقية في الموضوع أن هناك من يبدو مندهشا من قرار إطلاق سراحه.
بدأ العرض الممل فجر يوم الذكرى الثانية لمذبحة رابعة العدوية، حيث كانت حالة التأهب الأمني على أشدها لهذا اليوم، فكان لابد من استخدام شحنة تخدير وتنويم وإلهاء، باستحداث فقرة مبتكرة، تلفت الانتباه، وتفرض موضوعا آخر على موائد الكلام، جرياً على العادة القديمة للسلطة، منذ كانت تعرض مسرحية "مدرسة المشاغبين" في الليالي السابقة على مواعيد كانت تعتبرها السلطات الأمنية عصيبة، ثم تطورت المسألة بعض الشيء، باستخدام حرب "الأهلي والزمالك" ولما كانت "مدرسة المشاغبين" ودراما حرب الكرة قد استنفدتا أغراضهما، وفقدتا تأثيرهما، بفعل التكرار الممل، كان طبيعيا التفكير في ابتكارات جديدة. غير أن للمسألة، بالنسبة للسلطة العكاشية، جوانب أخرى، تظهرها طريقة تناول وسائل إعلام النظام للقبض على المذيع، في مقدمتها أنها أرادت توجيه رسالة واضحة للجميع بأنه مسموح، بل ومطلوب، أن يتظاهر أتباعها ويعتصموا ويهتفوا ضدها، داخل أقسام الشرطة وأماكن الاحتجاز التي تتحول في هذه الحالة إلى "مضيفة" عامرة بكل أصناف الاحتفاء والترحاب. بينما الثابت أن الأماكن نفسها بالنسبة للمعارضين مقرات للقتل والتعذيب والاغتصاب والسحل.
ولو دققت في تغطية جميع ستوديوهات الانقلاب لخبر القبض على المذيع، كبيرهم الذي علمهم الانحطاط، ستجدها قد ركزت على جملة واحدة، تكررت في كل البرامج، تقول إن عدد الذين حاصروا مقر احتجازه وهتفوا ضد الحكومة فيه، أكبر من عدد الذين خرجوا للشوارع والميادين، إحياء لذكرى مجزرة فض الاعتصامات بالقوة المسلحة.
ولعلك سمعت هتافات الفرق العكاشية وصيحاتها، والتي كانت تردد أنهم من جاءوا بعبد الفتاح السيسي حاكما للبلاد، تحت لواء رمز الوطنية الجديدة، القابع قيد الاحتجاز، بسبب حملته ضد وزير الداخلية، من وجهة نظرهم.
وهذه هي الرسالة الثانية المهمة من النظام، ومضمونها واضح ومباشر، هو أن هذه السلطة تحفظ الجميل، وتدين بالولاء لجمهور الثورة المضادة الذي هو مصدر تسلطها، وبالقلب منه ذلك المذيع. ولا يخفى هنا أيضا الدلالات الوضيعة لنقل مقر نظر جلسة استئناف الحكم على المذيع، إلى أكاديمية الشرطة، إذ أرادوا، وإمعانا في الإذلال والإهانة، أن يقولوا للكافة أن ذلك الكائن العكاشي، بنظر الدولة الجديدة، يساوي حجم وقيمة أول رئيس منتخب جاءت به الثورة المصرية، بالانتخاب الحر، لأول مرة في تاريخ المصريين. هي، إذن، حصة مكثفة في زرع الإحباط والانكسار والإهانة في أوساط كل من يجرؤ على معارضة هذه السلطة، أو حتى مناوشتها، من خلال دفع الجميع للمقارنة بين مصير المواطن العكاشي، ومصير غيره من المصريين الأشرار الذين لا ترضى عنهم، أمثال مجدي قرقر وعصام سلطان وإسراء الطويل وصهيب سعد، وعشرات الآلاف معهم، ممن يفترسهم المرض والحر صيفا، والبرد شتاء، ويتجرعون الذل والإهانة وإهدار الآدمية في ظلام الزنازين. تفرض المقارنة نفسها أيضا بين الرغبة في الفعل لدى جمهوري الثورة والثورة المضادة، فحين يعلن والد الصغيرة المعتقلة إسراء الطويل أن ألفين فقط، من أصل أحد عشر ألفا من المواطنين، رأوا وثيقة التضامن معها والمطالبة بالإفراج عنها، هم الذين اهتموا ووضعوا توقيعهم، ثم تنظر إلى الناحية الأخرى، فتجد وقفات عند مقر محاكمة رمز الثورة المضادة، فإنك تشعر بالأسى على حالة التثاؤب والخمول التي تسيطر على الثوار. أعلم جيدا الفرق بين تظاهرات تريدها السلطة وتحبها وتدللها، وأخرى تقابلها بالرصاص الحي وحملات الاعتقال العشوائي، لكني لا أتصور أيضا أن الخوف، أو الإحساس باللاجدوى، استبد بالناس إلى درجة الرعب من المشاركة في تظاهرة إلكترونية.
هل هو الخوف وحده، أم أنه التمكن الكامل لفيروس القبلية والشللية من معادلة الغضب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق