كامب ديفيد النيل: الشرب مقابل السلام
وائل قنديل
كل ما يجري أمامك، هذه الأيام، في موضوع مياه النيل، يقول إننا بصدد حالة "كامب ديفيد" جديدة بعد أكثر من أربعين عامًا على كامب ديفيد أنور السادات، والتي كانت انقلابًا عنيفًا على كل مقتضيات التاريخ والجغرافيا أيضًا.
هذا التصاعد المدروس في دراما معركة الملء الثاني لسد النهضة، وما يصاحبها من تلويح بالحرب العسكرية، حتى تكاد تحسّ أزيز المقاتلات يخرق أذنيك، مع انطلاق أسراب الطائرات من مرابضها على صفحات السوشيال ميديا .. ثم التحليق بالدراما على ارتفاعاتٍ منخفضة للغاية، وانتعاش الحديث عن المصالح المشتركة والتعايش بين دول الحوض واحترام الحصص المخصصة لمصر من المياه .. كل هذه الدراما تبدو مصنوعةً ومكتوبةً مسبقًا، ومتفقًا عليها بين جميع أطراف اللعبة.
شيء من ذلك كان في كامب ديفيد أنور السادات، حين كانت دراما معركة المفاوضات تبدو مشتعلةً بالأحداث، بينما السيناريو كان قد وضع، والأدوار كلها كانت قد وزّعت، قبل أن يخطو السادات خطوته الأولى، متجهًا إلى كنيست الكيان الصهيوني، تحت الرقابة والرعاية الأميركيتين.
التوقيع على "كامب ديفيد"، المعلن منها والخفي، كان يعني أن كل شيء قد انتهى وكل الأمور قد حسمت، ولم يبق سوى الشكل الدرامي الذي يخطف الجماهير، ويبهرها ويشعرها بأن ثمّة معركة حقيقية حامية الوطيس قادها وخاضها ذلك الشخص الأسطوري الذي سيتم منحه لقب "بطل الحرب والسلام" فيما بعد، ثم جائزة نوبل للسلام لاحقًا، بما يوحي بأن معركة موائد ما يسمى السلام لم تكن أقلّ ضراوة من المعارك العسكرية على جبهة القتال.
قياسًا على ذلك، من السذاجة أن يتصوّر أحد أن عبد الفتاح السيسي، وهو يوقع إعلان المبادئ الخاص بتقاسم مياه النيل مع إثيوبيا والسودان، لم يكن يعلم مآلات ما بعد التوقيع، أو أنه لم يكن مدركًا أنه بذلك التوقيع منح أديس أبابا تفويضًا بالإدارة والتحكّم في مياه النهر.
وعلى ذلك، ظني الذي أتمنّى أن يخيب، أن لا حرب ستقع، ولا سلام سيحل، وستبقى مصر رهينة إعلان المبادئ، كما بقيت رهينة كامب ديفيد على مدار ما يزيد عن أربعة عقود مضت. سيبقى كل شيء حبيس غرف المفاوضات التي لن تأتي بنتائج حقيقية، لسبب منطقي للغاية، أن المفاوضات هنا ليست مقدّمة ضرورية للوصول إلى النتائج، لأن النتائج قد حسمت بالفعل وسلمت لأصحابها، ربما على ضوء مفاوضاتٍ أخرى سرية في الغرف المغلقة، قبل أن يبدأ هذا العرض المثير الذي تعيشه بكل جوارحك الآن.
لقد سالت أمتار مكعبة كثيرة من الحبر في الكتابة عن تلك السيناريوهات الشريرة عن أن المشهد الأخير سيكون عبور النيل إلى الكيان الصهيوني، استجابةً لمشاريع صهيونية قديمة ترجع إلى ما قبل إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، ومن ذلك ما تناوله نقيب نقباء الصحافيين المصريين الراحل، كامل زهيري، في كتابه "النيل في خطر"، حيث يعود بالحكاية إلى العام 1903، حيث مشروع اتفاقية توطين اليهود في سيناء مدة 99 عاما. ويورد نص تقرير البعثة الصهيونية التي زارت سيناء أيام الاحتلال البريطاني، واقترحت تحويل مياه النيل تحت قناة السويس، وحقيقة الاتصالات السرية بين المليونير الصهيوني روتشيلد وجوزيف تشمبرلين وتيودور هرتزل وبين اللورد كرومر وبطرس باشا غالي.
وعلى ذكر بطرس باشا غالي الجد، تساءل الحفيد بطرس غالي وزير الشؤون الخارجية زمن السادات، في كتابه "بين النيل والقدس": إذا كان لابد من الاختيار بين العالم العربى وأفريقيا، فماذا سيكون خيارنا؟ باختصار، ما هو الأهم بالنسبة لمصر: النيل رمز المستقبل أم القدس، رمز التاريخ؟ ما هو الأهم: الجغرافيا أم التاريخ؟
بقراءة فصول الكتاب، تدرك أن غالي، وزير السادات في كامب ديفيد وما بعدها، كان يرى أن الجغرافيا أهم من التاريخ، وأن اهتمام مصر ينبغي أن يكون بالنيل، لا بالقدس، وها هي مصر الرسمية بعد أكثر من أربعين عاما من ذلك المنطق قد استقالت من التاريخ (القدس وفلسطين) من دون أن تفوز بالجغرافيا (النيل وأفريقيا)، بل وصل بؤس الحال بنا إلى أن حصتنا من مياه النيل باتت مرهونةً بالإرادة الإسرائيلية، ليس لعمق الارتباط المصلحي بين تل أبيب وأديس أبابا فقط، وإنما لأن الشخص المتحكّم في القرار المصري هو نفسه تجسيد للمصالح والأحلام الإسرائيلية.
الشاهد أن ما جرى على القدس والقضية الفلسطينية في مفاوضات العبث مع إسرائيل التي بدأت مع أنور السادات، سوف يجري على موضوع مياه النيل في مفاوضات الوقت الضائع مع إثيوبيا التي انطلقت مع عبد الفتاح السيسي.
توقيع السادات سلم القدس والعرب، بمن فيهم عرب الرفض لإسرائيل، مقابل الحصول على سيناء منزوعة السيادة الكاملة، مزروعة بالإرهاب، يدخلها الطيران الإسرائيلي والسائح الإسرائيلي كيفما ووقتما يشاء. وتوقيع السيسي الحالم بالسادات، والسائر على خطاه، منح مفتاح النيل لإثيوبيا، وصار منتهى حلمه أن تتعطّف علينا الأخيرة بعدم الضرر وزيادة الحصة.
ويبقى من التاريخ أن السادات الذي انتهى دوره وانتهت حياته بعد أن سلم مفاتيح كل شيء إلى أصحاب كامب ديفيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق