أحفاد حامي الظعائن وأحفاد الغراب الأول
أحمد عمر
استوقفني صديقي نوري، وقال عاتبًا: صدّعت رأسي بقصة الفارس العربي الجاهلي مسبِّع الصنايع. قلت مصوِّبا: حامي الظعائن. وهو فارسٌ عربي من قبيلة كنانة، وصاحب اللطيم وهو اسم فرسه. اشتهر بلقب حامي الظعائن حيًا وميتًا، وضربت به العرب المثل في الشجاعة والنجدة، فقالوا: أشجع من ربيعة بن مكدم، وأحمى من مجير الظعن. وكان يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحدٍ في الجاهلية غيره، يعني مثل محمد رمضان "نمبر ون" أعزَّكم الله.
قيل إنَّ الرجل من بني فراس يعدل عشرة من غيرهم. وكان جدُّ ربيعة جذل الطعان الكناني علقمة بن فراس من أشهر فرسان العرب، وكان ذا شعر وفخر. وقال علي بن أبي طالب لجيشه من أهل الكوفة في وقعة صفين، كناية عن شجاعة بني فراس وبلائهم وثباتهم الشديد في الحروب: "وددت والله أنَّ لي بجميعكم وأنتم مائة ألف، ثلاثمائة من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم. يعني أنتم فكّة وفراطة".
قال نوري: نعم هو. انظر إلى هذه الحسناء الألمانية تلمُّ النفايات. وكانت تجمعها بعصا في طرفها ملقط، فلم لا نقتدي بمسبِّع الصنايع ونلهف إلى إغاثتها.
تقدّمنا إليها على استحياء، فوجدنا أنَّها أجمل مما ظنّنا، وجمالها من النوع الذي يجعل المرء يقوم بأحد أمرين، إذا ما رآها: أن يتنهد ويقبّل الهواء وجدا أو أن يبكي كأنه فقد وطنا.
وقلنا هل تسمحين لنا بمساعدتك في قطف هذه الأوساخ الرائعة والنفايات النظيفة من هذا المرج الجميل. فتبادرنا إلى كيسين من العربة التي كانت معها، وكشطنا المرج كشطا. جمعنا حتى أعقاب السجائر بأيدينا من غير عصا لاقطة، وشظايا زجاج مشروبات المنكر والبغي التي يكسرها الشاربون بعد السكر، فدُميت أصابعي، وسالت على البطاح، فقلت لإصبعي: ما أنت إلا إصبعٌ دميت في سبيل الله ما لقيت. وبعد ساعتين، عاد المرج نظيفًا، وجمعنا لها الثمار والقطف، ففرحت فرحة قاطف زيتون أو رمان وليمون، وسألتنا: من أنتما، أيها الكريمان، وكنا نفضِّل أن نبقى جندا مجهولين مثل "صاحب النقب" الذي عجز مسلمة بن عبد الملك عن معرفته، ولكنكِ ما دمتِ مصرّة فنحن سوريّان.
وأخبرتها أني أحمل معي كيسا أجمع فيه النفايات، وأنا أقوم برياضي اليومية على طرف النهر، وأنَّ إماطة الأذى عن الطريق في شرعتنا من الإيمان وجزاءها الجنة. فتعجبتْ أشدَّ العجب، وحمدتُ الله أنها لم تسألني عن نظافة بلدي، وسألتْ: هل السوريون كلهم مثلكما؟
قلنا لها: كل السوريين أحسن منا، ونحن أضعفهم عزما وأقلهم شهامةً وإغاثةً للملهوفات، صرف الدينار بالدرهم واليورو بالليرة السورية. وأخرجت لها هاتفي برهانا، وقلت: اتصلي بنا كلما هبت النسائم، وناحت على الأيك الحمائم، ونضج التين وكثرت الزبالة، ونأتيك "طِوالَ الرِماحِ لا ضِعافٌ وَلا عُزلُ".
وأخبرتها أني قدمتُ عريضة شكوى إلى البلدية، أشكو إليها انتشار النفايات في أيام العطل، لأنَّ حاويات النفايات معدنية وصغيرة، واقترحت على البلدية تكبير الحاويات، وجعلها من الغطاء المعدني ذاته، وشرحت لها أنَّ الغربان تنثرها وتنبشها، فأعجبت بالشكوى، وكبرت في عينها، وقلت: الغراب علّم جدنا دفن الموتى، ولمّا كثرت قتلانا، واحترفنا القتل جعلت أحفاد الغراب الدافن تنثر النفايات احتجاجا، وقالت: حوّل لي الرسالة، وقالت إنها ستشتكي إلى البلدية برسالتي وعريضتي، وستنتظر.
وغادرنا، أنا وصديقي نوري، وقلبانا مثخنان بالحبِّ من فعل الخيرات وعمل الصالحات. وأفشينا فضيلتنا بين الأصدقاء والجالية، نحضّهم على فعل الخيرات الزاكيّة، ودعوتهم إلى تشكيل عصابةٍ سوريّةٍ لجمع النفايات، حتى يطير ذكرنا في الآفاق، ونتصدّر الأخبار والأوراق، وتعجبّنا من حسناء شابةٍ تجمع النفايات، فقال لنا صديق مجلوٌ عن الوطن كأنه استعمار، وحاصلٌ على الجنسية، سبقنا إلى ألمانيا بسنواتٍ هاربا من الظلم والجور، وعنده علمٌ من الكتاب: غالبا هي مرتكبة جنحة وهذا جزاؤها.
وأثنى صديقنا على قانون العقوبات الألماني، ومدح رفقه بالجانحين والمجرمين، فقلت: لا. لقد عدوت طورك وجانبت الصواب. لا مجرمون في الدنيا يُكرَّمون مثل رؤساء العرب المعاصرين. انظر إليهم كيف يولّي العرب المجرمين المناصب، ويفرشون لهم السجّاد الأحمر، ويخرجون هاتفين بأسمائهم في المسيرات الشعبية، حتى إنَّك إذا ما رأيت أحدهم على التلفزيون، قمت بأحد أمرين: إمّا بصقت على التلفزيون، أو بكيت عند حائط الهواء كأنك فقدت وطنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق