حقائق غائبة حول استشهاد الحسين وأحداث كربلاء (4)
د. علي الصلابي
4/10/2018
وبالنظر إلى أقوال الصحابة – رضوان الله عليهم – فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين – رضي الله عنه -، فهذه أم سلمة – رضي الله عنها – لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله – عز وجل – غرُّوه ودلُّوه لعنهم الله.
إن المسئول عن قتل الحسين أطراف متعددة منها:
1 – أهل الكوفة:
إن أهل الكوفة هم الذين كاتبوا الحسين بن علي وهو في المدينة، ومنَّوه بالخروج حتى خرج إليهم، بالرغم من تحذيرات الصحابة له بعدم الخروج، ولما عين ابن زياد أميراً على الكوفة تأخر الناس عن نصرة الحسين وعن تأييده، بل وانخرطوا في الجيش الذي حاربه وقتله، ولذا عبَّر الحافظ ابن حجر عن موقف أهل الكوفة من الحسين بقول: فخُذِل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، ولما تقابل الحسين ومن معه مع جند الكوفة نادى الحسين زعماء أهل الكوفة قائلاً لهم: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل؟!. قالوا: لم نفعل، فقال: سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم، ثم قال: أيها الناس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني.
وبالنظر إلى أقوال الصحابة – رضوان الله عليهم – فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين – رضي الله عنه -، فهذه أم سلمة – رضي الله عنها – لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله – عز وجل – غرُّوه ودلُّوه لعنهم الله. وابن عمر – رضي الله عنهما – يقول لوفد من أهل العراق حينما سألوه عن دم البعوض في الإحرام، فقال: عجباً لكم يا أهل العراق! تقتلون ابن بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وتسألون عن دم البعوض.
ويقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيها، حتى قيل: أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي:
أ – بعد مقتل علي – رضي الله عنه -، بايعوا الحسن، وغدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي.
ب – كاتبوا الحسين – رضي الله عنه -، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد، فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله يداً واحدة عليه. حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
جـ – غدرهم بزيد بن علي بن الحسين، نكثوا بيعته، وأسلموه عند اشتداد القتال. إن جزءاً كبيراً من المسئولية يقع على أهل الكوفة، الذين جبنوا ونقضوا عهودهم.
2 – عبيد الله بن زياد:
النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزُّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم |
استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة، وداعيته هانيء بن عروة الزعيم لقبيلة مراد المشهورة، استحسن يزيد هذا الفعل، ولم يعترض عليه بل إنه لم يخف إعجابه به وبطشه وعسفه، فقد قال في ردِّه على رسالته: أما بعد، فإنك لم تعد إن كنت كما أحببت، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك. فهذا التشيع دفع ابن زياد للشر أكثر، خصوصاً وأن نفسه كانت ميالة للشر بطبيعتها، متطلعة إلى الغلو في مسيرتها، متعطشة إلى الدماء في سلطانها، وإلا فماذا كان عليه لو أنه نهر شمر وعنفه وردعه على قوله، واستمر في قبول خطة السلم التي عرضها الحسين – رضي الله عنه -؟.
إن النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزُّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم، وتحط من منزلتهم إشباعاً لعقدة النقص التي تطاردهم في حياتهم، ولم يكن ابن زياد إلا واحداً من أصحاب هذه النفوس الدنية، فمن ابن زياد هذا – مهما كانت منزلته – إذا قورن بالحسين بن علي – رضي الله عنهما – لهذا رفض الحسين أن يضع يده في يد ابن زياد، وقال: لا أعطيهم بيدي إعطاء العبد الذليل، وقال عمر بن سعد لما وصله كتاب ابن زياد: لا يستسلم والله الحسين، إن نفساً أبية لبين جنبيه. لقد كان عبيد الله بن زياد والياً ظالماً قبيح السريرة وهو الذي دخل عليه عائذ بن عمرو المزني، وكان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقال لعبيد الله: أي بني: إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إن شر الرِّعاء الحُطمة» فإياك أن تكون منهم، فقال له، اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -، فقال: هل كانت لهم نخالة؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم.
لقد كان يتوجب على ابن زياد أن يلبي مطالب الحسين، وأن يتركه يذهب إلى يزيد، أو أي مكان آخر، خاصة أنه لن يدخل الكوفة، وقد قال ابن الصلاح في فتاويه: والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو ابن زياد. وقال يوسف العش: وينبغي لنا أن نقول: إن المسؤول عن قتل الحسين هو أولاً شمر، وثانياً عبيد الله بن زياد. والصحيح أن المسئولية الأولى والإثم الأكبر في هذه المذبحة تقع على عاتق ابن زياد؛ لأنه مدبر هذا الأمر كله، وهو الذي رفض عروض الحسين، والتاريخ يستنكر كل ما فعله، ويذمه أشد الذم، ويدمغه بالبغي والطغيان. ويقول الذهبي في نهاية ترجمة عبيد الله: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم، ولا نلعنهم وأمرهم إلى الله.
3 – عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش:
ومن المسئولين عن قتل الحسين – رضي الله عنه – قائد جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبئس الخلف للسلف، أو الابن لأبيه ثم الجنود الذين نفذوا أوامرهم في غير ما رحمة، وكان لهم مندوحة أن ينأوا عن ذلك، أو ينضموا إلى جانب الحسين، كما فعل الحر بن يزيد التميمي القائد الأول الذي أرسله بن زياد، ثم رأى أن ابن زياد وصحبه اعتدوا وطغوا حين رفضوا عروض الحسين المنصفة، فتحول إلى معسكر الحسين وقاتل معه حتى قتل شهيداً.
إن عمر بن سعد لم يخرج ابتداءً لقتال الحسين، ولكنه كان خارجاً لقتال الديلم في أربعة آلاف مقاتل، فلما بلغ ابن زياد أمر حسين سيره إليه، وقال له: قاتل حسيناً فإذا انتهيت فانصرف إلى الديلم، وكان قد ولاه إمارة الرَّيِّ واستعفى عمرُ ابنَ زياد من قتال الحسين، ولكن ابن زياد هدده بخلعه عن إمارة الرَّي فتراجع عمر، وقال له: حتى أنظر، وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته – حمزة بن المغيرة بن شعبة -: أنشدك الله يا خال، أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها -لو كان لك-، خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين. فقال عمر بن سعد: فإني أفعل -إن شاء الله-.
وبرغم نصح الناصحين، وترهيب المرهبين، إلا أن نفس ابن سعد كانت متعلقة بالدنيا وحب الإمارة ومشغولة بالمنصب وتقلد الإدارة. والحق يقال: إنه اجتهد في محاولة إيجاد مخرج يبتعد منه عن قتال الحسين ومن معه، ولكنه لم يوفق في شيء. إن النفوس المتطلعة إلى الدنيا، تنسى في سبيلها شهامة الرجال، ومروءة الكرام، بل تنسى ما هو أعظم من ذلك موقفَها بين يدي الله – عز وجل -، وأنها ستحاسب على كل عمل تعمله، بل تنسى بديهيات الأمور، حيث تنسى فناء الدنيا، وزوال المنصب، وضياع الجاه والسلطان، لقد كان عمر بن سعد في غنى عن أن يقرن اسمه بأسماء الخونة الغادرين، وأن يسجل في سجل المعتدين الآثمين، لو أنه ضحى بالمنصب، وقبل طاعة الله ورسوله، ولو أنه فعل ما فاته شيء مما كُتب له من متاع الدنيا، ولكان عند الله من الأبرار الصالحين.
4 – يزيد بن معاوية:
إن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية – رحمه الله – |
وأما يزيد، فظاهر الأمر أنه كره قتل الحسين – رضي الله عنه – وحاول أن يمنعه من الخروج، فكتب إلى ابن عباس، يسأله أن يكف الحسين عن الخروج، وحين وضعت الرأس الشريفة بين يديه وقال: لعن الله ابن مرجانة كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه. وهذا البكاء على الحسين، وسب ابن مرجانة لا يرفع اللوم عن يزيد، ولا يخليه من تبعة قتل الحسين وأصحابه، ذلك لأنه كان قادراً على أن يوجه أوامر صريحة لابن زياد بعدم قتل الحسين – رضي الله عنه -، والتصرف معه بكل حكمة وتعقل؛ حفظاً لرحمه وقرابته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومكانته في قلوب المسلمين.
إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين – رضي الله عنه – قائمة، كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه؟، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يحمِّل نفسه مسؤولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام، لم يسوِّ لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين؟ إن مقتل الحسين – رضي الله عنه – سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وإنه سعى في قتل سبط رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تشفياً من رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبعري الذي أنشده يوم أحد:
وأشياء من هذا النمط، وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل. والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم -، وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول – كذباً عليه – إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية، ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذبا وضلالا من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة.
والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً؟
الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة، قيل: إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنِّ |
وقال مهنا: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ قال: لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره، وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبُّ ولا يُحَبُّ. وقال ابن تيمية: وبلغني – أيضاً- أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد.
وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها، أما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة "حمار" الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده: لما لعنه بعض الصحابة قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه؛ فإنه يجب الله ورسوله». وقال: «لعنُ المؤمن كقتله» هذا مع أنه قد ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لعن عموماً شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين.
وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضي لمعارض راجح: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة وإما شفاعة مقبولة وإما غير ذلك. ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: «المرء مع من أحب»، ومن آمن بالله واليوم والآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين.
ولترك المحبة مأخذان:
أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقي واحداً من الملوك المسلطين ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلاً.
والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة.
وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي، والكيا الهراسي وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة،… وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته.
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان: أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطئ، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرضَ به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد. والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له». وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين؛ فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة – وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها – فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب.
وأما جواز الدعاء للرجل وعليه… فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية – رحمه الله – مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه، فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون – كالحجاج بن يوسف وأمثاله – نقول كما قال الله في القرآن: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]
ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن، وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله»، فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: «وعترتي أهل بيتي».
قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه، وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية، وأفسحت المجال للنيل من بني أمية، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: «لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد»، فهو حديث غير صحيح؛ لأن فيه أكثر من علة، فقد رواه أبو يعلى في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان.
أ – ضعف صدقة السمين، وهو أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد: ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل، وهو ضعيف جداً، وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير، وقال الدَّارقطني: متروك.
ب – إن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة؛ لأنه لم يدركه. وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمِّ يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم.
بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرَّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم |
إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة، قيل: إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنِّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردِّدونه إلى اليوم تضخيماً لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرِّوايات لا يرى إلا ضعفاً هالكاً، أو مجهولاً لا يعرف أصله أو مدلِّساً يريد تعمية الأبصار عن الحقائق، ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة: أن السبايا حملن على نجائب الإبل عرايا حتى إن الإبل البخاتي إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم؛ لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن.
وقال ابن كثير: ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرَّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم… إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء.
وأما ما رُوِيَ من الأمور والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنَّه قَلَّ من نجا منهم في الدنيا إلا أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين – رضي الله عنه -، كذب كثير وأخبار طويلة، وفيما ذكرناه كفاية، وفي بعض ما أوردنا نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ الأئمة ذكروه ما سُقته، وأكثره من رواية أبي مخنف لوط بن يحي، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة، ولكنه أخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنِّفين ممَّن بعده والله أعلم.
ويقول ابن تيمية – رحمه الله -: وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإراكابهم حتى نبت لها سنامان وهي البخاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام وأهله من أهل البيت، وغيرهم، فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول: إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سبَّتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا الله؛ إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي – صلى الله عليه وسلم -، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال، وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، مما يتطلب تحقيقاً علمياً لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهم المصادر والمراجع:
1- مسند أحمد، المكتب الإسلامي، بيروت، رقم (5568).
2- أبو جعفر الطبري، تاريخ الطبري، المسمى بتاريخ الأمم والملوك، ، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ – 1987 م. ج 6، ص ص 309-393.
3- محمد بن عبد الهادي بن رزَّان الشيباني، مواقف المعارضة في خلافة يزيد، المكتبة المكية، دار البيارق، الطبعة الأولى. ص ص 362-366.
4- أبو الحجاج جمال الدين يوسف المزني، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، (6/422).
5- أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، دار الرّيان، الطبعة الأولى، 1408هـ – 1988م، ج 11، ص ص 510-512.
6- أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، أنساب الأشراف، طبع ببيروت، عام 1989 م، ج 3، 166-168، ج3، ص 573.
7- محمد سيد الوكيل، الأمويون بين المشرق والمغرب، دار القلم، دمشق، الدّار الشامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1416هـ – 1995م، ص ص 249- 255.
8- أبو الحسن علي بن أبي المكارم الشَّيباني المعروف بابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التُّراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ – 1989 م، ج2، ص 582.
9- تقي الدين أحمد بن تيمية الحرّاني، مجموعة الفتاوى، دار الوفاء، مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى، 1418هـ 1997م، ج4، ص ص 294-297، ص 306.
10- أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر البغدادي، الفرق بين الفرق، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، طبع مؤسسة الحلبي وشركاه بالقاهرة، ص 37.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق