فوائد لحوم الكلاب والحمير
أحمد عمر
كيف وصل رجل ربعة دون الوسط في الجسم، وتحت خط الفقر في العلم لمنصب رئاسة أم الدنيا؟
أُعلم القارئ أني شغفت بخطب السيسي، أتابعها وأتتبعها من موقع إلى "موقعة"، كأنها مقاطع كوميدية من فيلم ثقيل متواصل كليل أمرئ القيس الذي لا ينجلي، تضحك وتبكي، حتى زهدت في أفلام الكوميديين المصريين، فسبحان من أضحك وأبكى.
الحال نفسه في دول الطوق الذهبي، لكن من غير كوميديا كبيرة. يستعين كاتب السطور على فهم الأحوال والأهوال بأقوال المفكرين السياسيين وكتب العلوم السياسية، حتى بلغ مجمع البحرين حقبا، فعلم أنَّ لكل زعيم مؤسس معركة تأسيس فاصلة، فتلفت حوله فلم يجد للسيسي معركة سوى معركة رابعة التي تسمى في إعلام ماسبيرو "فضّ رابعة"، وهو تعبير لا يخلو من خبث. وكان السيسي قد تناولها بالأمس في إحدى خطبه أمام العسكر في الدورة التثقيفية السابعة والثلاثين بمناسبة يوم الشهيد، وصدّر المشهد بعنوان "الشهيد الثمن"، رُسم بخطين من خطوط "الوورد" الإلكتروني، وهو عنوان جانبَه التوفيق الجمالي التشكيلي والروحي الديني، وكشف كيف اتصل بإسرائيل محذرا منذرا، واستأذنها في دخول سيناء "المحررة" وصان إسرائيل من أعدائها، وساوى بين الإخوان وبين الدواعش.
صنع مصطفى كمال أسطورته بمعركة الاستقلال، ووُصف بأبي الشعب، وباني تركيا الحديثة، التي زادت في عهده وعهود أخلافه مرضاً وتخلفاً، ونشأ تيار الكمالية، الذي تخوض باسمه وتحت ظل شعاراته عدة تيارات سياسية المعركة الانتخابية ضد أردوغان؛ ممثل العثمانية المحدثة وباعث نهضتها، أهمها حزب الشعب الجمهوري، وما زال التيار يحصل على حصة وافرة من الأصوات الانتخابية.
ومصطفى كمال ضابط مغمور، صنعته المخابرات البريطانية، وكان الحليفان بريطانيا واليونان قد احتلا إزمير وتراقيا وحاصرا الأستانة في الحرب العالمية الأولى، فاضطر السلطان محمد وحيد الدين إلى إعلان الاستسلام حفظاً للعاصمة من الغزو والنهب، لكن البطل الجديد، رفض الاستسلام، ومن العجائب أن تقهقرت أمامه القوات البريطانية من غير تفسير، وأخلت له الطريق إلى اليونان أيضاً، فحرّر إزمير وفك الحصار عن الأستانة، وطارد القوات اليونانية، فأصبح بطلاً أوحد، يقسم باسمه الأتراك، وتصنّم له الأصنام، وتقال فيه الأشعار، حتى عند الشعراء العرب، فصنع للغزاة ما لم يكونوا يحلمون بصنعه، وأعاد تركيا إلى "صفر المصنع"، فبدّل حروف اللغة التركية العربية إلى اللاتينية، وحرق ملايين الوثائق والكتب في الساحات، ومنع الآذان، وبدّل الزي، وأباح الدعارة، وجعل المسلمين كفار دولته الجديدة.
وقد وقع لجمال عبد الناصر ما وقع لأتاتورك، فأصبح أتاتورك مصر والعرب، والبطل الذي قهر العدوان الثلاثي. توافقَ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية إبان العدوان الثلاثي، على إنذار إسرائيل بسحب قواتها من سيناء وغزة، وهي من الموافقات النادرة بين القطبين اللدودين، وكانت المرة الأولى في الاتفاق بينهما على الاعتراف بدولة إسرائيل. يقول بهاء الأمير: إنّ سبب ذلك إدراك القوى العظمى عدم طاقة إسرائيل على غزو سيناء وحيازتها، فسلكوا لها منفذاً على البحر الأحمر هو ميناء إيلات، تؤكد ذلك وثائق مايز كوبلاند في كتابه "لعبة الأمم" وكتاب المؤرخ محمد جلال كشك "ثورة يوليو الأمريكية".
أما معركة أتاتورك سوريا التأسيسية، فقد سميت بحرب تشرين التحريرية، وفي أدبيات المعارضة بالتحريكية، وأفضل منها وصف "التحريفية"، فوصف بالبطل، كان أول فوائده منها هو تخلصه من نخبة قادة الجيش السوري، وتدميره أسلحته في معركة خائبة، وصنعت له الأناشيد، وصدحت بذكره الأغاني، منها أغنية لحّنها محمد عبد الوهاب، عنوانها "يجعلها عمار"، ولم يعمّر شيئاً، سلّم في المعركة الجولان لعدو شعبه، التي فيها ثروة سوريا من المياه العذبة، واستعاد القنيطرة خراباً يباباً، من غير إعمار، لحفظها شاهداً على وحشية إسرائيل ومتحفا في الهواء الطلق ، كما زعم. وكان عليه إن صدق قولاً، أن يعرضها ليل نهار في التلفزيونات والجرائد مدمرة، أو يفتحها لزيارة الطلاب في الرحلات المدرسية، ليشهدوا وحشية العدو، لكنها بقيت ممنوعة على الزيارة حتى على أهلها النازحين منها!
لقد عاد إلى صفر المصنع، فلا تاريخ قبل ثورة الثامن من آذار.
ويدرك هؤلاء الزعماء بالغزيرة أو بالتلقين من الصانعين، أنه لا بد من سلف صالح وتاريخ غابر، فعادت مصر إلى الفرعونية، وآبت سوريا إلى أقوال السوريين الأوائل، قبل عشرة آلاف عام، وهو تاريخ بعيد وغامض، ليس سوى أساطير، وشاعت أقوال مثل قول الرب بعل المأثور: "حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض، أنت سوري وسوريا مركز الأرض".
وهو قول يحضّ في ظاهره على الحبِّ والزراعة والسلام، وفي باطنه على الوطنية، والوطنية المعاصرة شكل من أشكال العنصرية، وتحويل الشعب إلى أقنان عزل من السلاح، وأفرط المصريون في الاحتفال بفراعنة مصر ومومياواتها، بينما يعجز الشعب عن تحصيل قوت يومه.
لكن السيسي مختلف عن هؤلاء الثلاثة، وإن كانت له معركة تأسيس، فمعركته الكبرى الأولى، كانت في الداخل وليست مع العدو الأجنبي كما في حالة كمال أتاتورك أو جمال عبد الناصر أو حافظ الأسد، مع أهل الشرّ كما يصفهم، وهو اسم مأخوذ من جورج بوش صاحب محور الشر، وهي غير محور محمد بن سلمان الذي أمسى عليه المساء فصار اسمه محور كمال عامر!
السيسي على قلة حيلته ووعيه وفهاهته وعجمته، يتجنب ذكر اسم خصمه، وقد انتصر في المعركة السهلة على مدنيين معتصمين متهمين بتطوير أسلحة كيماوية وصاروخية تحت منصة رابعة! وأحرز مجداً لم يحرزه حتى جمال عبد الناصر، ولهج بذكره حتى خصومه الطامحون إلى السلطة أمثال حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح، ظانين أنه سيخلع بدلة العسكر السحريّة ويعود إلى صناعة الكعك في مسالح الجيش.
امتد مجد أتاتورك حتى هذه اللحظة، أما عبد الناصر فقد عاش ذكره نحواً من ثلاثة عقود، والأسد خمسة بالتوريث، أما السيسي، فقد انكشف بعد عقد واحد، وهو وقت طويل بمعيار الزمن الحالي، فمصر مقبلة على سنين كسني يوسف، وشيوخها يبيحون للشعب أكل لحوم الكلاب، وإعلاميّوها يطيّبون للشعب المصري أكل لحوم الحمير والكلاب، ويزينون لهم أرجل الفراخ كوجبة ملكية على المائدة. ستكون أهم فوائد هذه اللحوم إن توفرت بأسعار رخصية، وهذا مستعبد، بث بروتين الصبر على مكاره العيش ودهن الوفاء للقيادة السياسية.
والسؤال الذي يضرب نفسه بالجزمة: كيف استطاع السيسي إقناع الشعب بنفسه وهو من ضعف اللسان وركاكة البيان، وضآلة الجسم ولغة البدن بمكان؟ إنّ الجواب يمكن أن يطول بذكر الدعم الخارجي العربي والأجنبي والعسكري والنخبوي في الداخل، وأخطاء الإخوان، وقلة الوعي السياسي، وقوة إعلامه، ودهاء الخدعة، ويمكن أن يقصر فيختصر في كلمة واحدة هي: النار.
يمكن أن تكون النار التي استخدمها في حرق المعتصمين من جهة، وأن تكون في خوف الشعب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخشيتهم من حرمانهم من تحولهم إلى تنانين بحظر التدخين، وحظر المشروبات الروحية، وهي نار تشرب وتحول شاربيها إلى أغوال، وتحريم القبلة السينمائية المحمومة ورؤية أفخاذ الممثلات الساخنات وسيقانهن المشتعلة بالرغبة، وهي نيران ترى، وفي نار الآخرة وعذاب القبر التي يذكر بها الإخوان، من جهة أخرى.
لم نذكر نيرانا أخرى مثل نار الأسعار، ونار الحب التي يكتوي بها الشعب المصري شغفا بالرئيس البهي الطلعة.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق