حديث نادر بين أنور الجندي ود. محمد محمد حسين
العلاَّمة الكبير الراحل الدكتور محمد محمد حسين والمفكِّر الإسلامي الراحل أنور الجندي عَلَمان من أعلام الثقافة الإسلامية الأصيلة، ورمزان من رموز تيار التأصيل الثقافي والفكري الذي سعى إلى صياغة مشروع عربي إسلامي يحفظ للأمة ثقافتها وهويتها.
وفي رجب 1403هـ= أبريل 1983م، نشرت مجلة (الأمة) القطرية حديثًا نادرًا هو الأخير للراحل الدكتور محمد محمد حسين؛ أدلى به إلى المفكر الكبير الراحل أنور الجندي عليهما رحمة الله.
"الحوار الأخير مع الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله"
أجرى الحوار- أنور الجندي:
الدكتور محمد محمد حسين رئيس قسم الأدب واللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأستاذ الأدب العربي في جامعة الإسكندرية منذ 1933م، وهو يجاهد في سبيل مفهومٍ إسلامي أصيل للأدب العربي، وقد عمل سنوات طويلة في كلية الآداب بجامعة بيروت العربية، وأصدر عددًا من المؤلفات؛ في مقدمتها كتابه الأشهر الذي أدَّى خدماتٍ واسعةً ينقل وجهة النظر الإسلامية إلى شباب الجامعات، والاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر في جزأين من الثورة العرابية إلى قيام الجامعة العربية (1882- 1946م) وله مؤلفات متعددة؛ منها: كتابه (حصوننا مهددة من داخلها)، وقد توفي إلى رحمة الله في 1 ربيع الآخر 1403هـ، وقد أجرينا معه الحديث أثناء زيارته القاهرة على أمل أن يُتمَّه في زيارة أخرى، غير أن قضاء الله نفذ قبل أن يُتم الحوار.
قلت للدكتور محمد محمد حسين رحمه الله في آخر لقاءٍ معه:
* اليوم وبعد أن مضى عليك في الميدان نصف قرن 1933- 1982م، وأنت تجالد في وجه التغريب والشعوبية والغزو الثقافي إزاء السموم الناقعات التي طرحها الدكتور طه حسين وغيره في طريق الأدب العربي.. ما هو تقييمك لهذه المرحلة؟ وهل استطاعت أن تحقق شيئًا؟
** ابتسم الدكتور محمد محمد حسين الذي فتح آفاقًا في مجال تصحيح المفاهيم وتحرير الأدب العربي والثقافة الإسلامية ابتسامةً ذات معنى؛ فقد عرفته منذ عشرين عامًا، وأنا على طريق مواجهة التغريب والغزو الثقافي، وانتفعت كثيرًا برصيده الضخم في هذا المجال.
والدكتور محمد محمد حسين واحد من أبناء المدرسة الإسلامية الملتزمة التي نشأت في أحضان حركة اليقظة الإسلامية، والتي حملت لواء (أسلمة) الأدب والثقافة في كلية الآداب على مدى خمسين عامًا وتحريرها من الزيف والسموم التي صبغها بها الدكتور طه حسين وشيعته، أمثال: علي عبد الرازق، وأمين الخولي، وإبراهيم مصطفى، وهو رائد الأصالة في مجال الأدب؛ شأنه شأن علي سامي النشار في مجال الفلسفة، وعبد القادر عودة في مجال الشريعة والقانون، ومحمود أبو السعود وعيسى عبده في مجال الاقتصاد.
كل هؤلاء ردوا إلى الإسلام اعتباره بعد أن طواه التغريب زمنًا في الدراسات الجامعية؛ فلهم أجرهم عند ربهم.
قال: لعلك تعرف من أحاديث بيننا مستفيضة ماضية فلم يدع مجالاً من المجالات إلا وضع قيوده وحواجزه حتى يحتويَ الفكر الإسلامي في دائرة معلقة، فلا يستطيع تحقيق ذاتيته أو التماس مصدره القرآني الأصيل، وهي محاصرة شملت عدة ميادين؛ أهمها وأخطرها ميدان الشريعة الإسلامية.
أولاً: تطوير الشريعة الإسلامية
* قلت: فلنبدأ بهذا الخطر الذي يتصل باحتواء الشريعة الإسلامية.
** قال: هذا المجال بذلت فيه القوى الاستعمارية وذات النفوذ في البلاد العربية بعد الحرب العالمية الثانية جهودًا كبيرةً من أجل احتواء الشريعة الإسلامية تحت اسم التطوير؛ بحيث تصبح أداةً لتبرير القيم الغربية وتقريب ما بين الشعوب الإسلامية والغرب؛ فهي الغاية الأخيرة والهدف المقصود الذي يسعى إليه، ومن أساليبهم في هذا التطوير أن يستدرجوا المسلمين إلى مؤتمراتٍ للكلام في نقاطٍ معينةٍ من نظم الشريعة التي تخالف ما أسفر عنه عُرف الغربيين مما يجري باسم المدنية؛ وذلك لكي يُلجِئوهم إلى تحريفِ نصوص القرآن والحديث والميل إلى ما يوافق العادات الغربية السائدة.
وأكثر ما تجد هذا التحريف في المرأة وما يتصل بشئونها، مثل ما يدَّعي بعضهم من أن الإسلام قد أسَّس للمرأة حقوقًا في الحكم أو الكلام عن الحجاب والنقاب وتعدد الزوجات والزنا.
وقد يُطلَب من أحدهم أن يتحدث عن هذه الموضوعات فيشغل نفسه بتبرير الأساليب العصرية السائدة مما يخالف الشرعية الإسلامية، فينتحل لها الأعذار ويخترع الحيل لتحليلها ومحاولة الميل إلى أقصى ما تحمله النصوص نحو القيم الغربية إرضاءً للداعين إليه، وبذلك يقع في الأحبولة التي دبَّرها له ولأمثاله دهاقنة المستشرقين.
فهو في سبيل دفع تهم الجمود التي يلصقها الغربيون بالشريعة ينجرف إلى أقصى الطرف المناقض في بيانٍ ما تنطوي عليه الشريعة من مرونة التطبيق حتى يبلغ بهذه المرونة حد الميوعة وانعدام الذات والمقومات التي تجعلها لأن تكون ذيلاً لأي نظامٍ وتبعًا للأهواء، وبذلك ينتهي إلى إلغاء وظيفة الدين؛ لأنه بدلاً من تقويم عوج الحياة بنصوص الشريعة يحتال على نصوص الشريعة حتى يبرر عوج الحياة المعاصرة.
وتُجرَى دراسات المستشرقين ومؤتمراتهم نحو هذه الغاية الخطيرة، وهي تهدف إلى محاصرة (الدين) لتضييق دائرة نفوذه وقصرها على شئون العبادات وإلغاء المعاملات التي يقوم عليها تنظيم المجتمع.
كذلك فإنَّ من محاذير أعمالهم مع بعض من يؤيدهم من علماء المسلمين فكرة إعادة النظر في الدين وتطويره، ومنهم مَن يطالب بوضع تجربة الدين وتجربة النبوة والمعجزات والصلاة والحياة الآخرة موضع البحث وإخضاعها لقوانين علم النفس الحديث التي تقوم على الحدس، والذي تخضع للتغيير والتبديل.
ثانيًا: تبعية التعليم للغرب
* وماذا عن الخطر الذي يأتي من جانب تبعية التعليم في البلاد الغربية للمناهج الأجنبية؟
** قال الدكتور محمد محمد حسين: إن حصوننا مهددة من داخلها.. إن وزارات التربية والتعليم هي أهم المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها؛ لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمة من كنوز، وهي الثروة البشرية بما ينطوي عليه من قوى مادية ومن ملكات تُشرف على تربيتها، وهي ثروة تتضاءل إلى جانبها كل كنوز الأرض؛ لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئًا بدونها؛ فالعقل هو الذي يستخرجها، والخلق الديني هو الذي يدفع الناس إلى بذل الجهد وإلى إعمال هذا العقل فيما وُكل إليه من أمور، ولا ريب أن اتصال القائمين على شئون التربية والتعليم في هذه البلاد العربية بالمؤسسات الغربية للتعاون معها في ترويج مبادئ وأساليب يُقال إن المقصودَ بها هو رفع مستوى التعليم وإصلاح شئون الجيل الجديد؛ أمر لا يصدقه عقل ولا يتفق مع ما يبذلون من محاولات ظاهرة وخفية لابتلاع هذه الأمة والكيد لها.
إن التقدمَ الصناعي لا يُغني شيئًا إن غفلنا عما حفظه التاريخ من دروس وعظات فتفرَّقت بنا السبل ودبَّ فينا دبيب الخلاف ومزَّقتنا الدعوات المتنافرة التي ينقض بعضها بعضًا، والدين واللغة هما أهم دواعي الألفة والتماسك في كل مجتمعٍ إسلامي، والدين هو الذي يوحِّد العادات والأمزجة، فتجمُّع الناس فيما يحبون وفيما يكرهون وفيما يألفون وفيما يعادون على ألوان معينة من الأساليب البيانية؛ لذلك كانت المعاهد والمؤسسات التي تقوم على صيانة الدين واللغة هي بمثابة الحصون والمعاقل التي تسهر على حمايتنا وسلامتنا.
وتحاول بعض الدول الغربية أن تجمع رجال التربية في مؤتمرات لاحتوائهم وتوجيههم وجهتها هي.
والمركز الدولي للتربية الأساسية في العالم الغربي لا عملَ له إلا سلخ الريف العربي من دينه وخلقه وعروبته، وطبعه بالطابع الغربي؛ إتمامًا لما بذله الغرب من جهود في "فَرْنَجِة" هذه المنطقة بعد أن أعلن المستشرقون أن تأثير "الفَرْنَجَة" أو التغريب لم يتجاوز المدن، وهو احتيال خبيث لدخول الريف بعد أن عجز التنصير وعجزت الأساليب الاستعمارية عن اقتحامه إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وها هو يقتحم اليوم تحت ستار ما يُسمَّى بالتربية الأساسية.
وهي بهذا تهدف إلى تغيير الأفكار والنزعات والاتجاهات على أسسٍ غربيةٍ خالصةٍ تُروَِّج باسم العلم؛ هذا التغيير لا يبالي أن يخالف الإسلام وتعاليمه؛ لأن القائمين على هذا التغيير هم مجموعة من الخواجات الذين يختفون خلف الشخوص العربية التي تبدو للناظر وكأنها نتحرك بإرادتها وهي تسير وراء خطوط مرسومة.
وتهدف هذه المؤسسات إلى إفساد المرأة الريفية و"فَرْنَجِتها" واستئصال حيائها وخلط الذكور بالإناث وإخراج المرأة إلى الأسواق وامتهانها بين الرجال؛ مما يُعرِّض المجتمع كله للانحلال والاندثار، والهدف الخفي هو استفادة معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها تخدم الذين يرسمون الخطط السياسية والحربية لهذه المنطقة.
وكذلك يرمي اشتراك البنين والبنات في الرحلات، وهو ما تدعو إليه الماسونية يتحول إلى أنظمة عميلة.
إننا إذا احتجنا إلى الاستفادة من خبرة الغرب وتفوُّقه في الصناعات الآلية التي كانت سببًا في مجده وسيادته، فمن المؤكد أننا في غير حاجةٍ إلى استيراد قواعد السلوك والتربية والأخلاق التي تدل الأمارات والبوادر على أنها ستؤدي إلى تدمير حضارته والقضاء عليها قضاءً تامًا في القريب العاجل.
ثالثًا: بعث التاريخ القديم
* قلت: وماذا ترى في دعوة التغريب والشعوبية والغزو الثقافي إلى إحياء الحضارات السابقة على الإسلام؟
** قال الدكتور محمد محمد حسين: هذا خيطٌ من الخيوط الأساسية التي تكون الشرك الذي يراد به احتواء المسلمين مجتمعهم وفكرهم؛ فإن المستشارين الغربيين اليوم في البلاد العربية يدعون إلى العناية بالتاريخ القديم وإلى أن يبذل علماء الآثار الغربيون جهدًا مشتركًا لتدريب علماء الآثار المسلمين، وهو هدف يرمي إلى تلوين الحياة المحلية في كل بلد من بلاد دار الإسلام بلون خاص يستند في مقومات إلى أصوله الجاهلية الأولى.
وبذلك تعود الحياة الاجتماعية التي وجد الإسلام مظاهرها إلى الفرقة والتشعب برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام فيستريح المستغلون من احتمال تكتل المسلمين.
علينا أن نكشف خصائص هذه الدعوة ونبيِّن خطورة أهدافها التي لا تخدم إلا مطامع الغرب التي يتوسَّل إليها في البلاد العربية، وفي العالم الإسلامي بتقطيع أوصالها وبث روح التنافر والتدابر والتقاطع بين أفرادها وجماعاتها استدامة للوضع الراهن الذليل الذي كانت فيه وتحاشيًا لاتحادها الذي يؤدي إلى قوتها، وقد ظهرت الدعوة إلى إحياء الحضارات السابقة على الإسلام في وقتٍ واحدٍ في تركيا والشام ومصر والعراق وشمال أفريقيا والهند وإندونيسيا بمظهر واحد وأساليب متشابهة.
ومن ذلك استخدام الفلكلور لهذا الغرض أيضًا والبحث عن كل ما يتصل بعادات الشعوب وتقاليدها وخرافاتها وأساطيرها ومعتقداتها وفنونها وكل ما يجري على ألسنتها من أغانٍ وأمثال أو شتائم وأهازيج، وتهدف من وراء ذلك إلى التعمق في تحليل نفوس أصحابها وإدراك دوافعها ونوازعها وفَهْم ما ينتظم عواطفها من منطق بغية الوصول إلى أمثل الطرق وأحذق الخطط للتمكن من هذه الأمم واستغلالها وإدامة عبوديتها.
رابعًا: تدمير المجتمع الإسلامي
* قلت: وماذا عن التحديات التي تواجه المجتمع الإسلامي نتيجةً لمخططات التغريب؟
** قال الدكتور محمد محمد حسين: إن هناك هدفًا مبيتًا هو فَرْنَجة المرأة الشرقية وحملها على أساليب الغرب في شتى شئونها في الزواج والطلاق وفي المشاركة في العمل والإنتاج، وفي شتى الميادين وفي الزي والمحافل.
هذا الاتجاه هو بدوره جزء من اتجاه أكبر يراد به سلخنا من أدب إسلامنا وتشريعه وإلحاقنا بالغرب في التشريع والأدب والموسيقى والرسم وسائر شئون الحياة من جدٍّ ولهوٍ، وأبرز جوانبه ناحيتان: اختلاط النساء بالرجال، واشتغال النساء بأعمال الرجال.
وأحب أن أنبِّه على أن هذه الخيوط كلها تجري في اتجاه واحد هو خطة الصهيونية الكبرى للسيطرة على العالم من طريق هدم كل ما فيه من قوى، ومن قولهم في البروتوكولات إن لفظة الحرب تجعل المجتمع في صراعه مع جميع القوى، بل مع قوة الطبيعة وقوة الله نفسها.
وقولهم: نحن الذين هيَّأنا لنجاح دارون وماركس ونيتشه، إن ما ينادي به على الله حقوق المرأة لا يهدف إلا إلى مخالفة عرف راسخ وتحطيم قاعدة مقررة وإقامة عرف جديد في الدين والأخلاق والذوق وخلق المبررات والمقومات التي تجعل انسلاخنا عن إسلامنا وعروبتنا وشرقيتنا أمرًا واقعًا، كما يجعل دخولنا في دين الغرب ومذاهب وفسق الغرب أمرًا واقعًا كذلك، وأخطر ما في هذه الدعوة وأمثالها مما يراد به حملنا على كل فاسد من مذاهب الغرب أن أصحابها يهدفون إقحامها على إسلامنا، زاعمين أنها لا تعارضه.
وقد كان قاسم أمين هو أول من جرَّأ الناس على تحريف النصوص حين طلع علينا بطائفة من المزاعم التي تقول على المخارق، وعلى النصوص المحرفة عن مواضعها والمخلوعة عن سياقها خلعًا يخرجها عن مدلولها، وحين تصيَّد من كتب التاريخ ورواياته على اختلاف درجاتها ودرجات مؤلفيها كل شاذ غريب، فحشدها في حيِّزٍ واحدٍ وضمَّ بعض أشتاتها إلى بعض حتى خُيِّل إلى قارئها على أنها على شذوذها وقلتها شيء مألوف كثير الوقوع.
إن كثيرًا من النصوص التاريخية والفقهية التي اقتطعها ناقصة الدلالة غامضة العبارة وقد استطاع أن يروِّج؛ ذلك كله بين الناس بمرور الأيام بفضل قوة حزبه الذي كان ينوه به اللورد كرومر في تقريره، وهو الحزب الذي علَّق كرومر عليه الآمال في رعاية المصالح الإنجليزية عن طريق إنشاء علاقات الود والتفاهم بين الإنجليز والمسلمين في مصر.
وقد تبيَّن من بعدُ فساد الاستدلال بهذه النصوص، حتى إن شوقي قال في قصيدته رثاء قاسم أمين ما يدل على ذلك:
ولك البيان الجزل في أثناء العلم الغزير
من مطلب حسن كثير
في مزالقه العثور
ما بالكتاب ولا الحديث إذا ذكرتهما نكير
حتى ليسأل: هل تغار على العقائد أو تغير؟!
خامسًا: سموم التغريب في الجامعة العربية بعد الجامعة المصرية
* ماذا عن المؤلفات المسمومة التي أخرجتها الجامعة العربية في فترة تولي الدكتور طه حسن لرئاسة اللجنة الثقافية: مختارات إمرسون اليهودي، و"قصة الحضارة" لـ"ويل ديورانت" و"الحرية والثقافة" لديوي وغيرها من المؤلفات التي تحمل سموم الطعن في التاريخ الإسلامي وإشاعة المفاهيم الصهيونية؟
** هذا من عمل الدكتور طه حسين الذي تشهد كتبه أنه لم يكن إلا بوقًا من أبواق الغرب وواحد من علمائهم الذين أقامهم على حراسة السجن الكبير؛ يروِّج لثقافات ويعظِّمهم ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم.
طه حسين الذي لم يمل من الكلام عن جامعة البحر المتوسط التي دعت إليها فرنسا بالأمس والتي تدعو إليها أمريكا اليوم.. طه حسين الذي زعم لمصر أنها جزءٌ من البحر المتوسط في مقومات شخصيتها وليست جزءًا من عرب نجد واليمن والبحرين والعراق والسودان.. طه حسين الذي لم يَرَ العرب في وهمه أمةً لأن قوام الدول في زعمه: المنافع المادية ولأن تطور الحياة الإنسانية قد قضى من عهدٍ بعيدٍ على وحدة الدين ووحدة اللغة وجعلهما لا يصلحان أساسًا للوحدة السياسية ولا قوامًا لتكوين الدول.. طه حسين الذي لا يؤمن بهذه الحقيقة لأنه يزعم للعرب أن السبيل إلى نهضتهم ليس هو ترجمة العلوم، ولكن السبيل إلى نهضتهم أن يذوبوا في الغرب، وهذا عمله في الجامعة العربية بعد عمله في الجامعة المصرية.
سادسًا: تطوير قواعد اللغة العربية
* وماذا عن مخططات التغيير في مجال اللغة العربية؟
** إن الدعوة التي يسمونها تطوير قواعد اللغة العربية أو تهذيبها أو تيسيرها أو إصلاحها أو تجديدها تعني شيئًا واحدًا هو التحلل من القوانين التي صانت اللغة العربية خلال ألف عام أو يزيد، وقد اقترنت هذه الدعوة بصعوبة قواعد اللغة العربية وتوقفها عن النمو والتطور وتخلفها عن مسايرة العصر والانتفاع بما استحدثه الدارسون في الدراسات، وهي دعوة باطلة من وجهين:
هي باطلة أولاً لأنها تتجاهل سنة الله من خلق الناس شعوبًا وقبائل، وكان من آياته وسننه فيهم اختلاف ألسنتهم، وطبيعي حين تختلف الألسنة أن تختلف قواعدها؛ لأن القواعد التي تنظِّم لغة كل مجتمع تنبع من واقعها وتلائم طبيعتها ونظامها.
ومحاولة توحيد القواعد والنظم في اللغات أو في الجماعات البشرية على وجه العموم غرض خبيث؛ يعلم الداعون بها- أو لا يعلمون- أنه فرع من محاولات متعددة تتجه كلها إلى هدف واحد هو طمس الفوارق المميزة بين الأجناس والجماعات البشرية؛ دينية كانت هذه الفوارق أو قومية أو فنية جمالية، مما تسعى إليه الصهيونية العالمية حتى تنحل الروابط التي تقوم عليها المجتمعات البشرية المختلفة، فلا يبقى على وجه الأرض مجتمع متماسك غير المجتمع الصهيوني.
والوجه الآخر: أن أصحابها حين عاينوا الداء لم يصيبوا الدواء؛ رأوا ضعف الجيل الناشئ في اللغة العربية وانصرافه عن تراثها وعجزه عن تذوق أساليبها وروائع آدابها، فظنَّ أن العلة في قواعد هذه اللغة، والحقيقة أن العلة في الذين يعلمون القواعد أو يتعلمونها؛ فكلاهما مقصِّر وكلاهما ابتليت به الأمة العربية في سائر مناشطها من العجز والتفريق وضعف الهمم.
وقد ظلَّت هذه اللغة قرونًا طوالاً تزيد عن ألف عام صلحت فيها لمواكبة الأجواء الحضارية التي تقلَّبوا فيها بين مشارق الأرض ومغاربها؛ لم تَضِقْ بشيء منها ولم ينتبهوا إلى وجود هذا النقص في اللغة إلا في نصف القرن الأخير تقليدًا لدعاة المستغربين الذين أخذوا يؤلفون الكتب في اللهجات العامة واقترحوا لهذه اللهجات لغة لتحل محل العربية الموحَّدة في تدوين العلوم والآداب، كما اقترحوا كتابتها بالحروف اللاتينية.
وخطر هذه الدعوات على التراث الإسلامي وعلى الأجيال التالية بين أبناء المسلمين وأبناء العرب خاصة واضحٌ لا شك فيه؛ فكلها ترمي إلى عزل هذه الأجيال عن تراثها بتغيير رسم الخط تارةً وبتطوير اللغة تارةً أخرى، وبتغيير مصطلح العلوم اللغوية من نحو وصرف وبلاغة تارةً ثالثة، وهو مصطلح يشيع استعماله في كل كتب التراث من تفسير القرآن الكريم وشرح الحديث الشريف وشرح النصوص الشعرية والنثرية.
ثم جاءت بعد ذلك خطوات لتطبيق أساليب جديدة منقولة من دراسات اللغات الغربية أو ما يُسمَّى علم اللغة العام، واقترنت هذه الدعوة بالعناية باللهجات العامية وآدابها أو ما يسمونه بالأدب الشعبي، ونشأت باقتراح بعض المستشرقين من رجال الاستعمار حين جمعوا طائفةً من الأغاني والمراثي والمواويل والأناشيد العامة تروِّج لدعوتهم، واتخذوه بعض ما يسمونه الأدب الشعبي في "ألف ليلة وليلة" موضوعًا للدراسة، هذه الدراسات نشأت نشأةً فاسدةً في حضانة الاستعمار.
لنكن صرحاء مع أنفسنا: من أين جاءتنا هذه الدراسة؟ هل نشأت لحاجة تنبعث من واقعنا؟ إنها اقتُرحت بواسطة أجهزة الاستعمار والتنصير، وقد كانت في أول الأمر في الصحف والمجلات، أما الآن فقد دخلت إلى نطاق المعاهد الدراسية والجامعات حين أرسلوا بعثتين إلى إنجلترا لدراسة اللهجات واللغويات على طريقة الغربيين، وعاد كل هؤلاء وكل بضاعتهم التي لا يحسنون سواها هي دراسة اللهجات، وسارت دراسات الأدب الشعبي مواكبة هذا الاتجاه، في الوقت نفسه في كليات الآداب ودار العلوم زعم المخدوعون والمفسدون أن الغرض من دراسة اللهجات تعليم المنهج، فلأي غرض نريد أن نتعلَّم منها دراسة لهجات العربية العامية ووضع قواعد لها إذا لم يكن ذلك تمهيدًا لإكسابها شيئًا من الاحترام ورفع قدرها عند عامة الناس توطئ لاتخاذها لغةً للأدب والتدوين أو تطعيم العربية الفصحى بها على أقل تقدير وللوصول إلى ما يسميه اللغة الثالثة أو اللغة الوسط؟
والحقيقة أن لنا منهجنا الخاص الذي أثبت ألف عام أو يزيد صلاحيته، ولا حاجة لنا إلى هذا المنهج الوافد؛ فقد صان منهجنا اللغة العربية، ولا يزال، وواجه احتياجاتها وما جدَّ من شعوبها طوال تلك القرون، فاصطلي بها ولم يَعِ ولم يَضِقْ بضبط تطوراتها وتوسعاتها من بغداد شرقًا إلى أقصى بلاد المغرب والأندلس غربًا.
وإذا استحدثت مناهج جديدة ومصطلحات جديدة فقد حكمنا بالإعدام على تراثنا لا على تراثنا النحوي والصرفي واللغوي وحده، بل على التراث كله الذي يستعمل هذه المصطلحات في شرح دواوين الشعر ومختاراته، وهو تراث سوف يتمسك به المسلمون من غير العرب وينفرد بمخالفته العرب.
فلنضع السؤال الصريح الذي فيه فصل الخطاب: هل نريد أن نظل مسلمين تحكمنا أصول الإسلام ونتعرَّف وجوه النفع والضرر من وجهة نظر إسلامية؟ أم أننا نخدع أنفسنا وننافق الناس؟ ليتنا نعرف أننا لا نُحرِّف الناموس ولا نهرب من حكم الله، وأن الذي يرفض أن يعمل عملاً مأجورًا من الله والناس يضطر في آخر المطاف أن يعمل لعدوه مستعبدًا دون أجر.
سابعًا: كتابات الأدباء عن الإسلام
* ماذا ترى في كتابات العقاد وطه حسين الإسلامية؟!
** إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلاً إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى المدرسة الليبرالية المتحررة التي تعتبر لطفي السيد أستاذها الأول في جيلها، والمدرسة الليبرالية تحكم العقل المجرد والمتحرر من كل المواريث الفكرية والسلوكية في كل شيء، ولا تبالي أن تلتقيَ مع الدين في كل وجهات النظر أو في بعضها أو تتعارض معه وتخالفه، ولكن كان طه حسين أكثر جرأةً في معارضة الدين وفي المجاهرة بما يُثير الناس ليلفت إلى نفسه الأنظار.. لقد هاجم طه حسين أباه فيما كان يتلوه من أوراد في أعقاب الصلاة وفي الليل في كتاب "الأيام".
إن طه حسين والعقاد قد اكتسحتهما الموجة الإسلامية العارمة، فتتابعت كتبهما بعد أن أصبح ذلك هو البدع الشائع الذي يغمر الأسواق، ولم يعد التشدق بالكفر ونظرياته المستوردة سمة من سمات المفكرين تستهوي الأغرار من الشباب كما كان في العشرينيات.
ثامنًا: موجة الشعر الحر
* وماذا ترى في موجة الشعر الحر التي استشرت في البلاد العربية؟
** الشعر الحر في أصل نشأته شعبة من اتجاه عام يدعو إلى تقليد الغرب في فكره وحضارته؛ فإطلاق الشعر من القافية التي ظل يلتزمها طوال هذه القرون منذ عرفنا الشعر العربي دعوة تستمد حجمها ومبرراتها من الشعر الغربي الذي لم يعرف القافية إلا في حدود ضيقة من آثار احتكاكه وتأثره بالأدب العربي في الأندلس.
ولماذا الحرص على تسمية هذا النوع من الأدب شعرًا؟! إنه أدب نثري، ولم يقل أحد إن الأدب النثري يخلو من التصوير ومن التأثر والتأثير العاطفي، بل إنه حين يخلو منهما لا يصح أن نعتبره أدبًا على الإطلاق.
إن هذا الحرص على تسميته شعرًا لم يجئ إلا من اعتباره شعرًا عند الغربيين، وهو على كل حال أخذ في التراجع والتقلص، وقد بدأت موجته في الانحسار بعد أن هذا القرن وكان كل ما تركته من أثر هو ضعف هذا الجيل وعجزه عن تذوق الشعر العربي الأصيل في تراثه الطويل، وكان مما فتن به أصحابه أنهم تصوروا أنفسهم أنهم أصبحوا شعراء عالميين بعد أن تُرجم بعض شعرهم إلى اللغات الأوروبية كأنهم يكتبون للغرب ولا يكتبون لقومهم من العرب، وكان شرطًا من شروط الأدب الجيد أن يكون مقبولاً عند غير أهله، ولعل هذه الترجمات كانت وجهًا من وجوه المخطط الذي يغري بترويج هذا الاتجاه الذي ينتهي أن نجح إلى قطع ما بين حاضرنا الأدبي وبين تراثنا من صلات، ولقد كان أصحاب هذا الاتجاه يدافعون عن مذهبهم بحجج؛ أبرزها اثنتان:
الأولى: أن القافية قد يلتزمها الشاعر على حساب عناصر الشعر الأخرى من فكر وصور وعاطفة.
الثانية: أن إغلاق باب التجديد وتقييد حرية الفنان في ابتكار ما يناسبه من قوالب وأساليب يشل انطلاقه وينتهي إلى حال من الركود والجمود يتخلف معها الشعر ويتراجع.
والرد على الحجتين سهل ويسير، أما الحجة الأولى فهي تعلَّة الضعفاء الذين يعجزون عن النهوض بأعباء الشعر من كل جوانبه وعناصره، وقد نهض بها الفحول من الأقدمين، فما رأينا في شعرهم جَورًا على الفكر والصور بسبب التزام القافية وفن الشعر للقادرين عليه، وفي النثر متسع لغير القادرين والبعد عند ميدان الأدب جملةً أولى بالعاجزين.
أما عن دعوى التجديد وحرية الفنان فقد توافرا دائمًا على مدار القرون وفي مختلف العصور والبيئات، فجدَّد شعراء العرب وابتكروا ما ابتكروا، وأضافوا ما أضافوا في حدود طبيعة الشعر العربي ومع التزام مقوماته الأصيلة، فاختلفت ألوانه باختلاف العصور والبيئات، ومع ذلك فقد كان هذا الابتكار في أشكال الشعر وقوالبه وقوافيه قصير العمر.
ولم يلبث الشعر أن عاد إلى النبع الأصيل، وحين بدأت نهضة الشعر المعاصر بعد ركود طويل منذ ما يقرب من قرن عاد رواد النهضة إلى النبع الأصيل يستقون منه ويسقون.
ثم إن دعوى الحرية بلا قيود في أي جانب من جوانب الحياة هي دعوى تقوم على سذاجة الداعي إليها أو سوء قصده؛ فليس هناك حرية مطلقة للإنسان ولا لشيء من خلق الله وليست الحرية المطلقة إلا الهوى ﴿وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون: من الآية 71).
نعم.. لو كان للأرض اختيار لدارت كما تهوى، ولو كان للشمس ولسائر الكواكب اختيار لجرت على ما تهوى، ولو كان للكائنات التي تخضع لسنن الله الكبرى القاهرة من تجاوبٍ وتنافرٍ من اختيار لفسد الكون وبطلت الحياة، ومن سنن الله الكبرى أن يكون الناس شعوبًا وأممًا.. أن يكون لكل أمة لسانها الخاص، ومزاجها وتقاليدها والفنون على اختلافها.. لها انتماء قومي وشرطها الأساسي أن تجعل عند قومها أولاً وقبل كل شيء، وليس مهمًّا بعد ذلك أن تجمل أو تحسن عند غيرهم، والكلام عن الإنسان في هذا المجال وعن العالمية ضارٌّ جدًّا وهادمٌ لأسباب النهضة عند الأمم الضعيفة بنوع خاص؛ لأنها لا يقوم لها نهضة إلا على أصولها الأولى، والنهضة على غير هذا الأساس فناءٌ لذات العنصر الأضعف في العنصر الأقوى.
هذا، وقد كان من الأسئلة كثير وكثير، ورحم الله الدكتور محمد محمد حسين وأجزل مثوبته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق