الخميس، 23 أبريل 2020

بيان «براءة» من العمق!

بيان «براءة» من العمق!

خواطر صعلوك


عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، لم يكن حلمي أن أصبح رائد أعمال أو سفير نوايا حسنة أو مهندساً أو دكتوراً أو محاضر تنمية وموارد بشرية... 
كنت أحلم أن أكون ضابطاً بثلاث نجوم، وأعمل في الميدان على طريقة شارلوك هولمز... أو مثقفاً كونياً مثل أولئك الذين يظهرون في التلفزيون، وأتكلّم على طريقة المُفكرين وهم يشبكون أطراف أصابعهم موجهين سهماً للمستمع!

فكما أن طريقة شارلوك هولمز لا يمكن التنبؤ بها، فطريقة هؤلاء السادة لا يمكن فهمها، فيصبح العامل المشترك بين الاثنين... الغموض والعمق.

كان حلمي الغموض والعمق... وكنت أتخيّل نفسي أمام جمهور، أعتلي المنصة والجمهور يستمع فاغراً فاهه... يردّد في نفسه «يا له من عميق»... ثم أنزلُ من المنصة فتتقدّم أجمل الجميلات وتطلب مني الزواج، فأتمنّع في البداية، معلّلاً ذلك بأني مخلص لأفكاري الفلسفية، أكثر من الحب، ثم أجد نفسي أحبها من دون أن أشعر، ونصبح معاً «العميق والعميقة» تحت سقف بيتٍ واحد... وفي الثامنة عشرة من عمري أصبح مثالي الأثير أيهما جاء أولاً... البيضة أم الدجاجة؟

ولكي تصل إلى الغموض والعمق عليك أن تستخدم عويص الكلام، وتضرب أمثلة على أساسات لم تضع قواعدها بعد.
وقد لاحظت ملاحظة دقيقة في بداية العشرينات من عمري، جعلتني أتبنّى خطاب الغموض وهوس العمق والكلام العويص، فقد لاحظت أن الفلاسفة مثل «كانط» وهيغل وابن عربي هم الأكثر انتشاراً بين الألسنة الثقافية... رغم أنهم الأقل قراءة والأصعب فهماً ولغة، فزادني هذا بسطة في أن الغموض هو الحل... الثقافة تحب الكلام العويص والعمق الشديد.
كل ذلك جعلني أنهمك في الكتب، بحثاً عن الأفكار العويصة والعمق العميق.

إحساس ما ينتابك وأن تقرأ الغموض الشديد في فلسفة كانط أو طريقة كتابة جاك دريدا أو طريقة شرح ابن عربي لأفكاره، وتشعر بالفرادة في اقتحام عالم عويص يشعرك بين كل حين وحين، بانفراجة في المعنى وتلمح منظراً رائعاً أو كشفاً عميقاً... ولكن سرعان ما تلتف أغصان الأشجار مرة أخرى من حوله وتحجب كل ما سواه، في النهاية تخرج بالفصاحة العميقة التي تمنع من تتبع أثر الحقيقة في كلامك.

عندما كبرت أكثر... وبدأ ريش الطاووس يظهر كجناح حمامة... وارتفعت أكثر، وتواضعت أكثر، وفي منتصف الثلاثينات من عمري، تعلّمت أن «الخنفشارية» عن «الشواشي» العليا للبرجوازية، و«الكومبرادورية» المتعاونة مع الاستعمار الكولونيلي... ليست سوى جمل تشبع غرور قائلها وليس فائدة سامعها، وأن تجنب الصخور التي على الشاطئ تلزم «الخنفشاري» بأن يبقى في عرض البحر ويطلق العموميات دائماً.

يخبرنا عباس محمود العقاد -رحمه الله- في كتابه الرائع «عبقرية محمد» بأن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قد جمع الفصاحة في الكلام، وفي هيئة النطق بالكلام وفي موضوع الكلام، وكل من كان يسمعه يفهمه، وقد أخبرتنا السيدة عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- ما كان يسرد الكلام كسرد الثرثارين، ولكن كان يتكلّم بكلام بيِّن فصل، يحفظه ويفهمه مَن جلس إليه.
فاللهُمّ صلِ وسلم على مَن أوتي جوامعَ الكلم والفصاحة والبلاغة... إمامُنا في المعنى وفي القلم.
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر.

قصة قصيرة:
- أيّهما أولاً... البيضة أم الدجاجة؟
- يعتمد... فإذا كان موعد الفطور الصباحي فالبيضة أولاً... وإذا كان موعد الغداء، فالدجاجة أولاً.
@moh1alatwan

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق