قصة استشهاد طارق أيوب
فى مثل هذا اليوم قبل 17 عاما استشهد الزميل طارق أيوب فى بغداد خلال تغطيته أحداث الإحتلال الأمريكى للعراق وقد حضرت جنازته وكتبت قصة استشهاده -رحمه الله - أعيد نشرها لمن أراد التعرف عليها
ـ بقلم: أحمد منصور
التاريخ: 15 أبريل 2003
الثلاثاء 13 صفر 1424 هـ الموافق 15 ابريل 2003
الثلاثاء 13 صفر 1424 هـ الموافق 15 ابريل 2003
انهمرت الدموع من عيني حينما أخذنى الدكتور طارق طهبوب صهر الزميل الشهيد طارق أيوب من يدى وقال لى: تعال لأريك وجهه بعد مضى ثلاثة أيام على وفاته بين حر بغداد والطريق، نظرت إلى وجه الشهيد طارق أيوب فوالله لكأنما أراه نائما دون أى تغيير على وجهه، فهذا وجه طارق الذى أعرفه كأنما أراه حيا ولكنه نائم قرير العين مطمئنا.
ناديت الأستاذ محمد جاسم العلى المدير العام لقناة الجزيرة والزميل إبراهيم هلال لمشاهدة وجه طارق فاجتمع الناس على الجثمان فلم يغضب صهره، وإنما قال للناس وكأنما يتباهى بزوج ابنته أنظروا إلى وجهه ليس عليه أى تغيير أو تبديل نفسه كيوم جاء لخطبة ابنتى كما أنه بعد ثلاثة أيام من الحر ولم يوضع في ثلاجة ليس له أى رائحة غير طيبة، وقد دفعنى هذا الأمر إلى ملازمة الجثمان حتى المقبرة فقد ركبت السيارة التى أقلته بعد الصلاة عليه، وحملت نعشه حتى أنزل إلى المقبرة، وحينما أنزل إلى القبر نزع عنه الغطاء البلاستيكى الذى كانوا قد وضعوا الجسد فيه في بغداد حتى يدفن بملابسه التى استشهد فيها. ولأن الشظية التى أصابته من الصاروخ الذى أطلق على مكتب الجزيرة في بغداد أصابته في قلبه كما أخبرنى صهره ووالده من بعد، فحينما وضع في القبر كانت الدماء تغطى قميصه وكان الدم ينضح من جرحه كأنما أصيب في هذه اللحظة، فلم يكن الدم قد جف حتى على جواربه، أما قميصه فقد كان مخضبا بالدماء التي كانت لا تزال تنزف، وحينما طلبت من أخيه الأصغر خليل الذى كان يسجى جثمانه في القبر مع آخرين أن يديره على جانبه الأيمن فأمسكه خالد ثم رفع إلي يديه وإلى الناس فإذا بها مخضبة بدم أحمر قان رطب كأنه من جرح حديث فوجدت الناس يحاول كل منهم أن يمس يد أخيه خالد المخضبة بدماء الشهيد حتى يعلق بيده شيء من دماء الشهيد في الوقت الذى ارتفع فيه التكبير من الوقوف، فالدماء عادة ما تجف بعد ساعة أو أقل أو تتجلط أما بعد ثلاثة أيام والجرح ينزف كأنما أصيب الآن فهذا والله ما رأيته ورآه الناس،وأثناء دفنه قال لي شقيقه الأكبر منه خالد الذى كان يقف إلى جواري وهو يزيح الناس عن قبر ملاصق لقبر طارق، انظر إلى هذا القبر الصغير فكان هناك شاهد على القبر يحمل اسم نادية طارق أيوب توفيت في 19 مارس 2002 فقال لي هذه ابنة طارق كانت توأما لأختها فاطمة التى يبلغ عمرها الآن عاما ونصف العام تقريبا، وقد توفيت نادية وعمرها اثنان وخمسون يوما فقط وحينما دفناها هنا في هذا القبر الصغير قال طارق من حبه لها أود أن أدفن بجوارها، وهذا كما ترى أمر صعب في هذه المقبرة المزدحمة لكني أمس جئت إلى المقبرة وفي ذهني أمنية طارق التي كنت أرى أنها شبه مستحيلة، وحينما جئت إلى قبر نادية وجدت هذا القبر الملاصق لها محفورا وأخبرنى المسئولون عن المقبرة أنهم حفروه منذ أشهر لشخص كان من المقرر أن يدفن فيه لكنه ربما دفن في مكان آخر وبقى القبر خاليا طوال هذه المدة حتى يشاء قدر الله أن يدفن فيه طارق بعد عام واحد فقط من أمنيته أن يدفن إلى جوار رضيعته الصغيرة نادية. أما زواجه فقد كانت له قصة طريفة أيضا، فقد كان طارق يعمل مع وكالة «أ بى تى إن» الاخبارية التليفزيونية، وحينما وقعت حادثة عضو البرلمان التركي المحجبة مروة قاوقجى وأثارت ضجة كبيرة قامت مظاهرة كبيرة قامت بها المحجبات في الأردن احتجاجا على سياسة الحكومة التركية بمعاداة الحجاب، وكلف من الوكالة بتصوير المظاهرة، وأخذ رأى احدى المحجبات على أن يكون بالانجليزية، وحينما سأل أيهن تتقن الأنجليزية بطلاقة فدلوه على ديمة طهبوب التى ما إن أنهت تصريحها حتى أخذ طارق يبحث عن أهلها حتى يتقدم لخطبتها، وبالفعل تقدم طارق لأهلها فرحبوا به ولم يعيبوا عليه شيئا سوى أن أصوله تعود إلى نابلس بينما هى من الخليل وأهل الخليل لهم عادات أو كان لهم عادات ألا يزوجوا بناتهم إلا لأبناء جلدتهم، أى من الخلايلة أما أهل نابلس فيعتبرون غرباء رغم أن الجميع كانوا أغراباً في الأردن بعد ذلك، وكان المتصدر لها هو جدها لأن والدها الدكتور طارق طهبوب لم يكن يمانع لكن رأى الجد كان لا يهمل ولا يكسر، لكن طارق لم يكف عن البحث عن كل وسائل التأثير لتغيير رأى جدها ولم يترك واسطة يمكن أن تغير رأي الجد في الموضوع إلا وسلكها وكان الجد يقول أنا لا أعيب على الشاب شيئا سوى أنه ليس خليليا، وفي النهاية ذهب للجد أحد أصدقائه وظل يستدرجه، ويستعطفه حتى وافق الجد بصعوبة بالغة وتزوج طارق أيوب من ديمة طهبوب. أما جنازته التي خرجت من مسجد الجامعة الأردنية بعد ظهر الخميس الماضي فتحولت إلى تظاهرة حاشدة ضمت الآلاف من المشيعين وكأنما خرجت الأردن جميعها لوداع الشهيد طارق أيوب حيث مثل الحضور الدولة على كافة مستوياتها الرسمية والشعبية والطلابية، وقد ظلت الهتافات المعادية لأميركا واسرائيل ترددها الجموع ما يقرب من الساعة حتى أن السيارة التى تحمل الجثمان لم تستطع أن تشق الطريق بين الناس إلا بعد تدخل العديد من كبارضباط الأمن الذين كانوا يملأون المكان لفتح الطريق للسيارة ومن ثم عشرات السيارات التى تبعتها إلى المقبرة، وعند المسجد وقفت والدته بين عشرات من السيدات ثم تكلمت في الجموع بكلمات قليلة احتسبت فيها ولدها عند الله ثم أخذت تدعو على الأميركان ويؤمن الناس من ورائها مما أهاج المشاعر وأبكى العيون، وعندما وقفت عائلته لتلقى عزاء المشيعين عند المقبرة وقفت إلى جوار والده واخوانه وصهره فوجدت معظم الناس لا يقدمون العزاء بالشكل المعتاد في الجنائز وإنما كان أغلب الناس يهنئونهم على استشهاده وكأنما نحن في عرس ولسنا في جنازة، ثم قال لى والده: والله رغم حزنى عليه إلا أن فرحى يكاد يعادل حزنى ويكفي أنى تحسست جرحه فوجدته ينزف كأنما أصيب لتوه، وخضبت زوجته كذلك يدها من دمائه، وهى فرحة وتقول لى: ياعمى إن دمه أخضر كأنما أصيب الآن وليس قبل ثلاثة أيام، وطارق أيوب الذى اتخذه الله شهيدا له قصة عجيبة مثل كل الشهداء، حيث أنه ما من شهيد يتخذه الله إلى جواره إلا وله قصة عادة ما تكون قصة عجيبة مثل قصة طارق أيوب الذى عرفته من خلال زياراتى لعمان خلال السنوات الماضية وقد كانت جلساتنا حينما نلتقى لاسيما في المساء في منزل الزميل محمد العجلونى مدير مكتب قناة الجزيرة تدور عادة حول شجاعة وإقدام ومغامرات طارق لا سيما مع جهاز أمن الدولة في الأردن الذى كان طارق ضيفا دائما عليه شأنه في ذلك شأن معظم الصحفيين الأحرار المستقلين الذين لا يعملون إلا لحساب الحقيقة، ففى المظاهرات التى كانت السلطات الأردنية تمنع تصويرها كان طارق يغامر ويصور ويهرب الأشرطة ويدخل في مغامرات ويختفي ويقبض عليه وحينما أغلق مكتب الجزيرة كان يتواصل مع الجزيرة بإمدادها بالأخبار عبر البريد الالكترونى وحينما أعيد افتتاح المكتب قبيل الحرب الأميركية على العراق، كلف بتغطية الأخبار من منطقة الرويشد على الحدود الأردنية العراقية، وكان يرسل تقاريره من هناك حتى أعلن محمد سعيد الصحاف وزير الاعلام العراقي أن الطائرات الأميركية قصفت باصا يضم عددا من الدروع البشرية في منطقة الرطبة على الطريق بين بغداد والرويشد، فكلف طارق من الجزيرة بالذهاب إلى منطقة الرطبة لتصوير الباص والمصابين الذين قيل أنهم في مستشفى الرطبة، وحينما ذهب إلى الرطبة لم يجد الباص ولم يجد المصابين وإنما وجد المخابرات العراقية التى صادرت منه الأجهزة التى كانت معه والكاميرا وطلبوا منه الذهاب إلى بغداد لاستخراج تصريح بالتصوير، وفشلت محاولاته في أقناع المسئولين بإعادة الكاميرا والأجهزة إليه على أن يعود إلى موقعه في الرويشد دون تصوير لكنهم رفضوا ولم يجد بدا من الذهاب إلى بغداد للحصول على تصريح من السلطات حتى يحصل على الأجهزة والكاميرا مرة أخرى، ودخل بغداد تحت القصف، وبعد مفاوضات شاقة مع العراقيين وتدخلات وتهديدات من إدارة الجزيرة منحوه رسالة لاعادة الكاميرا و الأجهزة إليه دون تصوير لكن أحداث بغداد أغرته وهو المحب العاشق للمغامرة الصحفية بأن يطلب من إدارة الجزيرة أن يبقى في بغداد لمشاركة الزملاء في تغطية أحداث الحرب، لكن السلطات العراقية طلبت منه المغادرة للحصول على ترخيص مزاولة من السفارة العراقية في عمان، عاد بالفعل إلى عمان يوم الأربعاء 2 إبريل فحصل على الترخيص وعلى بعض الحاجات الاساسية والأدوية التى كان زملاؤه بحاجة إليها يوم الخميس، وعاد إلى بغداد مع خطورة الطريق والقصف يوم الجمعة 4 ابريل لكنه لم يبق في المكتب مثل معظم الزملاء الذين كانوا يغطون الأخبار في مكتب الجزيرة حيث كانوا يكتفون بالتعليق على مايرد من أخبار دون احتكاك فعلى بالشارع والأحداث، لكن طارق نزل إلى الشارع من أول يوم وكان حيث يكون القصف ينقل آلام الناس وأوجاعهم ويكشف بالكاميرا والكلام حجم الجرائم والانتهاكات التى تعرض لها المدنيون في بغداد، فأضفى روحا جديدة في تغطية الجزيرة للأحداث وخلال ثلاثة أيام فقط أعد أربعة تقارير ميدانية حيث أعد تقريرين في يوم واحد وهو أمر غير عادى وكان هذا في اليوم الذى سبق استشهاده وذلك علاوة على مناوبته في التعليق المباشر وأذكر أنى كنت في نقاش مع المدير العام للجزيرة الأستاذ محمد جاسم العلى وبعض الزملاء مساء الأثنين الماضى أى ليلة استشهاده حول أداء الزملاء في مكتب بغداد وأشاد الجميع بأداء طارق وإضافته المميزة في التغطية الميدانية رغم أنه لم يذهب إلا قبل ثلاثة أيام فقط في الوقت الذى يلازم فيه معظم الزملاء المكتب إيثارا للسلامة واكتفاء بالتعليق المباشر، وفجر الثلاثاء كانت مناوبته في التعليق المباشر حيث كان آخر تعليق مباشر له في الساعة الخامسة وعشر دقائق صباح الثلاثاء 8 إبريل وبقى حتى طلع النهار فبدأ القصف فاحتمى بين أكياس الرمال ويشاء القدر أن يصوره المصور وهو يحتمى بأكياس الرمال وهي الصور التى ظهرت في الجزيرة وتناقلتها وكالات الأنباء العالمية بعد استشهاده، وكأنه كان يودع الدنيا بها ولتكون شاهدا على لحظاته الأخيرة في الحياة، وحينما اشتد القصف طلب منه الزملاء أن ينزل من على السطح هو والمصور، لكن كادر الكاميرا كان بحاجة إلى أن يضبط على مواقع القصف فقد طلب الزملاء في الدوحة من مكتب بغداد أن يضبط المصور الكاميرا على مواقع القصف وإلى حيث تقف الدبابات الأميركية على جسر الجمهورية، وعادة ما يقوم المصور بهذا الأمر دون حاجة للمراسل ولكن طارق أشفق على المصور أن يذهب وحده وسط هذا القصف المخيف فذهب أمامه يتقدمه، فيشاء قدر الله أن تطلق طائرة أميركية صاروخا على مكتب الجزيرة في هذه اللحظة حتى أن المصور قال لقد رأيت الصاروخ لكني لم أكد أكمل الجملة لطارق لأخبره بالصاروخ إلا وكان الصاروخ قد ضربنا فلا أدرى ماذا حدث. حينئذ هرع الزملاء الذين كانوا في المكتب يشاركهم الزملاء الذين هرعوا من مكتب قناة أبوظبى المجاور، فأخرجوا المصور أولا وقد وجدوه أصيب بجرح بسيط في رقبته، أما طارق فلم يجدوه إلا بعد بحث وقد أصيب رحمه الله بشظية في قلبه، فاتخذه الله شهيدا، ليكون ذلك شرفا لكل الصحفيين العرب والاعلام العربي الذى أصبح له تأثيره المباشر في الأعلام العالمي الآن، ليس فقط بالصورة ولكن أيضا بالدماء التى سطرها طارق أيوب في بغداد. ومادام الموت حقا على جميع البشر فإن ميتة في سبيل الحق والحقيقة في ساحة الشرف ونقل الحقيقة إلى الناس تكون ميتة شريفة وتكون بحق عرسا وليست جنازة كما أراد لها أهل الشهيد طارق أيوب. ـ كاتب واعلامي مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق