سرطنة الوطن
ما يجري في مصر الآن أشبه بعملية تفخيخ لوطن كامل، بزرع ألغامٍ في كل ركن فيه، لدفعه إلى الانفجار، وصولًا إلى حريقٍ هائل لا يبقي ولا يذر.
وكأنهم ضربوا موعدًا للانتحار، فبدأت عملية حقن البلد بجرعاتٍ منتظمةٍ من مواد مسرطنة، كي يتآكل ذاتيًا ويتقطع رأسيًا وأفقيًا، باستدعاء كل أصوات التحريض على الانقسام والاحتراب، دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا، على نحوٍ يذكّر بمقدّمات الحريق المندلع في يونيو/ حزيران 2013 ولم يعرف الانطفاء حتى الآن، أو كلما لاحت فرصة لإطفائه أو حتى تهذيبه والسيطرة عليه في إطار محدّد، استدعوا من يصبّ مزيدًا من الوقود، ويلقي إليه بمزيد من الحطب الجاف.
كان كل شيء يبدو عاديًا هذا العام مع أعياد المسيحيين، أو هكذا تخيلنا أن المجتمع سئم تلك اللعبة السخيفة حد الملل، والتي تشتبك فيها مجموعات الفضاء، أو الفراغ الإلكتروني، حول تهنئة الجار والزميل والصديق المسيحي بعيده، وهو الطقس الرديء الذي يمرّ في مواسم معروفة، ثم ينحسر.
ولكن أصواتًا محسوبة على طبقة رجال الدين تأبى إلا أن تنفخ في رماد الفتنة، فيخرج واحد من "مشايخ المهرجانات" المنتشرين كمطربي المهرجانات بتصريحاتِ ليست فقط مبتذلة، لكنها أيضًا خبيثة، بتصريح يهاجم فيه من يسميهم متشدّدين، ويقول "الأقباط لم يخرج منهم متطرّف أو إرهابي".
في جانب من التصريح، لا بأس من انتقاد المتشدّدين والمتطرّفين الذين يمنعون تهنئة الجار للجار والصديق للصديق، أما في الجانب الآخر، والأخطر، فإن استدعاء منطق المقارنة، أو المقابلة، بين أشرار متشدّدين "مسلمين" برأي الشيخ المهرجاني، وأخيار ومعتدلين أقباط، فهذا هو التحريض على الفتنة بعينه، واللعب، بوعي خبيث أو جهل أخبث، بأعواد الثقاب المشتعلة في مجتمع محتقن أشد الاحتقان منذ أكثر من سبع سنوات، بفعل فاعل يجد في هذه الحالة من الكراهية العقائدية المصنوعة ما يعظّم سلطته الباطشة على الجميع.
وليس بعيدًا من ذلك المجون في الفتوى والرأي ما يقوم به وزير الأوقاف المصري من استفزاز يومي لمشاعر المتدينين الذين حرمهم كورونا من دور العبادة، وحال بينهم وبين المساجد مع دخول شهر رمضان المعظم، إذ يتقمّص الوزير المسؤول عن وزارة من المفترض أنها للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، شخصية وزير داخلية دموي أو مدير للأمن العام لا يعرف سوى لغة البطش، فتتطاير منه القرارات والتصريحات وكأنها مقذوفات نارية أو عبوات حارقة.
هذا الخطاب الفاشي يولد شعورًا متناميًا بأن الوزير "الفتوة" يتعمّد إهانة مشاعر التواقين للمساجد، والسخرية من طقوس دينية ولد الناس وتربوا عليها، ولم يحدث على مدار حياتهم أن وجدوا أنفسهم ممنوعين من ارتياد دور العبادة، أو الالتقاء للتعبد في منازلهم.
أخطر من ذلك أن تدخل نائبة مسيحية على الخط، وتُقحم نفسها طرفًا في جدل يدور بين من يقترحون فتح المساجد للأئمة فقط لإقامة الشعائر ونقلها عبر البث للجمهور في البيوت، ومن يعارضون ذلك، وخصوصًا في لحظة احتدام العواطف الدينية مع اقتراب شهر رمضان، والناس عاجزون عن استقباله والاحتفاء به.
بالتوازي مع ذلك، يتم صبّ كميات إضافية من الوقود على الحريق السياسي الاجتماعي تحت شعار "حرب المعيز والخرفان" في إهانة بالغة للشعب المصري كله، الذي هو، لمن لا يريد أن يفهم، أساس أي تغيير، إلى الأفضل أو الأسوأ، مستقبلًا، ومن ثم لا يصحّ التعامل معه بهذا الاختزال الفاضح: الخرفان معارضون والماعز مؤيدون، ذلك أن المحصلة هنا هي زيادة المستنقع الحضاري والإنساني اتساعًا وعمقًا، والنفخ في نار الاحتراب المجتمعي والسياسي إلى ما لا نهاية، مع ما يصاحب ذلك من نزيفٍ أخلاقيٍّ وقيمي، يجعل طرفي المعركة العبثية يتردون إلى قاع يصبح فيه استعمال الأسلحة القذرة والفاسدة شيئًا اعتياديًا، يجد من يبرر له ويلفق له الأعذار.
الشاهد هنا أن مصر، سلطةً ومعارضة، باتت بلا مشروع سياسي، جيد أو رديء، وكأن الجميع أصابهم مسٌّ من العبث، جعلهم يستسلمون لقوى شرّيرة تقسم المصريين، من ناحية، إلى خرفان وماعز. ومن الناحية الأخرى، تنفخ في نيران فتنة طائفية، تستدعيها بإلحاح، عبر مشايخ ووعاظ، يتشبثون بفاشيتهم وعنصريتهم أكثر من تمسّكهم بعقيدتهم، وكما قلت قبل سنوات، لولا وجود أمثال علي جمعة، مفتياً عسكرياً محرّضاً على القتل، وتواضروس، واعظاً وناصحاً بالفاشية والعنصرية، ومثلهما كثيرون من مشايخ السلطان وكهنته، في الدين والسياسة والاجتماع والاقتصاد لما كانت مصر محشورةً في هذا النفق السياسي والحضاري المعتم، ولما كان كتاب الفواجع والمآسي الإنسانية يتضخّم كل يوم، ويتسع لحكايات جديدة.
أيضًا ومن باب التذكير، وكما قلت على هامش حريق تسريبات فاضحة اندلع بين ابن حسني مبارك وأحد الإعلاميين قبل عدة أشهر، فإن الأكثر فداحةً هو التفاعل الواسع مع المعركة البذيئة المشتعلة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي اخترقت حاجز الأخلاق والأعراف والتقاليد، والقوانين أيضًا، لتصل إلى مرحلةٍ من فحش تصنيع الوثائق المشينة وترويجها.
أما الأفدح من ذلك كله فهو أن يهبط فريق محسوب على الثورة ومقاومة الانقلاب إلى هذا المستنقع، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ويدعم قضية الثورة والمعارضة، وهو يستعمل السلاح ذاته الذي يُشهره الخصم، وكأنه يقدّم اعترافًا مجانيًا بقواعد الحرب وقوانينها، كما يصيغها ويفرضها النظام، ويقر بشرعية استخدام أسلحتها غير المحترمة.
وللمرّة الألف: نقاء الغاية يستدعي نظافة الوسيلة، ولا يمكن لقضيةٍ محترمةٍ أن تنتصر بأسلحة غير نظيفة، حتى لو كان الخصوم موغلين في استخدام أحطّ الوسائل، وأقذر الأسلحة وأفتكها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق