الخميس، 22 أبريل 2021

صور من حوار الرسول لليهود

 صور من حوار الرسول لليهود




 أ. د. عبدالحليم عويس

لقد حاوَرَ الرسول عليه السلام اليهودَ، كما حاوَر غيرهم، واستمع إليهم وسمح لهم بأن ينشروا ما عندهم من معرفة، بل أذن لصحابته بأن ينقُلوا أحاديثهم التي تطابق أصل ديانتهم، ولا تُعارِض ما جاء به الإسلام، وهكذا احتوت كتب الصحاح والسنن حوارًا متنوعًا؛ طرفاه الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض المسلمين من جهة، وأحبار اليهود أو عامتهم من جهة أخرى.

 

والمتتبع لهذا الحوار يلاحظ أنه ينقسم إلى الأنواع الآتية:

أ - الحوار الجدلي: ويبرز في القضايا المتعلِّقة بالعقيدة والتي أثارها اليهود.

 

ب - الحوار التشريعي: وتظهر فيه القضايا التي كانت أصلًا لحكم تشريعي.

 

ج- الحوار الاجتماعي: وهو الذي يهتم ببعض العلاقات الاجتماعية التي كانت قائمة بين المسلمين واليهود[1].

 

د - الحوار المصيري: وهو الحوار السياسي.

 

وفي الصفحات التالية نقدِّم بعض النماذج لحوارات الرسول والمسلمين مع اليهود في المجالات الجدلية (الفكرية) والتشريعية، والاجتماعية، وهي المجالات الألصق بموضوعنا.

♦♦♦♦♦

 

عن عبدالله بن مسعود قال: (بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في طرف المدينة وهو يتوكَّأُ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سَلُوهُ عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه؛ لا يجيء بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لَنَسألَنَّه؛ فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم، ما الروح؟ فسكت، فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت، فلما انجلى عنه قال: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85])[2].

 

وقد أجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾، قالوا له: "من جاءك بهذا؟"، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((جاءني به جبريل من عند الله))، فقالوا: "والله ما قاله إلا عدوٌّ لنا".

 

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدَثا جميعًا.

 

فقال لهم: ((ما تجدون في كتابكم؟))، قالوا: إن أحبارنا أحدَثوا تحميم الوجه والتَّجْبِيهَ.

 

قال عبدالله بن سلَام: ادعُهم يا رسول الله بالتوراة، فأُتي بها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها.

 

فقال ابن سلَام: ارفع يدك، فإذا بآية الرجم تحت يده.

 

فأمَرَ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِما" [3].

♦♦♦♦♦

 

عن أنس رضي الله عنه قال: "بلَغَ عبدَالله بن سلَام مَقْدَمُ النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فأتاه فقال: إني سائلُك عن ثلاث لا يَعلَمُهُنَّ إلا نبيٌّ؛ قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء يَنزِعُ الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخبَرَني بهذا آنفًا جبريلُ))، قال: قال عبدالله: ذاك عدوُّ اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما أول أشراط الساعة: فنارٌ تحشُرُ الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كَبِدِ الحوت، وأما الشَّبَهُ في الولد: فإن الرجل إذا غَشِيَ المرأة فسبَقَها ماؤه كان الشَّبَهُ له، وإذا سبق ماؤها كان الشبهُ لها))، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قومٌ بُهُتٌ، إنْ عَلِموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُوني عندك، فجاءت اليهود ودخل عبدالله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي رجل فيكم عبدُالله بن سلام؟))، قالوا: أعلَمُنا وابن أعلَمِنا، وأخيَرُنا وابن أخيَرِنا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفرأيتم إن أسْلَمَ عبدُالله؟))، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله؛ فقالوا: شرُّنا وابن شرِّنا، ووقَعوا فيه"[4].

♦♦♦♦♦

 

حدث في (المدينة) أن سطا رجلٌ معروف بالإسلام (يدعى طُعْمةَ بنَ أُبَيْرِقٍ) على أهل بيت من المسلمين، وسرق منهم درعًا ثم خبَّأها عند يهودي.

 

وبحَثَ أصحاب الدرع عنها فوجدوها في بيت اليهودي، فاتهَموه بأنه سارقها، وذكر اليهودي أنه أخذها من (طعمة) وديعةً، وأنه بريء من أية ريبة تتجه إليه! وكانت القرائن تتضافر على اتهام اليهودي؛ فالدرع عنده، ثم هو يهودي! و(طعمة) يحلف أنه ما أخذ الدرع، ولا استودعها أحدًا.

 

وقد ذهب قومُه إلى الرسول يطلبون منه أن ينصُرَ رجُلَهم؛ لأنه مسلم ظاهر البراءة وخصمه يهودي.

 

والقضية أمام الرسول غامضة؛ فهو لم يؤتَ معرفة الغيب ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ [الأنعام: 50][5]، ولم تنكشف له طبائعُ النفوس وخفاياها البعيدة؛ فهي مما استأثر الله بعلمِه، وقد جاء قوم (طعمة) يجادلون عن صاحبهم، ويطلبون من الرسول أن يخاصِم دونه، وأن يأخذ اليهوديَّ بالعقاب، وأن يدع القضية تمرُّ بظواهرها الغريبة دون مزيد من البحث والاستقصاء.

 

فإذا بالوحي ينزل كاشفًا الغطاءَ عن الحقيقة المخبَّأة، مبرِّئًا ساحة اليهودي المحرج، دامغًا خَصْمَه بأنه خائن أثيم، وإنْ تَظاهَرَ بالإسلام، مؤنِّبًا قومَه؛ لدفاعهم عنه وسعيهم لدى الرسول كي يدافع عنه ضد اليهودي.

 

وبدأت الآيات الكريمة بخطاب الرسول: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105].

 

فالقرآن مَظهَرُ الحق وجوهره، والحكم به لإقرار الحق بين الناس قاطبة، والناس أمام الحقِّ سواسية، يهودًا كانوا أو نصارى أو مسلمين.

 

فإذا خان رجل يَدَّعي الإسلام، فلن يكون أهلًا لتأييد الرسول له، ولو كان ضد يهودي أو نصراني أو مجوسي.

 

ومن ثم يقول الله له: ﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ (أي مناصرًا) ﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: 105 - 107].

 

ثم يتوجه كتاب الله (القرآن) باللوم والتقريع إلى قوم السارق، الذين حَسِبوا الإسلامَ عصبيَّة عمياءَ، والذين توهَّموا أنه ما دام في القضية يهوديٌّ فعليه أن يَحمِل الوِزْرَ، ولو كان مظلومًا؛ فيقول الله لهؤلاء المسلمين الظالمين: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 108، 109].

 

ثم يتجه الوحي إلى السارق بالنصيحة؛ كي يرجع عن غيه، ويتوب من ضلاله: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].

 

ويحذِّره ويحذِّر غيره من المسلمين ألا يرَمْوُا بالتهم جزافًا.

 

فإن إسناد الجرائم إلى الأبرياء إثمٌ كبير، مهما كانت أجناسهم ودياناتهم؛ فإن السيئة تقع على رأس مرتكبها وحده.

 

﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 111، 112].

 

ويعود الوحي الكريم مرة أخرى ينبِّهُ الرسول إلى التيقظ لألاعيب الخصوم وكيد المتقاضين؛ فإنهم قد يَلبِسُونَ الحقَّ بالباطل، وفي سبيل النجاة بأنفسهم وإهلاك أعدائهم يُضلِّلون القضاء، ويُحيِّرون القضاء: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113][6].

 

أرأيت إلى هذه النُّذُرِ المتتابعة، والنصائح الحكيمة؟

أرأيت إلى هذه التعاليم الواضحة، والخطوط المستقيمة؟

 

أرأيت إلى آيات القرآن العزيز وأسلوبها في خطاب الرسول ومن حوله، وإنصافها للأبرياء أيًّا كانوا؟

 

لمَ هذا كلُّه؟ لإنقاذ يهوديٍّ كادت القرائن تُدِينُه، وإدانةِ رجل يُعرَف بالإسلام بين قوم يتعصَّبون له بوصفهم أنهم جميعًا مسلمون!!


[1] الدكتور محسن بن محمد بن عبد الناظر: حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود، ص15، الطبعة الثانية، 1412هـ - 1992م، دار الدعوة، الكويت.

[2] أخرجه البخاري في كتاب العلم، 47، قول الله تعالى: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].

[3] رواه البخاري.

[4] رواه البخاري.

[5] انظر الشيخ/ محمد الغزالي: الجانب العاطفي من الإسلام.

[6] انظر الشيخ محمد الغزالي: المرجع السابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق