الصحافة المصرية في عصر "المفرمة"!
سليم عزوز
بفرم عدد هذا الأسبوع من جريدة "صوت الأمة" المصرية الخاصة، تكون مصر قد دخلت مرحلة جديدة، وغير مسبوقة، وهي مرحلة "المفرمة" بهذا الحدث الذي كشف عن وجود "رقابة"، بعيدا عن القانون، وبالمخالفة لنصوص الدستور التي تحظر "الرقابة على الصحف"، ومصادرتها!.
الدستور، الذي وضعته لجنة الخمسين، التي شكلها عبد الفتاح السيسي وتابعه عدلي منصور، جاء متقدماً عن الدستور الذي وضعته لجنة المائة في عهد الرئيس محمد مرسي، حيث ألغى مصادرة الصحف ولو بأحكام القضاء. فلم يقترب "دستور الإخوان" من النص الذي كان موجودا في دستور الرئيس السادات الذي كان يتم العمل به إلى قيام ثورة يناير، وهو الخاص بمنع المصادرة بقرار إداري، جعل هذا من سلطة القضاء، وهو النص الذي الإسراف في استخدامه في مصادرة جريدة "الأهالي"، عندما كان تمارس المعارضة، وقبل أن يجرى استئناسها في عهد مبارك. ومن اللافت أن القاضي الذي كان يصدر قرارات المصادرة أصبح وزيرا للعدل بعد ذلك، مكافأة له على دوره في خدمة البلاط!.
ومع وجود النص المانع لمصادرة الصحف، جرى "فرم" عدد "صوت الأمة"، ليتبين أنها ليست المرة الأولى منذ وقوع الانقلاب، ولكنها المرة الثانية، على النحو الذي ذكرته زميلة بالجريدة، كانت مشاركة في مظاهرة على "سلالم نقابة الصحفيين"، تندد بعملية "الفرم"، وهي المظاهرة التي غاب عنها رئيس تحرير الجريدة المناضل متقاعد "عبد الحليم قنديل".
قنديل تعرض لخبطتين في رأسه مؤخراً، كانت الأولى بقرار منعه من السفر بدون مسوغ قانوني، وكانت الثانية بـ "فرم" عدد "صوت الأمة" الأخير، وإن كان في الأولى قال كلاما عنيفا تحت ضغط الحماس مثل وصف قرار المنع بـ "المسخرة" و"الفضيحة"، فقد ظهر في تعليقه على قرار "الفرم" عاقلاً، يبدو أنه لعدم تلقيه اعتذارا من السلطة على منعه من السفر، أو الإلغاء السريع لهذا القرار، فقد أيقن أن عبد الفتاح السيسي لا يلقي لمؤيديه اعتبارا، ولن يسمح له بأي تجاوز ولو كان الدافع له هو "العشم"!.
ولهذا فقد كان هادئ النبرة في تصريحاته لموقع "البديل" ويتعامل مع "فرم العدد" ببساطة، فيتحول إلى محلل، يفتقد للخبر الصحيح، وإن كان أرجع قرار "الفرم" لما أسماه جهة "مراقبة"، لم يروق لها موضوعا عن "أحزان الرئيس"، فقامت بـ"فرم العدد". وبحسب كلامه فقد تم رفع هذا "الموضوع" وإعادة طباعة نفس العدد بموضوع آخر!".
لا نعرف عدد النسخ التي جرى "فرمها"، ومن تحمل تكاليف العدد "المفروم"؟.. وإن كنت أعلم أنه ليس بين "الخيرين حساب" كما يقول المثل المصري، وقنديل من الموالين للسيسي، وأحد مقاولي الأنفار المؤيدين له!.
كل النسخ تم فرمها، لكن كم عدد النسخ المفرومة؟ لم يتم إعلان عن هذا، فالطباعة والتوزيع تظل سرا من "أسرار الكهنوت" في الصحافة المصرية، لكن ومن مصادر عليمة، فقد هبط توزيع الصحف للحضيض، بعد الانقلاب لأنها صحف الرأي الواحد، والمانشيت الواحد، وقد يدهش المرء إذا علم أن جريدة "المصري اليوم"، التي كانت في عهد ما قبل ثورة يناير توزع أكثر من 380 ألف نسخة، قد هبط توزيعها إلى 83 ألف نسخة للعدد.
وإن كانت "صوت الأمة" هي أفضل من "الأسبوعيات" الأخرى مثل "الفجر"، ومن "اليوميات" مثل "الوطن"!.
وبالسؤال تبين أن "الفرم" في المرة الأولى تحملت أعباءه المالية (الجهة الفارمة)، وبالسؤال أيضا، تبين أن العدد الأخير "المفروم" لـ"صوت الأمة" لم تتم إعادة طباعته كما ذكر رئيس تحرير الصحيفة "عبد الحليم قنديل"، الذي بدا كما لو أنه كان يسعى للتنصل من تهمة إعلان خبر الفرم، فقد قال إن بعض الأعداد خرجت من المطبعة بواسطة بعض الزملاء..
بشكل يمثل إشارة إلى المتهمين بالتسريب، فالمسموح لهم بالتواجد في المطبعة، من كل صحيفة تطبع في المؤسسات الصحفية القومية معروفون على سبيل الحصر، ويتم إبلاغ المطبعة بأسمائهم رسميا!.
تحمل تكلفة إعادة الطبع في الأولى كان كاشفا عن حالة من الود لا تزال قائمة بين رئيس تحرير "صوت الأمة"، والسلطة الحاكمة، أما مع العدد الأخير فقد تبين أن الحب بات من طرف واحد، وربما انتقل "عبد الحليم قنديل" إلى هذه الحالة بعد تصريحاته العنيفة على منعه من السفر ووصفه القرار بـ"الفضيحة" تارة، وبـ "المسخرة" تارة أخرى. وكان واضحا أن قنديل قد خانه ذكاؤه فلا يجوز في عرف العسكريين الاعتراض، فالقاعدة العسكرية: "نفذ الأوامر" ثم اعترض، والاعتراض يكون بهدوء بدون توصيف أو تجاوز. يبدو أن صاحبنا لم يمر بمرحلة "جندي مجند" إلا الآن!
ما علينا، فليس هذا هو الموضوع، فما يعنيني أنه لو تمت إعادة الطباعة للعدد "المفروم" لتم الوقوف على الموضوع "جسم الجريمة"، وهل هو فعلاً موضوع "أحزان الرئيس" كما قال قنديل، أم أن المشكلة في التقرير الخاص بفساد أحد الوزراء، كما قيل أيضا، أم أن الأمر له علاقة بما أطلقت عليه الجريدة في عناوينها البارزة: "عصابة مبارك طز في مصر"، "المخلوع يقضي فترة حبسه في قصر بالقطامية.. نظيف يشرف على رسائل دكتوراه رغم حكم سجنه.. عز يتبرع بمليون جنيه رغم التحفظ على أمواله"؟!.
اللافت أن تقرير "أحزان الرئيس" المنشور عناوينه بصورة ضخمة للسيسي في أعلى الصفحة الأولى، ومتمدد على عمودين ونصف عمود، هو مستمد من تراث النفاق في عهد مبارك، ومن الزفة الإعلامية التي تم نصبها بمناسبة فقد الرئيس لحفيده، ويبدو أن "قنديل" وليس لديه سابق خبرة في التأييد، لجأ إلى مؤيدين هذا العهد ليستدعي تراثهم المجيد في المرحلة الجديدة من حياته في تأييد الحاكم عبد الفتاح السيسي. فما الذي يزعج السلطة والمنشور يتحدث عن مرض والدته وحجزها بإحدى المستشفيات بين الحياة والموت!
الذي شغلني في تصريحات رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" هو نسبته لقرار "الفرم" لمن وصفها بـ "جهة المراقبة"، وقد أمن عليه رئيس مؤسسة "الأهرام" المالكة للمطبعة "أحمد السيد النجار" بقوله إن المؤسسة لا علاقة لها بـ "فرم" عدد "صوت الأمة"، وأزمة الصحيفة مع من أصدر "قرار الفرم"!..
ليصبح السؤال: ما هي "جهة المراقبة" التي أشار لها "قنديل"، وما من أصدر "قرار الفرم" كما ذكر "النجار"، وهل هي جهة واحدة، وما هو وضعها القانوني؟!
لقد فرضت حركة ضباط الجيش في سنة 1952 الرقابة على الصحف، وكان بداخل كل صحيفة "رقيب"، هو صاحب السلطة الأعلى، على الرغم من أن قيادات هذه الصحف كانوا على ولاء كامل للحكام الجدد، وبعضهم كانت تربطه علاقة قديمة مع عبد الناصر نفسه، وبالغ في تدبيج مقالات في تأييد "العهد الجديد"، ولم يمنع هذا ليس فقط من فرض الرقابة، ولكن من تأميم هذه الصحف في وقت لاحق، ولعل من المثير للدهشة أن "تأميم" الصحف تم في سنة 1960، قبل تبني فكرة التأميم في المجال الاقتصادي في عام 1961. وقد وجد قرار التأميم تأييداً من أصحاب الصحف، لكن العقلية العسكرية لم تأمنهم رغم هذا التأييد، وكان لعبد الناصر رأياً كاشفاً أورده هيكل في كتابه "بين الصحافة والسياسة"!
مفاد ذلك أن من أضير من قرار لا تؤمن بوائقه، وإن أظهر غير هذا وهؤلاء الصحفيون وأصحاب المؤسسات الصحفية قد أضيروا من الثورة وقراراتها!.
ما علينا، فقد رفع الرئيس السادات "الرقابة" عن الصحف على النحو الوارد في دستور 1971، وكانت له خططه بعضها قانوني وبعضها تحايلي لكن لم يصل أبداً إلى "حد الفرم"!.
ما هو قانوني، فعله مع جريدة حزب اليسار "الأهالي" بالمصادرة بأحكام قضائية!
وما هو سياسي فعله مع جريدة حزب اليمين "الأحرار"، والتي كانت تنشر الكثير من ملفات الفساد، ثم تقدمها لنواب الحزب فيستجوبون الحكومة في البرلمان. وأرادت السلطة أن توقع بين الجريدة والحزب الذي يصدرها بإيغار الصدور فكانت الدعاية المغرضة حول الجريدة التي تقود حزباً!.
كان السادات يرجع نجاح "الأحرار" إلى الكاتبين الكبيرين "مصطفي أمين" و"جلال الحمامصي"، وأنهما هما من يقومان بدور رئيسا التحرير الفعليين وقد مكنهما من هذا تلميذهما ورئيس التحرير "صلاح قبضايا"، وكان يزعجه كرجل مهتم بتفاصيل ما يجري داخل الصحف، هذا النجاح المهني، ورغم العلاقة التي كانت تربطه برئيس الحزب مصطفي كامل مراد فلم يطلب منه الإطاحة به، لكنه تصرف على نحو آخر!.
لأن مديونية "الأحرار" للمؤسسة الصحفية القومية التي تقوم بطبعها قد تراكمت، ففد فوجئت إدارة الجريدة بمطبعة أخبار اليوم تطلب دفع هذه المديونية مقابل طبع العدد الجديد، ولم يكن هذا ميسورا فكان اللجوء لطباعته في مؤسسة "الأهرام"، لكن هناك تم إبلاغهم بعدم القدرة التشغيلية لمطبعتهم على طباعة صحيفة جديدة، وعندما سأل مدير تحرير "الأحرار" مدير مطابع "الأخبار" بشكل ودي قيل له "السادات لا يريد صلاح قبضايا"!.
ورد "مصطفي كامل مراد" على السادات "مناورة" بـ "مناورة"- كلاهما "منوفي" - فعين رئيس تحرير جديد اسمه "محمد الغلبان"، تفاءل السادات باسمه وسأل مراد ضاحكاً إن كان "غلبان" فعلاً؟! وجاء الرد إنه بالفعل كذلك، وكان "محمد الغلبان" صحفي مشغول بجلب الإعلانات، قبل اعتزاله للصحافة وعمله بالمحاماة!
تغير رئيس التحرير على الورق فعلاً، لكن ظل "صلاح قبضايا" يمارس عمله، مما أوغر صدر السادات عندما علم بحقيقة الموقف، وعاودت المطبعة طلب المديونية وتم وقف إصدار الصحيفة، حتى جلاء "قبضايا" فعلا؟!
مبارك خطا خطوة أعنف، مع جريدة "الشعب" الصادرة عن حزب "العمل الاشتراكي" فقد قام بتجميد الحزب لوقف الجريدة عن الصدور وعندما صدر ثلاثة عشر حكماً قضائياً تلغي قرار منع صدورها لم يكترث بها!.
لكن على استبداده فلم يستخدم الرقابة على الصحف أو "المفرمة" في التخلص من الصحف التي تنشر موضوعات ضده أو ضد سدنة حكمه، فقد كانت لنظامه حيل في محاصرة التوزيع. ربما المرة الأولى التي سمعنا بها بـ "الفرمة" في عهده كان مع عدد من أعداد إحدى الصحف الخاصة قيل إن الجهات الأمنية أوقفت طباعتها وبعد بحث توصلت إلى أن الجريدة كانت أول من نشرت الاتهام الصريح لرجل الأعمال هشام طلعت مصطفي في قضية مقتل "سوزان تميم"، وكان "الفرم" بمعرفة صاحب الجريدة ورئيس تحريرها، بعد أن تم التوصل لسعر مناسب مع المتهم مقابل منع تداول العدد!.. وهناك من يقول إن رجل الأعمال أرسل من شحن "المطبوع" كله ليفرمه بنفسه، فلم تكن بالمطبعة "مفرمة"!.
الشاهد، أن الرقابة عادت على الصحف، وأن جزاء الصحيفة التي تنشر مالا يروق للنظام العسكري الحاكم هو "الفرم"، ومن هنا فلا قيمة لنصوص دستورية تحظر مصادرة الصحف، كما تحظر الرقابة عليها.
فالذبح يتم خارج "السلخانة" لتكون هناك نصوص رائعة، وأداء ينتمي لعصر ما قبل التاريخ الإنساني!.
لاحظ أن مصر لا توجد بها صحيفة واحدة تعارض النظام ومع ذلك يتم اعتماد سياسة "الفرم"، في التعامل مع صحف الموالاة!.
إنه حكم العسكر المبدع في الاستبداد والتنكيل، فعلى من يقول إن العدد تم فرمه أن يقدم الدليل!
azouz1966@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق