لما غاب أنس بن النضر رضي الله عنه عن أول قتال لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، اغتمّ لذلك، فأشهد الله على نفسه قائلا: “لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قِتَالًا لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ”، فلما كان يوم أحد ولاحت الهزيمة أمام المشركين، مشى بسيفه تجاه العدو وهو يقول لسعد بن معاذ: ” وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَجِدُ الْجَنَّةَ دُونَ أُحُدٍ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ” فقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، ووُجد في جسده بضعٌ وثمانون من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، ولم تعرفه سوى أخته ببنانه.
قالها أنس فصدق: “لئن أشهدني الله قتالا ليرين الله ما أصنع”، فماذا عنك يا من مر عليه رمضان أعوامًا عديدة، وفي كل مرة ينقضي وينفض سوقه ولم تحقق ربحًا، ثم تعزي نفسك بأمنية سنوية: “لئن أشهدني الله رمضان آخر ليرين الله ما أصنع”.
ها أنت في الأمنية يا عبد الله، اختصك الله من بين كثير من الناس لتشهد رمضان آخر، يتيح لك تحقيق أمنيتك، ويمنحك فرصة جديدة للوفاء بعهدك مع الله عز وجل، ها أنت قد تخطاك الموت وحصد غيرك من أولئك الذين كانت لهم نفس الأمنية، لكنهم لم يدركوها.
ألم تسأل نفسك لم تعيد الكرة بعد الكرة وتخرج من رمضان خاوي اليدين ثم تطلق الأمنيات بشهود رمضان آخر؟ ذلك لأنك لم تعرف بعد ما الذي يعنيه أن يمد الله في عمرك حتى تشهد هذا الشهر، بل هذه الهبة، هذه المنحة الربانية.
أمعن النظر في هذا الحديث، وجُل ببصرك ذهابا في كلماته وإيابا، لتدرك هذا المعنى، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: «مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ، وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ».
الله أكبر، بخٍ بخٍ، دورة رمضانية واحدة يرتقي بها رجل مات في فراشه، على آخر قد مات وبارقة السيوف على رأسه في ميدان الجهاد، فأي فضل بعد هذا الفضل، وأي مكرمة بعد هذه المكرمة؟!
ها قد جاء حبيب المشتاقين على فاقة، وحطّ رحاله في دنيانا في منحة ربانية جديدة، ونفحة من نفحات ربنا تبارك وتعالى دعانا لأن نتعرض لها، فأين المشتاقون، أين المحبون، أين أهل (وبالأسحار هم يستغفرون)، أين الصوامون القوامون، أين أهل الجود والكرم والبر والإحسان، ها قد جاء شهركم، فأخرجوا ذخائركم، فقد حمي الوطيس، وآن وقت الجد لا الهزل:
أتى رمضان مزرعة الــــــــعباد لتطهير القلوب من الـفسـاد
فأد حقوقه قولًا وفعــــــــــلًا وزادك فاتخذه لـلمعــــــاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تـأوه نـادمًا يوم الحصــــــــاد
يا عبد الله قد صُفِّدت الشياطين في أغلالها، وكفاك الرحمن عناء مجاهدتها، ولم يبق إلا نفسك التي بين جنبيك، روِّضها، وقوِّمها، وأقِمْها على الجادّة، اجعلها تحلق وتلامس السحائب الرمضانية، وتتعرض لغيث الرحمات، بترك المنكرات، والإقبال على طاعة مولاها ومولاك، فربما يكون رمضان الأخير، فلا تعول على الأمنيات، واقتحم واقع الأيام بكل قوتك مستعينا بخالقك، فإني أنذرك “سوف” كما أنذر الأولون.
يا عبد الله لا تقنع بخواء بطنك وظمأ حلْقك ثم تقول “قد صمت”، فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، فالصوم مع الإمساك عن المفطرات إنما هو صيام الجوارح عما يغضب الرحمن، فكن عبدًا ربانيا، لا تسمع إلا ما يرضي الله، ولا تنظر إلا إلى ما أحل الله، ولا تتكلم إلا في مرضاة الله، ولا تبطش إلا لله، ولا تخط خطوة إلا لنيل رضا الله.
يا عبد الله تذكر أن أقصى وأعظم أمنياتك في الحياة أن يعتقك الله من نار جهنم وتدخل الجنة بسلام، وها هو شهر العتق من النيران، فله سبحانه في كل ليلة عتقاء من النار كما قال سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم : (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)، فلتُرِ الله منك ما يصطفيك به ويجعلك من المعتوقين.
يا عبد الله فلتعلم أن سلامة القلب وطهارته ميزان عظيم عن رب العالمين، فصاحب هذا القلب هو الذي ينتفع ويربح يوم لا ينفع مال ولا بنون، وإن من أعظم ما يحبه الله في قلب عبده أن تغمره الرحمة بالخلق، فالراحمون يرحمهم الرحمن، فلا تبخل على نفسك أو تحبسها في سجن الإمساك، وتلك وصية الحبيب صلى الله وسلم لصاحبه: “أَنْفِقْ بِلَالُ وَلَا تَخْشَ من ذِي الْعَرْش إقلالا”، وهو فداه أبي وأمي والناس جميعا كان أجود ما يكون الناس في رمضان، كريح مرسلة بالخير إلى العالمين.
يا عبد الله، اجعل غاية الصيام نصب عينيك، فغايته ليست تجويعك وإظماءك، الغاية بيّنها ربنا جلّ في علاه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
فتقوى الله إذن هي المبتغى والمراد، تقوى الله تحصل بالصيام والذي هو رياضة للنفس على ترك الشهوات، فالله تعالى قد ركب الشهوات في طبع الإنسان، ويصعب عليه أن يتخلى جسده عما فطره الله عليه، ومن ثم كان الصيام ارتقاء بالإنسان عن وضعه الطبيعي الذي لا ينفك عنه، إلى مرتبة أعلى يتشبه فيها بالملائكة الكرام.
وتحصل التقوى بالصيام من خلال المراقبة، لأن الصيام سر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد، فما أيسر أن يتناول الصائم طعامه وشرابه بعيدًا عن أعين الناس ثم يتظاهر أمام الناس بأنه صائم، ولكن ما يمنعه علمه بأن الله عليه رقيب.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وتحصل التقوى بالصيام عندما يجوع المسلم ويظمأ، فيشعر بالفقير الذي يكون جوعه وعطشه عن غير صيام، فيرق قلب الصائم، كما قال أحمد شوقي: “حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع وخضوع، ظاهره المشقة، وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، حتى إذا جاع من تعود الشبع، وحرم المترف ألوان المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع”.
يا عبد الله، أقبل على مولاك بالطاعة، وخلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها، ولا تجعل من هذا الشهر موسم التخمة والشراهة في المباحات، وتضييع الأوقات أمام أجندة فنية لا تترك لك الفرصة لأداء ركعتين أو تلاوة شيء من القرآن، رطِّب لسانك بذكر الرحمن، وألح على الله بالدعاء بخيري الدنيا والآخرة، تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق