اختلاف الصحابة بشأن الطاعون.. بين الرواية والمنهج معتز الخطيب ليس الجدلُ الديني القائم حول فيروس كورونا وكيفية التعاطي معه أمرًا حادثًا؛ فقد اختلفت وتعددت أنظار وتصورات الناس بشأن الأوبئة. وقد أشرت -في مقال سابق- إلى وقوع الاختلاف تاريخيًّا في تفسير الطواعين والأوبئة وكيفية التعاطي معها، وأنه وُجدت تفسيرات مادية تتمثل في أسباب طبية أو فلكية، وقد سلك هذا المسلك أطباء وفلاسفة (كابن سينا وابن النفيس وداود الأنطاكي وغيرهم)، وتفسيرات دينية كالقول بأن الطاعون وخز الجن أو أنه عقوبة على انتشار الموبقات، وقد سلك هذا المسلك محدّثون وفقهاء.
تعكس هذه التفسيرات -في الغالب- اختلافًا في منهج النظر ومصادر المعرفة: هل هي سمعية (نصية) أم تجريبية؟ وقد حاول بعضهم الجمع بين الأمرين؛ إلا أن تلقيه للمعرفة التجريبية إنما كان من جهة موافقتها للمعرفة السمعية المتمثلة في الروايات الحديثية هنا حصرًا. فالحافظ ابن حجر العسقلاني مثلاً ذهب إلى أن الطاعون من "وخز الجن" استنادًا إلى ما ورد في بعض الروايات؛ لأنه رأى أن مصدر المعرفة هنا سمعيّ ولا طاقة للأطباء به، ولذلك فهم معذورون في اختلافهم في تفسيره، ولكن هذا لا يمنع أن وخز الجن وتدخلاتهم في معاقبة الناس يُحدث ذلك الأثر الذي وصفه الأطباء، من دون قدرتهم على معرفة مصدره الأصلي الذي إنما أفادنا به السمع.
وابن حجر وغيره من متأخري المحدِّثين وشراحهم يسلكون منهجًا يقوم على عدم الزهد في أي رواية "لها أصل" وفق معاييرهم الحديثية، ثم محاولة صون الرواة (ممن لم يُتهم بالكذب أو لم يشتد ضعفه) عن الخطأ، مهما بدا لهم من إشكالات في هذه الرواية أو تلك. وفيما يخص ظهور فيروس كورونا؛ فقد شهدنا تفسيرات أيديولوجية متنوعة، بعضها ديني وبعضها سياسي، ولكن ما يهمنا هنا هو مناقشة تفسير ديني محدد شهدت به روايات عدة في مدونات الحديث النبوي، مُفاده أن الطاعون أو الوباء رجز على الكافرين ورحمة للمؤمنين؛ وهو نقاشٌ تمّت استعادته من قبل بعضهم في سياق كورونا فتراوحت التفسيرات بين كونه رحمة وعقابًا.
ولكن لماذا نعود إلى مثل هذه الروايات في سياق كورونا؟ هذه العودة هي شكل من أشكال الخبرة التاريخية للمسلمين وكيفية تفاعلهم مع الروايات النبوية والوقائع التاريخية، وهي تتصل بالصفة المعيارية التي يكتسبها عمل الصحابة لدى المسلمين، ومن ثم فهي مناسبة لتقديم رؤية نقدية لهذا الأمر. فبعض المشتغلين بالشأن الديني لا يميزون بين أنواع الوقائع المختلفة وما يَصلح للتأسي وما لا يَصلح، ويَستَروحون باستمرار بالاقتباس والإسقاط التاريخي وفق منهج لا تاريخي، بحيث تغدو كل المعارف والتطورات التي وقعت في الفترة الفاصلة بيننا وبين الواقعة التاريخية المُستَشهَد بها غير معتبرة ولا مؤثرة، فيغدو النظر إلى الطاعون كالنظر إلى كورونا سواءً بسواء؛ وأفعال المسلمين الأوائل في مواجهته هي الأفعال الصالحة لنا.
"لو استعرضنا الأحاديث والروايات العديدة التي تتصل بمسألتنا، فإنه يمكن أن نميز فيها بين ثلاثة أنواع: روايات تجعله رجزًا؛ وأخرى تجعله رحمةً؛ وثالثة تُظهر الخلاف بين الصحابة أنفسهم في توصيفه وكيفية التصرف حياله"
سأستعرض هنا بعض هذه الروايات مع بيان منهج تحليلها وفهمها، على أن أرجئ الكلام على الإشكالات الأخلاقية التي تثيرها وكيفية معالجتها إلى مقال لاحق بإذن الله تعالى.
لو استعرضنا الأحاديث والروايات العديدة التي تتصل بمسألتنا، فإنه يمكن أن نميز فيها بين ثلاثة أنواع: روايات تجعله رجزًا؛ وأخرى تجعله رحمةً؛ وثالثة تُظهر الخلاف بين الصحابة أنفسهم في توصيفه وكيفية التصرف حياله. فمما يفيد أن الطاعون رجزٌ وعذابٌ: حديث في الصحيحين عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الطاعون رجزٌ وبقية عذاب عُذّب به قوم. فإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه. وإذا وقع بأرض ولستم بها، فلا تدخلوها".
وفي حديث عائشة رضي الله عنها من رواية البخاري أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها "أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين. ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد". وقد فهم ابن حجر -كما يبدو من عنوان أحد فصول كتابه "بذل الماعون"- أن هذا كان "على من مضى"، وظاهر حديث عائشة يفيد هذا، مما يعني أن مقاصد وقوع الطاعون قد تتعدد، وقد رأى بعض المحدثين أن ذلك لا تناقض فيه؛ لأن الجهة منفكّة، فيمكن أن يقع الفعل الإلهي في قوم على معنى، وفي آخرين على معنى آخر.
وبعيدًا عن محاولة التوليف بين الروايات المختلفة هنا؛ فإن من اللافت اختلاف الصحابة أنفسهم في فهم الطاعون والصفة اللائقة به، خصوصًا أن هذه الصفة معيارية وستحدد كيفية التصرف حياله، فإن كان رحمةً فمَن ذا الذي يفرّ من رحمة الله، وإن كان عذابًا فمن ذا الذي يتقحم عذاب الله؟! ثم إن كان رحمةً فهل يجوز الدعاء برفعه؟ أي أن توصيف الطاعون ليس مسألة لفظية، بل لها تبعاتها.
وللوقوف على جانب من هذا الاختلاف؛ لنتأمل ما رواه الإمام أحمد عن بعض تفاصيل طاعون عَمواس، وفيه: أنه "لما اشتعل الوجعُ قام أبو عبيدةَ بن الجراح في الناس خطيبًا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمةُ ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلَكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يَقسم له منه حظَّه. قال: فطُعِنَ فمات رحمه الله، واستُخلف على الناس معاذُ بن جبل، فقام خطيبًا بعده فقال: أيها الناس! إن هذا الوجع رحمةُ ربكم، ودعوة نبيكم، وموتُ الصالحين قبلَكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه، قال: فطُعن ابنه عبد الرحمن بن معاذ فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطُعن في راحته".
يقول الراوي: "فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبّل ظهرَ كفّه، ثم يقول: ما أُحبُّ أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا. فلما مات استُخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خَطيباً، فقال: أيها الناس! إن هذا الوجعَ إذا وقع فإنما يشتعلُ اشتعالَ النار فَتَجبَّلُوا منه في الجبال. قال: فقال له أبو واثلة الهذَليّ: كذبتَ والله، لقد صحبتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت شرُّ من حماري هذا! قال: والله ما أَرُدُّ عليك ما تقول. وأيْمُ اللهِ لا نُقيم عليه! ثم خرج وخرج الناسُ فتفرقوا عنه، ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب من رأي عمرو. فوالله ما كَرهه".
وقد روى نحوًا من هذا كل من الحاكم وابن حبان والبيهقي. وأبو واثلة هذا لا تكاد توجد له إلا هذه الرواية، حتى قال الحافظ ابن عساكر: "لا أعرفه إلا من هذه الرواية، وقد رُويت هذه القصة من وجه آخر...، ونُسب الكلام المذكور فيها بمعناه لشُرَحْبيل بن حسَنة؛ فلعل من ردّ على عَمرو في ذلك متعدد". ومما يقوّي فكرة اختلاف الصحابة في كيفية التصرف عند وقوع الطاعون: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي في الصحيحين، أنه حين خرج إلى الشام لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فدعا أصحابه لمشاورتهم في الأمر، فاختلف المهاجرون الأولون فقال بعضهم: قد خرجتَ لأمرٍ ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تَقدُمهم على هذا الوباء.
ثم لما استشار الأنصار سلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، ثم استشار من كان من مشيخة قريش فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مُصبح على ظهرٍ فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيتَ لو كان لك إبل هبطتْ واديًا له عُدْوتان: إحداهما خصبة والأخرى جَدبة؟ أليس إن رعيتَ الخصبة رعَيْتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علمًا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تَقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه». قال: فحمِد الله عمرُ ثم انصرف".
"بعيدًا عن هاجس التوفيق أو المواءمة بين الروايات الذي سيطر على العديد من شرّاح الحديث؛ فإن تحليل مثل هذه الأحاديث يفتقر إلى منهج مركَّب يستحضر مختلف الأبعاد والسياقات، وتنوع الأشخاص الفاعلين وطرائق تفكيرهم، وغير ذلك مما يتطلبه التحليل النصي والتاريخي"
تحيل هذه الوقائع إلى أن الاختلاف كان قويًّا، بل وشديد اللهجة في بعض الأحيان، ويمكن أن نميّز فيه بين موقفين رئيسين: فريقٍ يراه رِجْزًا وبقية عذاب كسعد بن مالك وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت وعمرو بن العاص، بل إن موقف عمر بن الخطاب يمكن أن يُحسب على هذا أيضًا ويبقى الكلام في تفسير العذاب والرجز. وفريق آخر يرى فيه رحمةً، بل ويدعو الله أن ينال نصيبه منه، كمعاذ وأبي عبيدة وغيرهما. ومن اللافت أن المهاجرين والأنصار لم يكن لهم موقف موحد، على خلاف من استشارهم عمر ممن قيل فيهم: إنهم "من مشيخة قريش" الذين اتفقوا على تجنب هذا الوباء.
وبعيدًا عن هاجس التوفيق أو المواءمة بين الروايات الذي سيطر على العديد من شرّاح الحديث؛ فإن تحليل مثل هذه الأحاديث يفتقر إلى منهج مركَّب يستحضر مختلف الأبعاد والسياقات، وتنوع الأشخاص الفاعلين وطرائق تفكيرهم، وغير ذلك مما يتطلبه التحليل النصي والتاريخي. من الواضح أن هذه الأحاديث تفيد عدم وجود خبرة تاريخية سابقة في التعرض للوباء، ومن ثم شكّل طاعون عمواس (17-18هـ) تحديًا كبيرًا أثار العديد من التساؤلات لدى المسلمين الأوائل؛ عن تصورهم عن أنفسهم ومكانتهم وعلاقتهم بالله، وعن الفعل اللائق أو الواجب في هذه الحالة.
فقد بدا الوباء نفسه غامضًا من الناحية المادية، فلا خبرة تاريخية سابقة ولا معطيات علمية تساهم في تفسير وقوعه وآلية عمله، ولذلك فإن النقاشات كلها كانت تدور -بشكل مركزي- حول فعل الله وكيفية توصيفه، واستند الصحابة إما إلى الاجتهاد الشخصي، أو المشورة، أو الرواية المسموعة التي حفظها بعضهم واستحضرها عند الحاجة إليها، وهو ما نسميه "سبب رواية" وهو سياق تأويلي.
ولكن الأهم هو "سبب الورود" الذي يبدو شبه غائب؛ فهو سبب نقليّ يرتبط بأصل القول وسياق ظهوره، كأن يكون جوابًا على سؤال (كما في حديث عائشة مثلاً)، أو واردًا على مناسبة استدعت الإرشاد والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً. تتصل هذه الأحاديث أيضًا بتصورات مختلفة حول "التوكل" والنظر إلى "الأسباب" ووقوع "العدوى"، وهي نقاشات ستشتد لاحقًا وتصبح طويلة الذيل بين الفرق الإسلامية المختلفة. وهنا يمكن أن نميز بين مستويين: الأول: انحيازات الأشخاص الفاعلين في هذه الروايات؛ والثاني: الأدوار التي يشغلونها.
فمن جهة الانحيازات يمكن أن نرصد موقفين: موقف الزاهد الراغب في فضيلة الشهادة بالموت مطعونًا، وأن ينال نصيبه مما يعتبره رحمة إلهية؛ وموقف مقابل له يحرص أصحابه على الأخذ بأسباب الوقاية، ويقوم على فهم أعمق للوباء ووقوع العدوى به، وأن تجنبها هو من قدَر الله ولا يتنافى مع التوكل عليه سبحانه. ومن جهة أدوار الفاعلين في المشهد؛ فإن حسابات الأمير أو القائد (رجل الدولة بالتعبير الحديث) تختلف عن حسابات الأفراد، وهذا يبدو بوضوح من موقف عمر بن الخطاب الذي جعل الأمر شورى بين مختلف مكونات الجماعة، خصوصًا أن الأمر كان مرتبطًا بالأجناد الذين خرجوا في مهمة لها حساباتها التي منها حفظُ الجماعة.
وهو ما بدا من رأي مشيخة قريش الذي اتسم بالحكمة، وهو فحوى الوصف المعبَّر عنه هنا بـ"مشيخة قريش". وبدا كذلك من قول عمرو: "يشتعل اشتعال النار" في إحالة إلى وقوع العدوى وتوقّع سريان الوباء في الجماعة كلها، ولذلك وضع سياسة استباقية وهي التفرق بين الجبال، ولم يعبأ بمن خطّأه اعتمادًا على مجرد رواية. كان عمرو أحد أمراء الأجناد في الشام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرّبه ويُدنيه لمعرفته وشجاعته، وكان الشَّعْبيّ يَعُده من دهاة العرب ويقول: "فأما عمرو فللمعضلات". ومن اللافت كذلك أن الخليفة عمر بن الخطاب قدَّم مفهومًا دينيًّا متينًا لقدر الله، لا يتعارض فيه فعل الله مع فعل الإنسان واختياره.
وبعيدًا عن تفاصيل الروايات؛ يمكن القول إنها تتفق على أمرين: الأول: تجنّب البلد الذي أصابه الطاعون، والرواية الأشهر من حديث عائشة السابق هي "فيمكث في بلده"، وإن كان قد ورد في رواية عند أحمد "فيمكث في بيته"، ولكن رواية "في بلده" أقوى، وهي منسجمة مع حديث النهي عن دخول بلد وقع فيه الطاعون، والنهي عن الخروج منه إذا وقع. والثاني: أن من أصابه الطاعون فإن عليه أن يستعين بالصبر والجلَد والرضا بقدر الله وعدم السخط؛ وحينها فقط يتحول الطاعون إلى رحمة في حقه، لأن الوباء ليس بذاته رحمة ولكنه قد يتسبب في حصولها؛ فالطاعون عذاب للجسد بلا شك، ولكن الرحمة والشهادة إنما تترتب على فعل أو انفعال الإنسان في هذه الحالة، من الصبر والتسليم بقدر الله والرضا بذلك، وهذه المرتبة الأخيرة أعلى الدرجات.
"هذا النقاش كله يتصل بمفهوم "الأسوة" أو "النموذج" المعياري الذي يمكن أن يُحاكى في حقل الأخلاق، والذي عادة ما يُستخدم استخدامًا سطحيًّا من قبل بعض الخطابات الدينية التي تختزل الأمر بعبارة غائمة مثل: "خلاف فعل الصحابة" أو "إن هذا أمر لم يفعله الصحابة""
فثبوت أجر الشهيد للمطعون الذي يمكث في بلده مبنيٌّ على أمرين: (1) الصبر وعدم الجزع؛ (2) خلوص اعتقاده في أن الفاعل هو الله، وتسليمه بقضائه في كل الأحوال مع أخذه بالأسباب لأنه لا يعلم قدره على وجه الدقة، فهو يدفع قدرًا بقدر، وأينما تحرك لم يخرج عن قدر الله لأنه الفاعل الحقيقي. وهذا الأجر يشمل حتى من لم يمت بالطاعون ما دام حقق الشرطين. ومن مات بالطاعون وتحقق بالشرطين، كان له أجرُ شهيدين: شهادة الطاعون، وشهادة الصبر والتسليم بقدر الله.
حاولت فيما سبق أن أوضح تفاوت الأشخاص الفاعلين من حيث معيارية أفعالهم، وقصور الاعتماد على فعل تاريخي محدد، أو رواية جزئية لبناء حكم معياري للتصرف إزاء حدث أو واقعة معينة، خصوصًا إذا كان هذا الفعل مما يطرأ عليه التبدل التاريخي. ففي مثال الأوبئة؛ فإن بعضها قد يحصل بفعل الله القدري، وبعضها قد يحصل بفعل الإنسان نفسه، حيث صارت الحرب البيولوجية أحد ألوان الحروب الحديثة، أو أن الفعل القدري قد يكون من نتائج عبث الإنسان وتدخلاته في الكون.
وهذا مما يجلبه التقدم العلمي المادي نفسه، والأمر نفسه ينطبق على تطور أساليب مقاومة الأوبئة وألوان العلاج والأمصال الملائمة لمكافحتها، مما سيؤثر على تصوراتنا التقليدية بشأن قدَر الله فيوسع آفاق تصورنا له، ولهامش حركتنا ضمن قدر الله تعالى بالمعنى الذي شرحه سيدنا عمر. إن هذا النقاش كله يتصل بمفهوم "الأسوة" أو "النموذج" المعياري الذي يمكن أن يُحاكى في حقل الأخلاق، والذي عادة ما يُستخدم استخدامًا سطحيًّا من قبل بعض الخطابات الدينية التي تختزل الأمر بعبارة غائمة مثل: "خلاف فعل الصحابة" أو "إن هذا أمر لم يفعله الصحابة". وهنا لا بد أن نميز بين نوعين: مجرد التقليد والمحاكاة لشكل الفعل التاريخي، والقيمة أو الفضيلة الكامنة وراء الفعل والتي يجب الاجتهاد في تحديدها بناء على منهج التحليل الذي قدمنا له نموذجًا هنا.
وذلك لأن الفعل دومًا حمّال أوجه؛ فهو مرتهن إلى سياق خاص أو سياقات مختلفة، وقد يُنقل مُتَقصًّى أو مختصرًا؛ والفعل التاريخي قد تحوّل في هذه الحالة إلى رواية، ولم يعد فعلاً حيًّا مشاهدًا. فغياب عنصر المشاهدة ردّه مجددًا إلى درجة الرواية السماعية، فطرأ عليه ما طرأ على القول واحتمالات تأويله، وهو ما يتطلب منهجًا أشد تركيبًا لمحاولة فهمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق