مصر الحائرة بين النهر والقصر
صورة تعود إلى 1920 لمشهد غروب الشمس على النيل في القاهرة (Getty)
خليل العناني
تنقبض صدور المصريين مع كلّ مرّة يتم الإعلان فيها عن "فشل" مفاوضات سد النهضة بين إثيوبيا والسودان ومصر، وعدم التوصل إلى اتفاق حول ملء السد وتشغيله. وقد جرت آخر جولات التفاوض، التي فشلت ولم تفضِ إلى شيء في كينشاسا، عاصمة الكونغو الديمقراطية التي يترأس رئيسها فيليكس تشيسيكيدي الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، الذي يرعى المفاوضات بين البلدان الثلاثة. وتبادلت هذه البلدان اللوم بشأن فشل المفاوضات، علناً وعبر بيانات مكتوبة. مصر والسودان لامتا إثيوبيا على عدم الجدّية في التفاوض وعدم القبول بمقترحاتهما، خصوصاً تشكيل رباعية دولية، تضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، للتوسط بين الدول الثلاث، وتوكل إليها ملفات الخلاف، خصوصاً صياغة اتفاق نهائي لقواعد الملء والتشغيل، والاتفاق على آلية واضحة لفضّ المنازعات التي قد تنشأ مستقبلاً بشأن تشغيل السدّ وملئه. بينما اتهمت إثيوبيا السودان ومصر بعرقلة المفاوضات، وترفض ما تسميه "تدويل القضية" عبر مجلس الأمن.
لا يتصور المصريون، ولا يمكن لعقلهم الجمعي استيعاب أنّ نهر النيل الذي شكّل هويتهم وملامحهم، وصاغ تاريخ بلدهم، منذ أكثر من عشرة آلاف عام، قد يتوقف عن الجريان، أو تنحسر مياهه أو تجفّ، ليس بفعل عوامل طبيعية أو جيولوجية، إنّما بقرار سياسي من إحدى دول المنبع. ولا يتعلق الأمر هنا بالمياه فحسب، بكلّ ما تعنيه من كلّ مقومات الحياة للبشر والحيوان والزرع والطير، ولكلّ ما هو حيّ، إنّما أيضاً بتاريخ طويل من العلاقة العضوية الممتدة والمعقدة ما بين النهر والإنسان، وما تركته من آثار تاريخية وسياسية عميقة على العلاقة بين الحكومة والشعب، فنهر النيل، كما يرى العبقري جمال حمدان، في موسوعته "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" هو بمثابة العمود الفقري في "معمور ضئيل للغاية، داخل معمور بلا نهاية...". كما لا يمكن ضبط النهر من دون "ضبط الناس" فمن دون ضابط للنهر، يتحوّل النيل، بحسب حمدان، إلى "فيضان حطام جارف"، ومن دون ضابط للناس تتحوّل عملية توزيع المياه إلى "عملية دموية يسيطر عليها قانون الغاب". إذاً، اقترن جريان النيل وتنظيمه بسلطة الضبط والتحكّم التي تمارسها الدولة، أو بالأحرى حاكمها.
لا يتصور المصريون، ولا يمكن لعقلهم الجمعي، استيعاب أنّ نهر النيل الذي صاغ تاريخ بلدهم، منذ أكثر من عشرة آلاف عام، قد يتوقف عن الجريان، أو تنحسر مياهه أو تجفّ
وعليه، ارتبطت شرعية أيّ حاكم في مصر، بمعنى من المعاني، بقدرته على "ضبط مياه النهر" وضمان سريانها ووصولها وتوزيعها على الشعب. وهي مسألةٌ ليست جديدة، إنّما قديمة قدم مصر ونيلها نفسه. كأنّ نهر النيل هو الذي صاغ طبيعة العقد الاجتماعي الذي يربط بين الدولة والشعب، والذي يقايض التسليم للسلطة/ الحاكم مقابل توزيعه مياه النهر/ الحياة. سار هذا الأمر منذ الفراعنة وما زال مفعوله سارياً. وهو العقد الذي ساهم في نشوء الظاهرة الفرعونية، سياسة وحكماً، على نحو ما سمّاها وشرحها حمدان في عمله الموسوعي.
لذا، قصة نهر النيل هي قصة العلاقة بين النهر والقصر، نهر الحياة والمعنى، وقصر الحكم والسلطة. وكثيراً ما انصاع المصريون للقصر، وقبلوا بجبروته وقهره، وذلك من أجل حماية النهر. أما الآن، فيبدو أنّ القصر عاجز عن حماية النهر. ولا يبدو أنّ من يسكن القصر قادرٌ على حماية تدفق مياه النهر وضمانه وسريانه، كما كانت عليه الحال قروناً طويلة. ولو أنّه أدرك أنّ شرعيته معلّقة، في جزء مهّم منها، على مسألة النهر، لما سمح لأحد بالتجرّؤ على شريان حياة المصريين، ولما وقّع على اتفاقٍ أعطى بموجبه سكّيناً للخارج، كي يضعه على رقاب شعبه ويتحكّم في مصيره قروناً مقبلة.
ارتبطت شرعية أيّ حاكم في مصر، بمعنى من المعاني، بقدرته على "ضبط مياه النهر
الأنكى أنّ من يقطن "القصر" الآن يمارس كلّ أنواع القمع والقهر ضدّ شعبه، في حين يبدو أكثر نعومةً وليونةً وضعفاً في مواجهة المخاطر التي تتهدد "النهر". وهو أمر ليس جديداً، فقد التقط ذلك جمال حمدان، قبل سبعة عقود، حين لخّص العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مصر في هذه الفقرة البليغة لغة ومضموناً: "وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليدياً، ومن البداية إلى النهاية، شعباً غير محارب في الخارج، كانت مجتمعاً مدنياً يحكمه العسكريون كأمر عادي في الداخل. وبالتالي، كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم. وفي ظلّ هذا الوضع الشاذ المقلوب، كثيراً ما كان الحكم الغاصب يحلّ مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحلّ السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحلّ العسكري، أي أنّه كان يمارس الحلّ السياسي مع الأعداء والغزاة في الخارج، والحلّ العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان عامة استسلامية أمام الغزاة، بوليسية على الشعب".
لذا، نقف - نحن المصريين - على مفترق طرق، في ما يخصّ مصيرنا ومصير أجيال أخرى مقبلة، في ما يخص العلاقة الشائكة ما بين "النهر" و"القصر"، وبأيّهما يجب أن نُضّحي إذا لزم الأمر!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق