الثلاثاء، 14 أبريل 2020

الــــقــــــط


الــــقــــــط

لماذا يخون من لا يفترض به أن يخون..
لماذا يخون من ينتظر منه أن يصون..
أتساءل فلا أجد إجابة أبدا..
وفي بحر الحيرة يغمرني الألم..
يحملني إعصار الألم على أجنحة الزمن فأعود إلى طفولتي الأولى..
كان ذلك منذ ما يقرب من ستين عاما.. كنت في الثالثة من عمري أو الرابعة على الأكثر.. في منزلنا كان يوجد قط نصف عاجز.. أظنه كان أعمى أو شبه أعمى.. وكان محاصرا بعماه.. كان قلبي ينفطر من أجله وأسيل حنانا عليه.. كنت أعتبره أعز الأصدقاء.. وربما الصديق الحقيقي الوحيد.. وما أكثر ما جالسته.. كان يحادثني و أحادثه.. وكنت أظن أنه يفهمني وأفهمه.. كنت متضايقا جدا لأنه لا يستطيع النطق مثلي.. لكنني على أي حال كنت أفهم مواءه وأترجم حركاته.. تماما كما لو كان يتكلم.. وكنت أبحث عنه دائما كي أحمل إليه الطعام..كان ذلك يشعرني بسعادة لا توصف من ناحية.. ومن ناحية أخرى كنت أشعر أنني أؤدي واجبي المقدس الوحيد.. وإزاء قلة حركته وكمية الطعام راح الشحم يتراكم تحت جلده..فيزداد نعومة وبهاء.. ويزداد رونق فروه الأبيض الساحر الجميل.. أصبح صديقي سمينا إذن لكنه كان يفاجئنا بخفة حركته إذا ما طرأ طارئ حيث كانت تمر بحديقتنا بعض كلاب الصيد الخاصة بالجيران وكانت تحاول اقتناصه فيفلت منها في اللحظة الأخيرة ببراعة كانت تذهلني و تثير إعجابي و تشعل حماسي.. خاصة إذا تعددت الكلاب وبدا لنا استحالة إفلاته.. كنت أتخيل أحيانا أنه يتعامل مع تلك الكلاب بمكر محبب إلى قلبي فيتركها تقترب منه حتى تظن أنها أطبقت عليه لكنه في اللحظة الأخيرة الحاسمة يفلت منها.. قال لي شخص –لا أذكره- أن الأمر ليس مكرا ولكن ضعف بصره الشديد كان يجعله لا يرى الخطر حتى يقترب جدا جدا.. حزنت وغضبت فقد كان الاتهام يطعن في كفاءة صديقي الحبيب.. بل أقرب الأصدقاء إلى قلبي.. وكان من العجائب علاقته الودودة بكلب يحرس الحديقة الصغيرة الملحقة بمنزلنا..كلب لم نكن اخترناه ولا اقتنيناه.. بل آوى إلينا فأويناه.. كان بالمجاز كلب حراسة.. لكنه في الواقع لم يكن كلب صيد ولا زينة ولا حراسة.. كان كلبا عاديا من كلاب الشوارع.. كان يخيفني.. وكان قبح صوت نباحه يزعجني..أتذكر أنني شكوت من ذلك بل عبرت عن اعتراضي بالبكاء.. أذكر أن أحدهم-لا أذكر من هو- أخذ يعلمني كيف يحرسنا وينبهنا إلى الأعداء.. قبلت الأمر على مضض.. لكن عداوتي له بدأت تذوب عندما رأيته كثيرا يلعب مع صديقي الحبيب.. بل وبدأت أميل إليه عندما تصورت أن حمايته التي يسبغها علينا من الأعداء لابد أن تنال بركتها صديقي القط الذي كان يلعب معه كثيرا لكنه دائما يلتزم جانب الحذر رغم أن كلبنا لم يبد منه ما يستوجب هذا الحذر.. تعلقت بالقط كثيرا.. ورغم عدائي الفطري لكل الكلاب الأخرى فقد أحببت كلبنا لأنه كان يحنو على قطي الحبيب ويداعبه..
كانت مغامرات القط وبراعته في الإفلات من أعدائه هي شغلي الشاغل وأهم حدث في حياتي.. ما أن تنقضي مغامرة منها حتى أظل أستعيدها وأرويها في حماسة منقطعة النظير حتى تأتي مغامرة أخرى وبطولة أخرى فأنتقل إلى حكايتها.. كان انفعالي يبلغ ذروة أعلى كلما بدا الإفلات من الخطر أصعب..
وذات يوم.. كنت واقفا في الشرفة أتحدث معه بلغتنا الخاصة.. وفجأة بدأت الواقعة.. بدأت دون أن أحس بها تقريبا.. لم أنتبه إلا في الثواني الأخيرة..
الآن.. بعد ستين عاما.. عندما أستعيد الحدث تضيع مني تفاصيله.. و بالأحرى فإنني لم ألمّ بهذه التفاصيل أبدا.. لا أستطيع الإجابة عن عدد الكلاب المهاجمة.. هل كانت كلبين أو ثلاثة..أم كانت أكثر.. ما أذكره هو الثانية الأخيرة.. لم أر الكلاب وهي تقترب ولكنني رأيتها وهي تتأهب للانقضاض.. سرت النشوة داخلي كتيار كهربائي وأخذ قلبي يدق كمطرقة وأنا أنتظر لحظة النصر المبين المعجزة..
بعد ستين عاما أسأل نفسي: هل كانت الكلاب سريعة في انقضاضها إلى هذا الحد أم أن انفعالي هو الذي خيل إلىّ ذلك.. انقضت على حبيبي بسرعة الضوء.. لكن البطل تنبه في آخر لحيظة.. وقفز قفزته الرائعة فقفز قلبي معه وأنا أتأهب للنشوة المستحيلة والتصفيق وإطلاق صيحة النصر.. وفي تلك اللحيظة بالذات حدث الأمر المذهل.. الأمر الذي لم أتخيله أبدا.. ولكنه حدث.. لم أر بوادره ولكنه حدث.. لم أكن قد تنبهت إلى أن الكلاب المهاجمة جاءت من جانب.. وكان كلبنا في الجانب الآخر.. لحظة القفزة.. والقط في الهواء يمارس لعبة النجاح المستحيلة..في اللحظة الفارقة الخطرة كانت المفاجئة الصاعقة التي لم تستغرق معشار ثانية.. قفز كلبنا فعرقله وأنشب مخالبه فيه في نفس اللحظة التي كانت كلاب الصيد قد أدركته.. وسمعت قطي الحبيب يطلق صرخة بشرية طويلة حادة مفزوعة مستنجدة هائلة .. كان بين أنياب الكلاب.. كانت تجذبه بأنيابها ومخالبها,, وجدته قد طال مع تجاذب أطرافه حتى تضاعف طوله ضعفين أو أكثر.. كانت الكلاب تمزقه.. وتلاحقت الصرخات البشرية الطويلة الحادة المفزوعة المستنجدة الهائلة.. صرخات مسعورة هستيرية.. ولم أدرك إلا بعد لأي أنها لم تكن صرخات القط.. بل كانت صرخاتي أنا.. وكان أحد الكبار قد اختطفني من أمام المشهد البشع رحمة بي و أنا أصرخ وأصرخ وأصرخ..
الآن أذكر أن صرخاتي لم تكن بسبب الحزن فقط.. بل كانت احتجاجا صارخا غاضبا على من حملني كي يبعدني عن المشهد كله.. كنت صغيرا جدا وكان كبيرا وتخيلت أنه يملك قوة أسطورية مادمت رغم محاولاتي المستميتة لم أستطع التملص من حضنه الخانق.. وكانت صرخاتي التي اختنقت فيها الكلمات فتلاشت عبارة عن توسل فاجع أتسول منه به أن يتركني ويعود فيستعمل قوته الخارقة في إنقاذ قطي.
لا أذكر شيئا بعد ذلك.. بل لجأت نفسي إلى حيلة معروفة في علم النفس.. كرهت الكلاب وتجنبت القطط دون أن أعرف لماذا حتى برزت الواقعة في ذاكرتي فجأة بعد أعوام طويلة كما تبرز الآثار المطمورة حين تزيح العواصف الهوجاء أكداس الرمال من عليها بعد آلاف السنين.. وتكرر بروز الحادثة واختفائها فكنت كل بضعة أعوام أتذكرها كما لو كانت قد حدثت بالأمس..
هل كان لذلك تأثير على مواقفي الحادة ضد الظلم وفي مؤازرة المظلوم طيلة حياتي..
كلما شاهدت شراسة معتد أو خيانة حارس استعدت الواقعة.. منذ طفولتي حتى اليوم.. إلا أنني في طفولتي الباكرة استعدتها آلاف المرات وأنا أغير الوقائع وأبدل الأحداث كي أنقذ قطي.. كانت أبسط الوسائل أن أجعل القط يتنبه عشر ثانية قبل الكارثة .. عشر ثانية كانت تتيح له الفرار..عشر ثانية كانت تريحني من ألم لم يبرحني العمر كله.. بعد ذلك كنت راميا أحمل جعبة من السهام أطلقها فأقتل بها الكلاب جميعا.. ثم فارسا على جواد أحمل رمحا أطعن به الكلاب جميعا.. ثم كاوبوي أستطيع أن أشهر مسدسي أسرع من قفزة الكلاب الشرسة فأرديها جميعا.. بل وتطور الأمر حتى استعملت الطائرات والقنابل كي أنقذ صديقي.. وفي أحيان أخرى كنت أصبح طبيبا شهيرا أعيد لقطي إبصاره كي لا يقع في المصيدة.. أو أحقنه بعقار جديد لا يعرف سره سواي يمنحه قوة أسطورية تجعله قادرا على تمزيق الكلاب جميعا.
وكنت دائما أعود من رحلة أحلام اليقظة أسيفا لأنني لم أنجح في تحقيقها أبدا.
المرة الأخيرة التي تذكرت فيها تلك الحادثة كانت أثناء حصار غزة..أثناء القصف والحصار وادعاءات مسيلمة عن المعبر المفتوح .. ثم ازداد تجسد الذكرى في اللحظة التي قرأت فيها عن تعذيب المجاهدين في بلادي..
السؤال الذي لم أعثر له على إجابة أبدا.. طيلة الستين عاما الأخيرة.. والذي يتسبب لي في ضيق لا يوصف.. وغضب لا ينفثئ.. ودهشة ليس لها تفسير.. وحزن ليس له عزاء.. هذا السؤال الذي ما يزال يدمدم في وجودي كله هو:
لماذا فعل كلبنا ذلك؟
لماذا خان..
لماذا في اللحظة التي كان يجب أن ينقذ فيها افترس..
كان المفروض أن يحمينا من الأعداء فلماذا انضم إلى الأعداء..
لماذا..
لماذا..
لماذا..
لماذا فعل كلبنا ذلك؟!..
...
فهل منكم من يجيبني ليريحني؟!..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق