ماذا بقي من تمثال قيس سعيد؟
وائل قنديل
هل هذه النسخة الرديئة من الرئيس التونسي، قيس سعيد، هي النتيجة الطبيعية لزيارته الأولى إلى قاهرة عبد الفتاح السيسي التي ترفل في نعيم الاستبداد والطغيان؟
أم أن زيارة قيس إلى القاهرة كانت نتيجة صدور النسخة الجديدة من رئيسٍ تم انتخابه شعبيًا، عكس اتجاه النظام العربي، فقرّر بعد عامين فقط من انتخابه الحصول على عضوية نادي الاستبداد؟
يبدو الأمر محيّرًا تمامًا لكل العارفين بدقائق علم الكيمياء السياسية، وخبراء معادلات علم الجبر الرئاسي ولوغاريتماته، إذ من الصعب تصوّر أن زيارة واحدة إلى قاهرة الثورة المضادّة تكفي لتحويل الشخص من أيقونة وابن بار لثورات الربيع، إلى مقاتل شرس في معسكر الدكتاتورية والحكم الفردي.
مسألة تصعب على الفهم فعلًا، إذ كيف دخلها مرتديًا وجهًا نضاليًا منحوتًا بعناية، وخرج منها مرتديًا زيًا دكتاتوريًا كأنه التقطه للتو من متحف مقتنيات زين العابدين بن علي؟
كيف بكل هذا الاستعجال، وهذه الخفّة والرشاقة، يأتي أستاذ القانون إلى القاهرة، وهو مخلص للقيم البوعزيزية الثورية، ثم يغادرها بعد ثلاثة أيام فقط منتميًا تمام الانتماء لقيم عبير موسى؟
بعد انتخابه مباشرة، واصل قيس سعيد دغدغة مشاعر الشعب التونسي وجماهير الربيع العربي، بكلماتٍ تفيض وداعة وعذوبة عن تونس الجديدة، بثورةٍ جديدة في إطار الدستور، محميةٍ بسياج "الشعب يريد" ثم قال وصوته يكاد يختنق بالدمع مستحضرًا فلسطين "تمنيت أن يكون العلم الفلسطيني بجانب العلم التونسي". ضمن ما قال كذلك "الدولة ليست أشخاصا، وليطمئن الكثيرون بأننا نعرف حجم المسؤولية، ومعنى الدولة التي يجب أن تستمر".
عامان فقط، وزار قيس سعيد عبد الفتاح السيسي، وأمضى ثلاث ليال قاهرية، ليعود إلى تونس شخصًا آخر، بل "أنا أخرى" شديدة التضخّم والانتفاخ، إذ صار هو الزعيم وهو الدستور وهو الدولة، هو قائد الجند وكبير العسكر، عسكر الجيش والشرطة... أنا تجلس في الأعلى، وتدلّي قدميها فوق كل اعتبار آخر، على نحو تتخيل معه أن الرجل قبل أن يهبط في القاهرة، مر على أبو ظبي، ليحصل على نسخة من كتاب الانقلابات، وقبل أن يرجع إلى تونس مر ببنغازي واستمع بإنصات شديد إلى تعاليم خليفة حفتر وحصل على ملخص سريع للوصفة سريعة التحضير للثورة المضادة.
في المحصلة، عاد بعضوية نادي الحرب على الإرهاب، فبدأ على الفور يردّد خطاب عبير موسى، وأحمد موسى، ويدندن بطقاطيق البدايات الخفيفة: الإسلامي ليس المسلم، والمسلم ليس الإسلامي، لتكتشف، مع الوقت، أن هذا الرجل قرّر أن يلقي بشهادة القانون في سلة المهملات، بعد أن تم تعميده عسكريًا، ومباركته استبداديًا.
عرف الرجل طريقه ومضى فيه، تاركًا لنا سذاجتنا وأحلامنا العبيطة، التي سوّلت لنا أن نقول، في لحظة انتخابه، "كان تونسيًا عربيًا ثوريًا ديمقراطيًا، بمنتهى الصدق، من دون تكلّف أو ادّعاء، فاستحقّ أن يكون مستودع أحلام شعبه التونسي وطموحاته، بل وشعبه العربي كله، إذ كان قيس، في جولة الإعادة، مرشّح الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، الذي وجد أنه يعبّر عنه، ويتحدّث بلسانه، مستخدمًا لغةً شديدة الرقي، شعبيةً لا شعبوية، هادئةً لا ديماغوغية، بسيطةً لا مبتذلة. ومن هنا، تفجرت ينابيع الفرح بفوزه، وكأنه انتصار للعرب في زمنٍ غارقٍ في الهزائم".
أذكر أنني، بعد انتخابه، كتبت أيضًا أنني لست أخشى على قيس سعيد إلا من هذا النظام الرسمي العربي الذي لا يقبل بوجود رئيس يحترم قيم شعبه، ولا يبيع تاريخه وجغرافيته، لقاء انحناءة فاخرة أمام ترامب، أو مصافحة حارة مع نتنياهو، أو رقصة صاخبة في حفل حاخامات.
لكن ثقتنا بلا حدود، في قدرة الشعب التونسي على حماية اختياره. .. الآن، يبدو أن قيسًا قد غافلنا جميعًا، وها هو يطلّ علينا من شرفة زين العابدين بن علي، وعن يمينه عبد الفتاح السيسي، وعن يساره خليفة حفتر، يتضاحكون ويسخرون من تلك الرومانسية الثورية العبيطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق