في حرب الماعز والخرفان
ثلاث قرى مصرية، وثلاثة مواقف دالّة بطلها الرئيس فيروس كورونا.
في بداية الأسبوع الماضي، كانت قرية، اسمها بولص، في محافظة البحيرة (في مصر) تتجمهر رفضًا لدفن جثمان والد أحد الأطباء البواسل الذين يتصدّون لوباء كورونا.. انتقل الفيروس إلى جسد الوالد عن طريق ابنه الطبيب الذي يعمل في مستشفى العزل، فمات الوالد وتم الغسل والتكفين لجثمانه داخل المستشفى بطريقةٍ صحيحةٍ تمنع تماما نقل العدوى إلى الآخرين، وتضمن سلامتهم، وتوجهوا به إلى قريته لدفنه، لكن عددًا من الأهالي رفضوا وتجمهروا وقطعوا الطريق إلى المقابر، ودارت اشتباكاتٌ عنيفة، فحضرت الشرطة تفاوضهم وتترجاهم على استحياء، حتى تمت مواراة جسد والد الطبيب الثرى.ة
هل تم اتخاذ أي إجراء قانوني ضد الذين حاصروا المقابر، ورفضوا دفن المتوفى؟ لا توجد معلوماتٌ بهذا الصدد، لكن ما هو معلوم ومؤكد أن قوات الأمن تحرّكت، في موقف آخر في مكان آخر، لاعتقال سبعة مواطنين أدّوا صلاة الجمعة، معًا، بحديقة في حي الرحاب بالقاهرة، وأحالتهم إلى التحقيق، حيث وجه لهم وزير الأوقاف تهمة الخيانة العظمى، بحسب تصريحاته المنشورة.
أخطأ السبعة بمخالفة إجراءات مكافحة المرض، ولكن أن يعد ذلك خيانة عظمى، فهذا هو السفه، والوقاحة في التصريحات، الصادرة عن وزير أوقاف في دولة إسلامية، يتحدّث وكأنه وزير داخلية أو مدير مخابرات.
في اليوم التالي، كانت أم الفواجع في قرية أخرى بمحافظة الدقهلية، اسمها شبرا البهو. ماتت طبيبة، شهيدة، في أثناء عملها في معالجة المصابين بالفيروس، فتوجهت أسرتها لدفنها في القرية، بعد اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة في تجهيزها للدفن، بالمقابر، التي قيل إن الطبيبة وعائلتها أنشأوها على نفقتهم، غير أن الأهالي احتشدوا بأعداد غفيرة لمنع دفنها، فتدخلت الشرطة، ووقعت اشتباكات، وجرت عمليات قبض وإحالة إلى النيابة لعشرات من المحتجين، وتم دفن الطبيبة بعد نحو خمس ساعات من المفاوضات والمواجهات والكرّ والفر.
في اليوم التالي، قرية اسمها شباس عمير، محافظة كفر الشيخ، تقدّم نموذجًا مغايرًا تمامًا، وتضرب المثل في الرقي والتحضر، إذ اصطف جميع سكان القرية في مشهد جليل للصلاة على متوفاة بفيروس كورونا عند المقابر، على الرغم من أن أهالي الميتة رفعوا عن الجميع الحرج وطلبوا منهم الصلاة عليها من منازلهم، غير أن الأهالي حضروا ووقفوا في صفوف منتظمة، متباعدين بالقدر اللازم، مرتدين وسائل الوقاية والحماية، حتى تمّت عملية الدفن في هدوء ووقار يليق بالموقف.
الجدير بالرصد هنا أن المواطنين وجدوا رخاوة واسترخاء في تعاطي الشرطة مع المشهد الأول، واقعة دفن والد طبيب البحيرة، ثم وجدوا صرامة وغلظة مفرطة في التعامل مع السبعة الذين صلوا الجمعة، فتجرأوا على تكرار مشهد قرية البحيرة في قرية الدقهلية، غير أن تدخل الشرطة جاء صارمًا وفوريًا وانتهى باعتقالاتٍ وتحقيقاتٍ وبيان شديد اللهجة من النائب العام، فوصلنا إلى المشهد الأخير في محافظة كفر الشيخ، حيث مضت عملية التشييع والدفن في سلاسة متحضرة.
والشاهد أن القبح الإنساني لا يندلع فجأة، فدائمًا هناك إدارة شريرة تستثمر في الجزء المعتم من الشخصية المصرية، كما أنه مهما بلغت حدّة وشدّة عمليات التدمير المنهجي للقيم والأخلاقيات والسلوكيات، التي تمارسها سلطة عبدالفتاح السيسي، منذ أكثر من سبع سنوات، فإن الشعب المصري لا يزال يحتفظ بكثير من قواه الروحية والأخلاقية، ولم ينحدر بعد إلى قاع البلادة في الحس، ولم يتجرّد من خصال كالشهامة والمروءة، وخصوصًا في لحظة الموت.
هذه الجماهير، هي ذاتها التي ضربت المثل الأروع في التضامن والتعاون الإنساني المتحضر في أيام ثورة يناير 2011، حين وجدت من يخاطب المساحة النقية الخضراء في عقلها وضميرها، فحافظت على قوام بلدٍ تخلت عنه سلطاته الأمنية وتركته نهبًا للفراغ والمجهول.
هي ذاتها الجماهير التي خرجت منها جموعٌ أظهرت نبلًا في اختيارها لواحد من الناس العاديين بانتخاب محمد مرسي رئيسًا في أول وآخر فرصة حقيقية تتاح لها للاختيار الحر، ثم أظهرت إنسانيةً حقةً في بدايات الاعتصامات الرافضة انقلاب عبد الفتاح السيسي، بدليل أنها صمدت بالملايين في الميادين، حتى أعمل الانقلابيون فيها أبشع مذابح عرفها التاريخ، وأمعنوا في توحشّهم وتنكيلهم، بهدف القضاء على أي نزوعٍ نحو التمسك بقيم الحق والخير والجمال والدفاع عنها.
هي ذاتها الجماهير التي عملت سلطة الخوف والقهر والعداء المطلق للإنسانية، ونجحت في استخراج أسوأ ما فيها، ووضعها أمام واقع جديد يقول إن البقاء للأسوأ.
تلك هي الجماهير، بكل التناقض وبكل التنازع بين الخير والشر فيها، إذا وجدت من يأخذها إلى الخير سارت، وإذ تم اقتيادها للشر، عنوًة وإرهابًا، مضت.
وفي كل الأوقات، هناك من يزرع الخراب، بعنايةٍ فائقة، في الوجدان العام. وهناك من يستثمر ويتكسب من عمليات شق مصر أفقيًا ورأسيًا، ويحارب من أجل بقائها منقسمًة ومتشظيًة، على المستويات كافة، مسلم ومسيحي، متدين وعلماني، مدني وعسكري، ابن مدينة وفلاح..
هكذا بدأت القصة على نحو مدروس منذ بواكير الانقلاب على كل شيء في مصر، باختراع ثنائية "مواطنين شرفاء، وخرفان"، ليشتعل حريق مجتمعي، تذكيه السلطة كلما خمد لهيبه.
والآن وصلنا إلى ما هو أسوأ من الناحية الأخرى، بتطوير مستوى الانقسام والاحتراب الأهلي إلى ثنائية "الخرفان والمعيز" في رقصةٍ أشبه برقصة الانتحار الجماعي، قطعًا لأي طريق، وحرقًا لأي فرصة في استعادة وحدة الوجود الإنساني في المجتمع الواحد، وإدارة الاختلافات والخلافات، أو حتى التناقضات، من دون أن يفني فريق الآخر، أو أن يرى نصف المجتمع النصف الثاني من الخرفان أو المعيز.
هكذا بدأت القصة على نحو مدروس منذ بواكير الانقلاب على كل شيء في مصر، باختراع ثنائية "مواطنين شرفاء، وخرفان"، ليشتعل حريق مجتمعي، تذكيه السلطة كلما خمد لهيبه.
والآن وصلنا إلى ما هو أسوأ من الناحية الأخرى، بتطوير مستوى الانقسام والاحتراب الأهلي إلى ثنائية "الخرفان والمعيز" في رقصةٍ أشبه برقصة الانتحار الجماعي، قطعًا لأي طريق، وحرقًا لأي فرصة في استعادة وحدة الوجود الإنساني في المجتمع الواحد، وإدارة الاختلافات والخلافات، أو حتى التناقضات، من دون أن يفني فريق الآخر، أو أن يرى نصف المجتمع النصف الثاني من الخرفان أو المعيز.
تعمل السلطة من البداية بكامل طاقتها على إظهار الشعب همجيًا وفوضويًا وغير إنساني في مواجهة وباء كورونا، لتعلق عليه كل فشل، وتحمّله مسؤولية كل كارثة تقع، وليس الإلحاح على تأطير وتثبيت مشاهد موت الإنسانية في قرى مصر، سوى جزء من جهد شرّير يريد قتل ثقة المجتمع في نفسه، وإحراق أي يقين داخله بأنه يستحقّ حياة أفضل، ومن ثم استمرار عملية تكفير الشعب بالشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق