الخميس، 22 أبريل 2021

ثلاثية الثورة والغاز والدم

 ثلاثية الثورة والغاز والدم


وائل قنديل

لا تصدّق سياسيًا يقول لك إن الشعب يريد هذا، أو تعب من ذاك، ولا تثق كثيرًا فيمن يتحدّث بيقين عن مواعيد الثورة، ومواقيت الخمود، ولا تأخذ كلام المنجّمين والمتنبئين بمواسم الغضب والكسل على محمل الجد.

الشاهد أن لا أحد يملك مفاتيح شخصية الشعوب، ولا أحد بإمكانه أن يتقمّص دور خبير الأرصاد ليتوقع هطول المطر، أو شيوع الجفاف والقحط، فذلك كله إن صدق، نسبيًا، في الظواهر الطبيعية، فإنه لا يكون كذلك مع الظاهرة الإنسانية. وبناءً عليه، تبقى انتفاضات الشعوب مثل حقول الغاز، يتم اكتشافها فجأة، في أماكن غير متوقعة، إذ لحظة الاكتشاف تفرض معادلاتٍ مختلفة، وتبعثر كل الأوراق، وتفتح الباب للصفقات والتفاهمات والموازنات، مع فارق جوهري، إنه مع اندلاع الثورات يكثر الكلام عن المبادئ والقيم، بينما يسود حديث المصالح والمكاسب والأرباح عندما تعطس البحار بالغاز.

في مسألة التوقع والتنبؤ يأتي تفجر ينابيع الربيع العربي في أواخر 2010 درسًا وردًا بليغًا على محترفي التوّقع، وتحضر هنا واحدة من طرائف الإعلام في زمن حسني مبارك، حين صدرت صحيفة الأهرام العريقة في منتصف العام 2008 بمانشيت ضخم يقول: "مبارك أكثر زعيم يثق به شعبه بين شعوب العالم".

دعك من الرطانة في الصياغة والبلادة في العنونة، وانظر في العناوين الفرعية المصاحبة للنبأ الأهرامي العظيم، المنشور بتاريخ 18 يونيو/ حزيران  2008، والتي تعلن أنه وفقًا لاستطلاع للرأي في أكبر 20 دولة: "مبارك أكثر زعيم يثق به شعبه بين شعوب العالم... و94% من المصريين يؤكّدون قدرة رئيسهم على إدارة الشؤون الدولية .. وبوش أقل الرؤساء حصولاً على الثقة حتى بين الأمريكيين أنفسهم... ونجاد ومشرف هما الأسوأ... والمصريون يقدرون الرئيس الصيني".

وضعت الصحف المصرية الحكومية وشبه الحكومية، كلها، هذا النبأ الخطير نقلًا عن مؤسسة لم يسمع عنها أحد من قبل "وورلد أوبينيون أورجانيزيشن الأمريكية" وأظن أنه لم يسمع بها من بعد، الأمر الذي يعبّر عن الحالة العقلية للنظام في تلك الأيام، والتي كانت تدفعه لممارسة هذا النوع من الألعاب النارية للتغطية على الغضب المتنامي في صمت.

ولست في حاجة إلى تذكيرك بأنه بعد أقل من عام ونصف العام من هذا الاستطلاع اللطيف الذي يتحدّث باسم الشعب ويجزم بيقين أن 94% منه يثقون بالزعيم وقدراته الإدارية الجبارة، كان الشعب في الشوارع منفجرًا بالغضب ومشتعلًا بإرادة التغيير، ولم يعد إلى بيته إلا بعد أن خلع الرئيس المحبوب (بنسبة 94%) وأنزله من عرشه.

من لطائف الاستطلاعات والتنبؤات في ذلك الوقت أيضًا، أن نشرت عديد الصحف في العام 2009 استطلاعًا آخر منسوبًا لمؤسسة أميركية، تحمل اسمًا أكثر فخامة، يقول إن أكثر من ثلثي المصريين (69%) يرون أن الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية تؤمن بالديمقراطية كأفضل نظام سياسي، بينما عارض ذلك 25% منهم.

ومعلوم، بالطبع، أن ما جرى في الأعوام القليلة التالية لهذه التقديرات التي ملأت الساحة في حينها، أطاح كل هذه الأرقام والنسب والنتائج، وأظهر حقائق أخرى، وفاجأ الجميع بسرعته وتدفقه في الاتجاهات العكسية.

هذا يعني، ببساطة، أنه في هذه الأوقات الرخوة، وعلى أرضية معادلات ومواقف سياسية رخوة، لا يمكن لأحد أن يدّعي القدرة على قراءة قطعية لمآلات التفاعلات السياسية الهادرة التي تدور هذه الأيام، فوق آبار الغاز المكتشف أخيرا، شرق المتوسط.

وبشكل أكثر تحديدًا، لا يمكن لأحد أن يتجاهل أن ثمة تحولًا هائلًا وقع في العلاقات الرسمية المصرية التركية، بدأت إرهاصاته الأولى مع تصاعد نذر المواجهة العسكرية بين الطرفين على الأراضي الليبية، قبل شهور قليلة، حيث بلغ التصعيد الكلامي منتهاه، فيما كانت الاتصالات السّرية تدور على الأرض، لنصل إلى النقطة التي صار فيها لازمًا إسكات كل من يشوّش على حفل المصالحة، أو عرس المصلحة، وبالطبع لا أحد عاقلًا يمكن أن يطلب من أي طرفين، حتى لو كانا خصمين متناقضين، ألا يبحثا عن المصلحة، ويسعيا إلى المصالحة.

على أن ذلك كله، بصرف النظر عن مآلاته ونتائجه القريبة والبعيدة، لن يكون العنصر الحاسم في مسألة ثورة أو لا ثورة، ذلك أن الثورة لا ترهن نفسها لتفاهمات رسمية، ولا تذعن لمنطق الصفقات، ولا تستجيب لتوجيهات المتعبين اليائسين، ولا تنتظر من أحد أن يبلغها بأنها ماتت، أو لا تزال على قيد الحياة، كما لا يمكنها أن تسمي نفسها ثورة لو صارت نقطة الدم عندها تساوي قطرة الماء أو الغاز المسال.

للمرة الألف، الأحلام المستحقة لا تموت، ومهما تعاظمت القدرة المادية لدى أهل الطغيان، فإن للحق وللعدل قوة أخلاقية وروحية، تجعل الثورات أعلى وأبقى، لأن الثورة ليست حرفة، أو مهنة، أو رفاهية، بل هي قبل كل شيء وكل أحد، هي استجابة فطرية للحق والخير والجمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق