قول في تجديد الخطاب الديني
أ. د. صابر جيدوري
أكاديمي وباحث
كثيرة هي المعارك التي تدور بين العلمانيين والإسلاميين حول ما بات يُعرف بتجديد الخطاب الديني، ليس آخرها ما دار بين شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة حول هذا الموضوع منذ وقت قريب، مع أن المشكلة الحقيقية ليست في تجديد الخطاب الديني من عدمه، ولكن في دعوة بعض العلمانيين إلى رفض الدين وعدم الاعتراف بدوره في المجتمع.
وما يزيد الأمر غرابة ودهشة أن من يرفضون الخطاب الديني الإسلامي، ويريدون تجديده لا يتجرأون على طرح تجديد الخطاب المسيحي أو اليهودي مثلا، وكأن مشكلتهم مع الإسلام فقط، مع أنه لا توجد أية مشكلة لدى أي مسلم يفهم القليل من الدين مع هذا التجديد إذا كان هذا التجديد هدفه تنقية أفهام الناس تجاه الأمور السلبية التي لا فائدة منها ولا نفع، بحيث لا يتجه التجديد إلى الدين كمنظومة من العقائد والأخلاق يؤمن بها الإنسان المسلم إيماناً مطلقاً.
مع التأكيد أن من الآليات الطبيعية للتجديد في كل الأمم والشعوب هي العودة بفهم جديد ومعاصر إلى الأصول والقيم الكبرى التي صنعت الحقب التاريخية، والتي أصبحت لاحقا مرجعية يعتد بها في كل أمر، لا أن نقوم بنسفها تحت عنوان براق يعكس معنى مزيفاً للتجديد، ولا أن نقوم بإسقاط قيم العصر على الأصول العقدية والفكرية، وإنما أن نفهم العصر والظروف الزمانية والمكانية باعتبارها مدخلاً أساسياً في فهم وإدراك آفاق الأصول العقدية والفكرية، كما أن ذلك لا يعني العمل على مطابقة القيم الإسلامية مع القيم المنتمية إلى المنظومة المعرفية الغربية، وإنما التجديد يعني العمل على إزالة رواسب التخلف والانحطاط من عقول الناس، بحيث نفهم قيم الدين ومبادئه كما فهمه الإنسان المسلم في الصدر الأول للإسلام، فهو تجديد في فهم الناس وليس في الدين نفسه بما يشكل من قاعدة تصورية وقيم كبرى ثابتة.
وهذا يُحتم علينا من أجل تنقية الفضاء المعرفي والفكري أن نفرق بين القيم الأساسية التي ندعو الناس إلى التمسك بها والتفاعل الإيجابي معها، وبين الأعراف والتقاليد والاجتهادات البشرية التي مهما رقت في مستواها فإننا من الخطأ بمكان أن نجعلها في مصاف تلك القيم والمبادئ.
لهذا فإن تنقية الساحة الفكرية من الزوائد والنتوءات هو الذي يساعد الإنسان على التفاعل الحي مع القيم الأصلية.
ويجعله قادر على التفريق بين الإسلام كمجموعة من القيم المطلقة والخالدة والقابلة للبقاء والديمومة، وبين الاجتهاد البشري المنسوب إلى الإسلام، الذي مهما علا شأنه العلمي والمعرفي يبقى اجتهاداً بشرياً نسبياً قابلاً للتطابق مع الإسلام كما هو قابل للمغايرة والاختلاف معه.
من هنا فإن المقدس في هذه الدائرة هو القيم الإسلامية المطلقة المتعالية على الزمان والمكان، ويبقى الاجتهاد البشري في إطار الاحترام والتقدير والاستفادة منه، ولكن كل هذه الأمور لا ترقى إلى مستوى التقديس المطلق أو التعامل معها كما لو أنها الإسلام المعياري.
ولذا فإن التجديد الديني المطلوب لا يعني خلق منظومة فكرية جديدة لا تمت بصلة إلى القيم الإسلامية الكبرى، وإنما يعني إزالة ركام التخلف والانحطاط من موقعين أساسيين: موقع الإنسان المسلم الذي تأثر بشكل أو بآخر في عصور التخلف، وموقع القيم التي شابها بعض الزوائد التي اعتبرت بعد فترة تاريخية بأنها جزء من القيم.
ومن ثم إذا كان هذا هو المقصود بتجديد الخطاب الديني فأهلاً ومرحباً به، أما إذا كان المقصود نسف عقائدنا وقيمنا وأخلاقنا، وجرنا إلى مستنقع اللامسؤولية واللامبالاة واللاقيم، فهذا ما يجب أن يرفضه كل إنسان يتمتع بذرة عقل، وعلينا أن نعرف جميعاً أننا لسنا ضد الخروج من العتمة والدخول إلى النور، بل ما جاء في القرآن الكريم يحثنا على ذلك في قوله تعالى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: آية: 1). ومن البديهي القول: إن الخروج من الظلمات إلى النور يُعدّ حاجة ضرورية لحياة الإنسان، ولا اعتقد أن إنسانا واحداً يأبى أن يخرج من الظلمات ويصير في النور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق