كمال الهلباوي.. الأب والأستاذ والخصم
أحمد عبد العزيز
عن أربعة وثمانين عاما غادر الأستاذ كمال الهلباوي دنيا الباطل واللجج إلى دار الحق والشهادة، بعد حياة حافلة بالعطاء والتضحية والجهاد في سبيل الله، جاب خلالها أرجاء الأرض داعية، ومحاضرا، ومربيا، وكاتبا، ومؤسسا لكيانات بحثية وإعلامية واجتماعية أحسبها من العلامات البارزة في تاريخ الحركة الإسلامية، وختمها (قبل مرضه) بموقف لا يتوافق (أبدا) مع تاريخه الناصع.. سائلا الله تعالى أن يكون قد برأ إليه (قبل وفاته) من هذا الموقف، ألا وهو تأييد الانقلاب العسكري الدموي على الرئيس الشرعي المنتخب.
لماذا هذا المقال؟
أكتب هذا المقال لمن لا يعرف من سيرة الأستاذ الهلباوي (رحمه الله) إلا مفارقته جماعة الإخوان المسلمين، وإن ظل وفيا للدعوة ومؤسسها، ثم معارضته للرئيس الشهيد محمد مرسي، ثم تأييده للانقلاب عليه، ثم مشاركته في كتابة دستور الانقلاب (2014).. فهناك من مآثر الرجل ما يجب أن يُذاع ويُعرف، حتى لو كنت في خصومة وقطيعة معه، منذ أيلول/ سبتمبر 2013، وحتى وفاته أمس..
فإذا كان لأحد من خصوم الأستاذ الهلباوي أن يحمل عليه (بحق) فهو كاتب هذه السطور! فإن كنت أنسى، فلا أنسى يوم دخلتْ عليه ابنتي حبيبة مكتبه، وكانت تناديه "جدِّي"، فقبَّلت رأسه، ورجته أن يذهب معها إلى اعتصام رابعة، كي يقف على حقيقة الموقف هناك، بل وسترتب له وقتا للحديث إلى المعتصمين إذا أراد، وأنها ستضمن سلامته، حتى يعود إلى البيت، لكنه أبى.. ثم كانت مجزرة رابعة، بعد أيام من هذا الموقف، وكانت حبيبة واحدة من ضحاياها.. وكان أخي عبد الرحمن الهلباوي (الابن الأكبر للأستاذ كمال) خير رفيق لي، في هذه الأوقات الحالكة التي بدأت بعثوري على جثمان حبيبة، وحتى واريتها الثرى.. فجزاه الله عني وعن حبيبة خير الجزاء..
في تلك الأيام، كنتُ أقيم مع الأستاذ الهلباوي في شقته؛ لأن أسرته كانت تقيم في لندن، ولم أكن قد استأجرت سكنا لي في القاهرة، فأقمت معه، أما حبيبة فكانت تقيم في شقة قريبة من ساحة الاعتصام، مع مجموعة من الفتيات المعتصمات..
بعد ليلة عصيبة قضيناها مع الآلاف، في محيط مشرحة زينهم، استطعنا مغادرة المكان في صباح اليوم التالي بشق الأنفس، مصطحبين جثمان حبيبة إلى مسجد "الأرقم" المواجه للبناية التي يسكنها الأستاذ الهلباوي، وقمنا بتغسيلها في مغسلة المسجد، بينما جلس الأستاذ الهلباوي متكئا على عصاه، في باحة المسجد.. كان يبكي بلا صوت، من شدة الصدمة، وعجز تماما عن الكلام لعدة أيام، فقد كانت "حبيبة" تتمتع لديه بمنزلة خاصة، منذ نعومة أظفارها..
موقف لا أحسد عليه.. فهذه ابنتي فلذة كبدي، الصحفية الجسور التي فقدتُها غدرا، وفقدت معها شيئا من نفسي لم أعرف كنهه حتى اليوم، ولم أسترده حتى الساعة، وهذا أستاذي الذي أنزلته منزلة الأب مذ عرفته (عن قرب) في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وبات له عليَّ حق الأب على ابنه..
غادرت إلى قريتي "كفر حمام" وسط دلتا مصر، فأودعت حبيبة المكان الذي اختاره الله مستقرا لجثمانها، ثم عدت إلى القاهرة بعد عدة أيام.. والتقيت الأستاذ الهلباوي، فألقيت عليه السلام، وقبَّلت رأسه كعادتي، ولم أنطق ببنت شفة، ولم يستطع هو أن يبدأني بحديث، واستمر الحال على هذا النحو لأسبوعين أو ثلاثة، حتى استأجرتُ شقة ليست عنه ببعيد، وكان هذا آخر عهدي بالأستاذ الهلباوي، إذ غادرت مصر بعد بضعة أسابيع أخرى، إثر وشاية "تطوع" بها ضدي أحد "جيراني" الجدد، عرفت من البواب أنه لواء متقاعد..
اللقاء الأول
في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كانت بيشاور الباكستانية قبلة يؤمها كل من أراد الوقوف على أحوال الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي، فقد كان فيها كثير من المؤسسات الإغاثية، والمستشفيات الميدانية، والمدارس والمعاهد العلمية، ومندوبي الصحف العالمية والعربية.. في تلك الفترة، وبتكليف من قيادة الإخوان المسلمين، زار الأستاذ الهلباوي بيشاور؛ لاختيار خمسة من المشتغلين بالإعلام هناك؛ ليعاونوه في تأسيس القسم العربي في معهد الدراسات السياسية الذي كان يرأسه (آنذاك) البروفيسور خورشيد أحمد، نائب أمير الجماعة الإسلامية وعضو مجلس الشيوخ الباكستاني.. وكان كاتب هذه السطور أحد هؤلاء الخمسة..
كنت وزملائي نرى في الأستاذ الهلباوي أبا وأستاذا، وكان يرى فينا أصدقاء وزملاء، لهم حقوق الأبناء عليه.. كان زاهدا، يأكل مما حضر، لا يشتهي طعاما ولا لباسا.. كان كريما لا يبقى شيئا مما في جيبه لنفسه، إذا كان فيمن حوله من هو أشد حاجة منه.. كان يلبس أبسط الثياب.. لا يتكلف في هندامه.. عاش كما كنا نعيش، فلم يتميز عنا بشيء، رغم ما كان يواجهه من المتطلبات الاجتماعية (بحكم موقعه) ما لم يكن مطلوبا منا مواجهته..
لا زلت أذكر حذاءه المهترئ الذي اتخذه "بلغة/ سباط/ شبشب" بعد أن طوى حافته الخلفية إلى داخله، وزيه الباكستاني (الشلوار) الذي بدا فيه مزقا أسفل جيبه، لم يلفت انتباهه، فبقي على حاله.. سألته يوما، ونحن في طريقنا إلى قرية "بابي" القريبة من بيشاور للقاء أحد قادة المجاهدين، وكان يعتني بهندامه: ألم يكن من المناسب (يا أستاذ) أن ترتدي زيا، وتنتعل حذاءً، غير هذين؟ فقال: نحن هنا في ساحة جهاد، ولا أتصور أن أكون على هيئة أخرى غير هذه الهيئة التي أنا عليها، فالناس هنا يعتقدون أننا ننفق من الأموال المخصصة لمساعدتهم وإغاثتهم، ولا سبيل لتبديد هذا الاعتقاد الخاطئ إلا بهذا "النفي العملي". كان مقتنعا بما يقول، راضيا عما يفعل، فلم يكن متصنعا له، ولا مُكرها عليه، إذ كان يأتي كثيرا إلى المعهد بهذه الهيئة..
كان (رحمه الله) يشجعنا على النقاش، وما كان يزعجه أن نخالفه.. كان يحترم الشورى، وينزل على رأي الاثنين منا، إذا كان للثلاثة الآخرين آراء متباينة.. لم يمارس علينا (يوما) أي سلطة في أي موقف؛ وظيفية، أو تنظيمية، أو أبوية.. كان كثير السفر، قليل النوم، لا يكف عن الكتابة على أي وضع، وفي أي وقت.. أعطى لكل منا صلاحيات واسعة في مجاله، ولم يلزمنا بالرجوع إليه قبل التنفيذ؛ لأن التجربة (في نظره) خير معلم..
كثيرا ما كلفني الأستاذ الهلباوي بمراجعة مقالاته، لأحذف منها، أو أضيف إليها ما أراه مناسبا، ثم أنشرها دون الرجوع إليه.. وكثيرا ما كلفني بمهام إدارية، وعند التنفيذ.. أرى (أحيانا) أن ما طلبه غير مناسب، فأعود إليه وأناقشه، وكثيرا ما كان يقرُّني على رأيي، وبعد مدة.. طلب إليَّ عدم مراجعته، وترك لي حرية التصرف، تنفيذا أو تعديلا أو تجاهلا، وكان يُسر كثيرا بما أصنع، حتى لو كانت لديه ملاحظات على ما صنعت.. كان يحب منا (زملائي وأنا) المبادرة، ويثمن الإقدام، حتى لو طاله بعض الأذى المعنوي، وقد حدث ذلك مرارا، وكنا نسترضيه (رحمه الله) فيرضى، وينسى..
أذكر أنني كتبت عمودا في مجلة "الدعوة" الناطقة بلسان الإخوان المسلمين، وكان الأستاذ الهلباوي مكلفا (حينذاك) بالإشراف على تحريرها من قِبَل قيادة الإخوان.. علقتُ (في هذا العمود) على اضطهاد النظام السعودي للعلماء والنشطاء الذين أصدروا "مذكرة النصيحة" الشهيرة..
كان الأستاذ الهلباوي مسافرا، فلما عاد جاء من فوره إلى مكتبي، فأبلغني انزعاج قيادة الإخوان مما كتبت! فقلت له: ولِمَ الانزعاج يا أستاذ؟ أليس هؤلاء "الإخوة" على حق؟ قال: نعم.. فواصلت: أوَ لو كان الإخوان هم أصحاب هذه القضية، أوَ لا يسرهم أن يكتب غيرهم من أصحاب الأقلام عن قضيتهم؟ قال: نعم.. فأردفت: إذن فما الذي يزعج قيادة الإخوان من فعلٍ هو من صميم دعوتهم وأخلاقهم؟ قال: معك حق.. ورأيت في عينيه الغبطة والسرور..
كان ذلك في وقت لم يكن أيٌّ من شباب الإخوان ليجرؤ على اتخاذ موقف كهذا، ولم يكن لقيادة الإخوان أن تتركه دون "تعزير"! لكن الأستاذ الهلباوي (رحمه الله) كان سعيدا بهذا النموذج الذي لا يخشى في الله لومة لائم.. ومواقف أخرى كثيرة، يضيق المجال عن سردها..
تجاهلوه ففتنوه!
عاد الأستاذ الهلباوي إلى مصر، إبَّان انتفاضة 25 يناير 2011، واستقبله المرشد العام الأستاذ محمد مهدي عاكف (رحمه الله) في المطار، وأعد له الإخوان برنامجا حافلا باللقاءات والمحاضرات في شتى محافظات مصر، رغم أنه استقال من منصبه (المتحدث الرسمي باسم الإخوان المسلمين في الغرب) في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.. ثم دعاه الأستاذ عاكف؛ للاحتفال بخروج بعض قيادات الإخوان الذين صدر بحقهم أحكام بالسجن، عن محاكم عسكرية، أيام مبارك.. في هذا اللقاء، سأله الأستاذ جمعة أمين، نائب المرشد العام وقتذاك (رحمه الله)، عن رؤيته، وما يمكن أن يقدمه، أو يقوم به في قادم الأيام.. فأجاب الأستاذ الهلباوي بأن لديه بعض الأفكار سيقوم بترتيبها وصياغتها، في أقرب وقت ممكن.. رد عليه الأستاذ أمين: حسنا.. أرسلها إلى الأخ "فلان" (قيادي كبير) عندما تنتهي منها.. حدث ذلك، في حضور الأخ "فلان"..
خلال يومين، انتهى الأستاذ الهلباوي من إعداد الورقة المطلوبة، وأرسلها بالبريد الإلكتروني إلى الأخ "فلان"، وانتظر تحديد موعد لمناقشته فيها، ولم يتلق من الأخ "فلان" أي رد.. فاتصل به الهلباوي فلم يُجِب.. ثم عاود الاتصال به مراراً، وكان عدم الرد (في كل مرة) هو الرد.. بعد شهرين أو يزيد، التقى الأستاذ الهلباوي الأستاذ جمعة أمين الذي بادره بالسؤال: هل انتهيت من الورقة؟ فأجاب الهلباوي: نعم، وأرسلتها (بعد يومين) إلى الأخ "فلان"، ولم أتلق منه ردا، ولم يرد على اتصالاتي الهاتفية كذلك! فانزعج الأستاذ أمين، واتصل من فوره بالأخ "فلان"، فرد في التو! فسأله أمين: هل وصلتك ورقة الأخ كمال؟ فأجاب نعم.. ولم يشأ الأستاذ أمين مناقشة الأخ "فلان"، في حضور الأستاذ الهلباوي!
في هذه الفترة (فترة انتظار الرد على الورقة) التي جاوزت شهرين، لم يتلق الأستاذ الهلباوي أي دعوة من الإخوان، ونما إليه أن هناك "تعميما" بعدم توجيه دعوات إليه، من جانب الإخوان! ولم يجد الرجل سببا مقنعا لكل ذلك، فانزعج، وحزن، وتألم، وهو الشيخ السبعيني الذي قضى ستين عاما من عمره، في خدمة هذه "الدعوة"!
في تلك الأثناء، تلقف أساطين العلمانيين الأستاذ الهلباوي، واحتفوا به، وأظهروا تقديرهم له، وبالغوا في ذلك، وأكثروا من توجيه الدعوات إليه، في الأندية وفي البيوت، وكنت شاهدا على كثير من هذه اللقاءات، حتى وقع الانقلاب المشؤوم، ووجد نفسه ضيفا في قصر الاتحادية، على عدلي منصور، ثم كان اختياره عضوا في لجنة الخمسين التي وضعت دستور الانقلاب، أو "دستور" 2014 الذي تم انتهاكه قبل أن يجف مداده.
لقد ناقشت الأستاذ الهلباوي كثيرا، وحاولت استرضاءه، والتخفيف عنه، وتهوين الأمر عليه، حتى أني طلبت إلى أحد مساعدي الرئيس مرسي (رحمه الله) ترتيب لقاء للأستاذ الهلباوي مع الرئيس؛ بهدف مواساته، وإشعاره بالتقدير الذي يستحقه، فوعدني أن يفعل، ولكن الانقلاب كان أسرع (لم أخبر الأستاذ الهلباوي بذلك)..
لقد تعرض الأستاذ الهلباوي لفتنة كبيرة على يد "إخوانه" الذين لم يذكروا له شيئا يستحق أن يُكرم لأجله، على كثرة ما قدم، وهو سلوك ليس بجديد على قيادات الإخوان، للأسف الشديد، فقد ارتكبوا مثله من قبل مع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور السيد عبد الستار، وغيرهما كثر.. فانزلق الهلباوي وأبو الفتوح إلى ما انزلقا إليه..
أمنية ورجاء
قبل أسابيع قليلة رددت على علاء مبارك، يوم طلب الرحمة لأبيه في ذكرى وفاته، فقلت: "من حقك أن تطلب الرحمة لأبيك، فهذا حقه عليك، ومن حقنا (أيضا) أن نطلب من الله أن يقتص لنا منه يوم الحساب"..
ورغم خصومتي للأستاذ الهلباوي التي امتدت حتى وفاته، ها أنا أطلب من الله تعالى له الرحمة والمغفرة، ذلك؛ لأنه كان مني بمنزلة الأب، وكنت منه بمنزلة الابن، ومن حقه عليَّ أن أطلب له الرحمة والمغفرة، جزاء ما كان له من فضل متعدد الوجوه عليّ، ولقاء ما لمسته منه من عطاء وجهاد في سالف الأيام، ولا أطلب من الناقمين على الرجل من مناهضي الانقلاب أن يحذوا حذوي، بل أعذرهم في موقفهم منه، فهو الموقف ذاته الذي كنت سأتخذه تجاه أي شخص لا أعلم من سيرته سوى تأييده للانقلاب الذي هوى بمصر، فجعلها في ذيل الأمم، واستحل دماء أبنائها، فأهرقها بغير حساب.
أما وقد علمتم (أيها الأعزاء) من سيرة الرجل ما علمتم (وهو غيض من فيض)، فلا أقل من أن تمسكوا ألسنتكم عنه، إن لم تغفروا له موقفه الأخير الذي أرجو أن يكون قد تاب إلى الله منه، قبل وفاته، فما عرفت الأستاذ الهلباوي إلا مُحبا للحق رجَّاعا إليه، أوَّابا إذا أخطأ..
رحم الله الأستاذ الهلباوي، وغفر له، وأعاذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق