مصر والخليج والعرب.. فجوة القرب والنأي
يوشك الإنسان أن يفزع من فرط اختلاف أخيه الإنسان، لولا لجوؤه إلى التنميط، حيث تودع النمطية في النفس بعض السكينة التي تعين على المضي، وتدفع نحو تزجية المرحلة، مع قدر من الثقة والارتياح.
هذا دأب الناس مذ خلقوا، وهذا دأبهم الذي اشتدت وطأته بعد أن تحوّل العالم إلى بلدة صغيرة ترى أطرافها أطرافها.
كان بالإمكان أن تعمل أدوات التواصل الحديث في طبائع البشر مبدأ التروي، وتغرس في مهجهم منطق "تفهم الآخر" المختلف، الكائن، سواء قريبا أو بعيدا، بيد أنها وعلى نحو يبعث على الضجر باتت تقود نحو تكريس حالة قريبة من "النكران الثقافي" على الصعيدين الافتراضي والواقعي، بدلا من التقارب والوئام.
ما سبق لا يتنافى مع حقيقة وجود بعض الاستثناءات التوافقية المتمثلة في خطابات ومشاريع ثقافية متنوعة عابرة للمؤسسات، تنخرط في إطار تعزيز الأواصر "الإنسانية"، تتعدد في أشكال من قبيل حوار الحضارات أو حوار الأديان (حوار الأدب، الرياضة.. إلخ) وهلم جرا. ولكن حتى هذه الاستثناءات -وهنا الشاهد- تبدو ضعيفة، بل إنها ترتخي أكثر فأكثر.
في السياق العربي، فإني بعد زيارات لبلدان عربية عدة واحتكاك بمختلف أطياف الشعوب العربية ألحظ أن الفجوة التثاقفية آخذة في الاتساع، وهذه الفجوة أحددها في الفهم، في فهم بعضنا بعضا.
منذ عقود، وزماننا العربي يلفنا بضباب من الريبة، بل يطوقنا بغبار من السأم، فألفينا أنفسنا في حجاب عن بعضنا، تارة يكون شفيفا، وتارة يكون أسود فاحما. وأنا شخصيا قد اعتدت حين أفكر في إشكال راهن يجوس مدارات واقعنا، إيجاد نفسي -في الوقت ذاته- ميالا نحو تبديده، وإن على مستوى الذهن.
الفرد أولا -من حيث هو فرد- ولا سيما في مسارات الحاضر المتعثر، حقيق عليه في كل ليلة وضحاها أن يحاكم تصوراته ويقوّمها حتى تنضج، ويعيد إنضاجها مرة تلو مرة. أما التصدر لوعظ الجماهير أو "تنويرهم"، من دون بناء معرفي واع وتجارب متعددة، وبما هو -أي التصدر- من سمات زماننا، فهو عضل متداخل؛ الأمر فيه طويل الشرح، ويستعسر تفكيكه بإيجاز.
ما من مثقف يقبض بيديه زماما من أزمّة التأثير، يولد فجأة هكذا وسط النخبة. التأثير سر قدري، بينه والرؤية والرشد خيط رفيع. ونحن عندما نشهد حالات هائلة من انشطار التنظير الثقافي في خريطة العالم العربي، وتشظيه وانحساره شيئا فشيء لمصلحة التمترس "الوطني"، الذي بات المثقفون يتدافعون إلى تكريسه، نجدنا عاجزين أمام استيعاب الشرط التاريخي العربي الحاضر ومتطلباته. والنتيجة مع غروب شمس كل يوم: مزيد ومزيد من التمترس المعقد والمتعقد، إنما في هيئة عزاء بعيد، أو اغتنام معنى مفقود، أو مغالبة طواحين الهواء "الدون-كيخوتية".
على غرار سابقة معهودة لي، استجمعت السوانح، وعقدت العزائم، فقررت الذهاب إلى مصر. كنت قد زرت "المحروسة" من قبل، ولكن صيفا، أما الآن فإني ماخر عبابها شتاء. مصر عندي، وحتى عند أهلي على ضفاف الخليج العربي كأنما هي حكاية أبدية ذات عروق تمتد إلى السرمد البعيد. تسوء أحوالها، وتنوخ عليها عوادي الزمان، وتظل -مع ذلك- تحتفظ بوهج يغور في نفسها، يخلع عليها الخصوصية التي اتسمت بها ولا تزال. فإذا زانت أوضاعها، فما ثم ما يغير في شأن هذه الخصوصية، أي ليست هنالك علاقة شرطية تحدد وجودها من عدمه.
تحضر مصر في المراحل الأولى لذاكرتنا الاجتماعية في الخليج، وتحديدا لدى الأجيال التي جاءت في أعقاب مراحل التحديث في السبعينيات الميلادية، إذ يندر بشدة أن يوجد خليجي لم يختلط بالمصريين، في التعليم أو المسجد أو مختلف المعاملات الأخرى. والاختلاط والخلطة والاحتكاك وما ينشأ عنها من علاقات شتى، بين مصر والخليج والجزيرة، تضرب في القدم. وبإمكان المؤرخين تحقيبها وتصنيفها، في ضوء تطور الأنساق والنظم التي طرأت على النطاقين الجغرافيين الواقعين تحت فضاء واحد أو موحد. ولكن مما ينبغي التركيز عليه في هذا الموضع هو حقيقة أن العلاقة قد انعطفت في مسار جديد في القرن الـ19، بوصفه القرن الذي اكتنف صعود الغرب وتكريس تفوقه، مقابل تكلس الشرق ودخوله في دوامات التبعية التي مكنت الغرب أن يجعل منه خلقا آخر.
نشأت بعدئذ على الناحيتين، الخليج والجزيرة العربية، ومصر من جهة أخرى، شروط حديثة، مهدت بدورها لتشكيل إطار معين من العلاقات، يتسم بتأثره الشديد -الخفي والمتعين- من تبعات العبث الغربي في مقاييسه وأبعاده. فأول احتكاك جماعاتي -إذا صح التعبير- في هذا المسار الجديد هي حملة إبراهيم باشا -بوصفها حملة مصرية صرفة- على الحجاز ونجد وتقويضه للإمارة السعودية الناشئة في قلب الجزيرة.
وعلى الرغم من الطابع السياسي الذي غلب على هذا الاحتكاك الأول الحديث، الذي وقع في ظروف بدأت فيها الخصائص الثقافية الصغيرة للأقاليم العربية بالتشكل والبروز، وهما تشكل وبروز عرفا نتيجة الاحتكاك، بمعنى أن الاحتكاك هو من أبرزهما وكثفهما؛ رغم ذلك لم تحدث حملة إبراهيم باشا أثرا مركزيا وعميقا في ذاكرة العلاقة، وذلك لانعدام أو ندرة الهياكل المؤسسية الحاملة لقنوات التأثير، فبقي تأثيره محدودا، وتلاشى بتقادم الزمان، واضمحلّ تدريجيا مع شدة وطء التحولات الجذرية التي وقعت على البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عموم المنطقة العربية.
ولكن التاريخ يحفظ لنا حدثا آخر يوثق لنا شكلا من أشكال العلاقة بين مصر والخليج في بداية تشكيلاتها الحديثة، الموازية لتشكل الهويات الوطنية لدى كل طرف على حدة، إذ في مايو/أيار 1908 أقام مبارك الصباح حاكم الكويت كرنفالا احتفاليا تجاوز 20 يوما بمناسبة زواج ابنه حمد المبارك الصباح وحفيده عبد الله السالم المبارك الصباح، وقد استدعى فرقة مصرية يتقدمها موسيقار يدعى محمود حمدي الريماوي لإحياء الحفلات الموسيقية.
غني عن الذكر أن العلاقة قد دخلت في سيرورات أخرى لاحقة عمقت من التداخل الثقافي والاجتماعي، وأجرت عليه تنويعات جمة، ونحتت معجم هذه العلاقة. ولقد انطوت تلكم السيرورات على سمات من أهمها انتفاء التوازن بين الكيان المصري بوصفه يمثل ما يمكن أن نسميها "ثقافة مصرية"، وبين كيانات الخليج والجزيرة العربية التي تمثل هي أيضا "ثقافة خليجية" بشكل أو بآخر، سواء كانت هذه الثقافة حقيقية أو متخيلة أو منمطة. ذلك أن مصر عبد الناصر كانت قطب الرحى في التأثير والتوجيه، ولكن بعد تهاويها الذي أعقبته طفرات نفطية في بلدان الخليج، وقفزات تنموية هائلة، أصبح للخليجيين القدح المعلى في التوجيه والتأثير.
وجدتني وأنا أرمي خطوي نحو بوابة الطائرة وبدلا من التفكير: بأي حال ستكون مصر هذه المرة؟ أتساءل: ما الذي ينبغي أن يفكر فيه الذاهب نحو مصر؟ لا سيما لفتى من الخليج، يطرق أبواب ربوة شاهقة من ربى التاريخ والحضارة، أخنى عليها الدهر واستنزف كثيرا من نضارتها. هناك -كما هو معروف- التصورات الشعبية (أو الشعبوية) التي تضع مصر كلها؛ الأرض والإرث والثقافة، في مصهر الشخصية المصرية اللحظية، أي المصري المعاصر في آخر تعييناته وأحدث نسخه، بما لحقه من الظروف والأهوال. وهذا لا ريب أنه اختزال ممجوج، ومؤسف أنه قد درج عند الكثرة الكاثرة من الناس، مع أنه ليس مقصورا -بالمناسبة- تجاه مصر والمصري ممن سواهما، بل أشبه ما يكون بالحالة النسقية التي تعمّ العرب قاطبة وتسم أنظار بعضهم إلى بعض بميسم التحييد والتنميط. والأسف الآخر أن بعض المثقفين العرب قرروا الدخول في هذا النفق وأصبحوا ينسجون من خيوط ظلامه مصالحهم الآنية. ولكن العقلاء ذوي الجد لا يستمرئون الغث ولا ينساقون خلف تبدلات الأحوال التي إن ساءت حتما فإلى سالف عهدها ستؤوب، إنهم في حصن من السقوط الحر.
لم تكن زيارتي لمصر ستكون لولا حرصي أصالة على تجديد العهد بأواصر أخشى عليها أن تتصرم، وقد استنكر أحدهم زيارتي لها على اعتبار أنها أصبحت شيئا من الماضي، فلم تعد تلك البلاد التي تشدّ إليها الرحال في نظره، وأنها موجودة عندنا، فالمصريون في كل مكان، فصحت في ذهني ساعتئذ مقولة المقريزي "واعلم أن المسموع الماضي لا يكون أبدا موقعه من القلب موقع الموجود الحاضر في شيء من الأشياء، وإن كان الماضي كبيرا والحاضر صغيرا، لأن القليل من المشاهدة أكثر من الكثير بالسماع".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق