القرآن في الكعبة
بقلم الدكتور محمد عباس
مع تدهور الأحداث إلى قاع أظنها لم تبلغه قبل ذلك أبدا، لا أقول فقدتُ الرغبة في الكتابة، لأنني فقدتها منذ زمان طويل، و إنما أقول أن محاولاتي في قسر نفسي عليها لم تعد تؤتي أكلها كما كانت، كما أن حلاوة أخرى كانت تناديني، حلاوة خبرتي بها قليلة، وكنت أقارن بين المرارة التي أعيشها والحلاوة التي أفتقدها فأهتف في نفسي:
- لماذا لا تتوقف، إن كانت الكتابة جهادا فهو أمر قد أدليت بدلوك فيه، فكفاك، وادع الله أن يجعل ما مضى في ميزان حسناتك، وأن يتقبله منك، واذهب بعد ذلك ولازم الحرم ولا تتوقف عن قراءة القرآن مستعيدا تلك السويعات الرهيبة المهيبة المذهلة الرائعة المروعة التي قضيتها في الحرم في شتاء 2012.
قبلها كنت أقرأ القرآن بعقلي معظم الأحيان، وبقلبي أحيانا، لكنني في تلك السويعات التي لا أنسى حلاوتها أبدا رحت أقرأ القرآن بوجودي كله، والكعبة المشرفة أمامي، وكل شيء قد اختلف حتى شكل الحروف وصوتي، و أنا لا أكف عن القراءة مذهولا وثملا بنشوة لم أحسها قبل ذلك قط، وكنت إذ أقرأ مرعوبا من دخول وقت الصلاة لأنها ستقطعني عن قراءة القرآن وكأنني بالانقطاع عن التلاوة ولو بالصلاة سأنقطع عن الهواء الذي أتنفسه فإذا بدأت الصلاة أصبحت مرعوبا لأنها سرعان ما ستنتهي وكأنما بنهايتها سيتوقف تدفق الدماء في عروقي، أحسست ساعتها بقبس من الرحمة يشملني، قبس؟ بل طوفان، يغسلني، ويطهرني من درن الدنيا ونجاستها لأعود إلى براءة الخلق الأول وطهارته، وراح جزء من نفسي يخاطب جزءها الآخر في لوعة: يا أحمق يا مسكين، قضيت عمرك في الصحراء، شوتك الشمس، وجمدك صقيع الليل، وأدمت قدميك صخور كالحراب، و روعتك وحوش الفلاة، وغرقت فيما لم يكن لك به ضرورة لأن الطريق مقطوع مقطوع، بك أو بدونك، ذلك أن أمر الله نافذ و إن جلت على الأفهام حكمته، لكنك اخترت الطريق الوعر وغفلت أحمق يا مسكين عن طريق آخر كان بجوارك دائما، طريق يحفه الأمن والجلال والروعة والنشوة، طريق مرصوف بالجوهر مصفوف بالياقوت محوط بالملائكة، طريق القرآن، وتلك السويعات الفريدة التي أحاول منذ ذقت حلاوتها أن أستعيدها دون جدوى.
في تلك السويعات كنت أكاد أصرخ:
- هل أريد من الدنيا شيئا آخر؟، هل توجد في الدنيا سعادة أكثر من هذه؟
ثم ما ألبث حتى أستدرك:
- بل هل أطمع في الآخرة في نشوة أكثر من تلك.؟، يكفيني هذا، يكفيني ويزيد، تهبط على قلبي السكينة ويغرقني الحب، فالبشر جميعا ليسوا إخوة فقط، بل إن تلك الشمس بكل ما فيها من نار هي أختي في الخلق، وهذا القمر بكل ما فيه من ضياء هو أخي، خلقنا نفس الخالق البارئ المصور جلت قدرته وحكمته فهو البديع.
تذكرت أنه عندما تقدم العمر بسيدنا خالد بن الوليد أخذ المصحف وبكى .
وقال: أشغلنا عنك الجهاد .
يا سيدنا خالد، أشغلك عنه الجهاد فتبكي.
فماذا لو كنت مثلنا و أشغلتك عنه الدنيا.
....
كنت ساعتها جالسا أمام الكعبة لا يشغلني عن القرآن شيء، وجاءتني الإشارة والبشارة، كنت أجلس على حافة ممر، وجاء الجندي ليخلي الممر وجذب الكثيرين جدا ممن أمامي ومن خلفي كي يخلي الممر للمصلين، لكنه تركني، قلت لنفسي لعلى لم أتجاوز المسموح ولعله لم يرني، لكنه بعد حين تصنع أنه يسلم علي ليهمس في أذني:- لقد تركتك متعمدا.
وتهاطلت دموعي تسبح:
- لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لك الحمد.
وساعتها كنت أحس كما لو أن خواصا جديدة أضيفت إلى سمعي وبصري وقلبي وعقلي فأصبحت أسمع ما لم أكن أسمع و أرى ما لم أكن أر و أحس بما كان لا يمكنني الإحساس به فأفهم ما لم أكن أفهم، بل حتى صوتي قد تغير وأصبح لنبراته في ترتيل القرآن رنين لم أسمعه قبل ذلك أبدا.ولا سمعته بعد ذلك أبدا، كان الصوت طوفانا ملموسا ومحسوسا من النور ولم تكن الحنجرة مصدره بل من القلب كان يأتي، ولم أكن-ساعتها- أسمع بأذني وحدها.كان القلب أيضا هو الذي يسمع وكانت نياطه هي التي تهتز، من أجل ذلك كنت أسمع هدير صوت النجم الثاقب، هل تخيل أحدكم يوما، وهو الذي تعود أن يزعج مسامعه صوت طائرة تحلق، هل تصور كيف يكون صوت هدير دوران الأرض حول الشمس، بل صوت دوران الشمس نفسها، هل تخيل أحدكم أن يرى أبعد من فرسخ أو فرسخين، فكيف بمن يرى سرعة الضوء التي يتسع بها الكون ويتمدد، هل أطعنا القرآن هل تدبرنا هل أحسسنا هل عقلنا؟؟؟؟.
كنت جالسا أقرأ القرآن، أخشى أن يفرط القلم فيفرّط، فلم أكن أقرأ بقدر ما كنت أذوب، وكنت أتعبد بالنظر إلى الكعبة، وكان إخوتي من الناس يطوفون حولها تسبيحا وعبادة، فاض الحب فطغى، أصبح الإخوان إخوة و أصبح الإخوة أشقاء، وفي نفس الوقت، كانت النجوم أمة يطفن في السماء تسبيحا لله وعبادة، كن يسابقنني، وكان القمر أمة يدور طوافا وعبادة.
وكان اتجاه الدوران كله هو اتجاه الطواف حول الكعبة،
***
وكنت أبحر في بحر القرآن ذلك الإبحار الممتع الذي يجعلني لا أريد أن أعود إلى الشاطئ أبدا، تمنيت أن أظل كذلك حتى أموت، وطاف بخاطري أنه لو تحققت أمنيتي فإنني لن أحس بالموت، سوف يكون مجرد انتقال ما أبسطه وما أهونه، مجرد جلباب رثَّ واتسخ فآن أوان استبداله، أما من داخل الجلباب القارئ للقرآن فسيظل يقرأه لا يشعر حتى باستبدال ثوبه.هل كانت تلك السويعات هي اكتشاف سر اسم الله الأعظم الذي يذهب بعض العلماء إلى كونه حالة وجدانية يكون أي اسم من أسماء الله فيها هو اسمه الأعظم.؟.
ربما،
لكنني أعترف، أنني منذ ذلك اليوم أبدو أمام نفسي كمن أضاع أثمن شيء في حياته التي لا يبقيه عليها إلا الأمل في العثور ذات يوم على ما فقد.
أبدو أمام نفسي كشخص دخل الجنة ثم أخرج منها.
هل يوجد ثمن في الدنيا ينكص هذا الشخص عن دفعه حتى يعود إليها؟!.
تضاءلت الدنيا.
فهل تدرك أيها القارئ إذن مدى كارثتي وفجيعتي بقتل وأسر الدعاة الصادقين المصلحين خدم القرآن؟!.
وهل تدرك لماذا يشتعل قلبي بالنار كل يوم حينما يحدث لأتباع االأسرى والشهداء ما يحدث.
وهل تدرك لماذا يشتعل عندما يسيء عبدة الشيطان للمصحف أو للقرآن، كما حدث في قضية الوليمة أو في قضية المسرحية السافلة أو أفعال الوزير الشاذ.أو ذلك الناقد الملعون الذي يطالبنا أن نعامل القرآن كنص علينا أن نبرز محاسنه ونظهر نقصه وعيوبه- حاشا لله أن يكون به نقص.
أعود إلى تلك السويعات التي أدفع الباقي من عمري لاستعادتها.
بفعل هذه السويعات وبفضلها، أحس بالخسارة الفادحة التي ألمت بنا بفقدان أمة في رجال هم أعظم من جاهد بالدعوة والتفسير وإيقاظ وعي الأمة عبر قرون، فلا أكف عن لعن الطواغيت الذين أسروهم أو قتلوهم، لا أكف عن لعنهم لأنه ما يزالون يحتلون مناصبهم ومكانتهم حتى بعد أن ماتوا، وما يزالون يقتلون ويأسرون فيصيبونا بخسارة فادحة تزيد مع كل عين تبصر أي حرف كتبهم وتفسيرهم، خسارة تزيد على مر الأيام ولا تنقص.
في رواية العبقري ماركيز: خريف الجنرال ، فإن الجنرال رئيس الجمهورية يحكم البلاد بالعسف والبطش والجنون بلادة، حيث تكفي نوبة قولون لاعتلال مزاجه فيأمر بإعدام العشرات، هذا الجنرال يموت كل فترة، لكنه يصحو من جديد ويواصل الحكم، حتى تبلغ فترات حكمه 247 عاما!! أرأيتم عبقرية ماركيز. إن الصبي الأرعن المجنون هو الملك المؤسس، ظل يموت ثم يصحو ويعود ليحكم ولو باسم مختلف.
بفعل هذه السويعات وبفضلها أحس بالغضب الجامح، وبالعار، لما وصلت أمورنا إليه من مذلة وهوان، في كل مكان وفي كل صعيد، وأحس بالعار والغضب لتحول ولاة أمورنا من حكام أو أشباه حكام إلى نخاسين حولوا شعوبهم من سادة الدنيا إلى سبي ذليل ومهان من الجواري والعبيد والغلمان وراحوا يقدمون هذا السبي قربانا على مذبح اليهود والصليبيين، قربانا يتوسلون به إلى إلههم الشيطان كي يمد لهم في خدمتهم له.
بفعل هذه السويعات وبفضلها أشعر بالغضب الجامح عندما يؤسر واحد ممن يدافعون عن لا إله إلا الله.
***
وبفضل هذه السويعات أدركت القيمة الحقيقية للدعاة المجاهدين.
نعم، كنت بعد هذه السويعات كأعمى فُتح له بصيص من الضوء فهاله على ضآلة بصره سعة عالم لا يحد، وكنت كتلميذ محيت أميته للتو فأدرك قيمة أساتذته الفطاحل، كنت في جهلي و أميتي لا أعلم قيمتهم، تماما كما يجهل الجاهل قيمة العلامة محمود شاكر، وكما يجهل الأمي قيمة أحمد زويل، فكلما انفتحت له من العلم طاقة ازداد إدراكه وفهمه.
كانت هذه السويعات هي هذه الطاقة التي انفتحت في عالم الظلمات لأدلف منها إلى عالم كنت بعيدا عنه، عالم كله نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
غسلني النور فلم أعد بعدها أتعذب لعذابات الشهداء والأسرى بل رحت أحسدهم و أغبطهم، و أقول:
يا ليتني كنت مكانهم.
***
نعم.مكنتني تلك السويعات من فهم الدعاة المجاهدين الأسرى والشهداء.
فلقد كانت حياتهم الدعوية زمنا متصلا من هذه السويعات أو من مضاعفاتها اللوغاريتمية.
وتلك الومضة الهائلة الباهرة المبهرة التي غشيتني سويعات مرت كلحيظات كانت لبنات وجوده موكانت عالمهم كله،
أولى بي إذن أن أدرك كم كانت الحياة عليهم عبئا كئيبا وكم كان الاستشهاد خلاصا حبيبا.
كنت كمن عرف مبادئ الحساب وتعلم جدول الضرب فأصبح يعي – حتى و إن لم يستوعب أو يفهم- الرياضات المعقدة للليزر والصواريخ وعلم الكم.
جعلتني تلك اللحيظات أفهمهم بأن أضع نفسي مكانهم، ليكون مرجعي عنهم قلبي، فبه أقوِّي الرواية أو أعرض عنها.
ملحوظة حزينة: اضطررت لحذف بعض الأسماء فلا جدوى من مناطحة دببة مسعورة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق