مهما كانت فجاجة المبالغات في التماهي مع عملية الانتخابات التركية، إلى الحدّ الذي بدا فيها بعضُهم تركيًا أكثر من الأتراك أنفسهم، وأردوغانيًا أشرس من أعضاء حزبه، فإنّ كلّ ذلك التعلّق بالمسألة التركية يمثل عناصر إدانة لأنظمة عربية، دفعت مواطنيها إلى الارتحال، ومن ثم انتحال وطن آخر.
لم تقتصر مسألة التعلّق بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على "الأتراك العرب" ممن وجدوا في تركيا (الأردوغانية) ملاذاً من استبدادٍ يسحق العظام، ويدهس معنى الوجود الإنساني، ويضرم النار في المفهوم الصحيح للمواطنة، ويخترع تعريفًا فاسدًا للوطن والوطنية، بل امتدّت هذه الحالة من التوّحد مع الشأن التركي إلى قطاعاتٍ ليست قليلة في دولٍ عديدة.
والوضع كذلك، بالغ بعضهم في اعتبار أردوغان مرشّح الأمة، وفوزه فوز للإسلام، فيما تطرّف آخرون في رمي كلّ من يخالف هذه الحالة العاطفية بأنّ لديه موقفًا سلبيًا من الإسلام السياسي، بل من الإسلام نفسه، لينتقل الأمر من إعجابٍ بتجربةٍ ديمقراطيةٍ تركية، أذهلت حتى المتربّصين بها، إلى امتحانٍ في مادة الدين.
لا أحد يستطيع أن يتجاهل، بمعايير براغماتية خالصة، أنّ إعادة انتخاب أردوغان وانتصاره على مرشّح دار برنامجه الانتخابي على محور واحد مُفرط في العنصرية، كانت ضرورية للغاية، ومهمّة بالنسبة لملايين من اللاجئين إلى تركيا، نزوحًا من مناطق عربية ضربها زلزال الاستبداد العنيف، ومن القسوة أن يطلب أحدٌ منهم أن يكون على الحياد مكتفيًا بالفرجة على تجلّيات التجربة الديمقراطية المبدعة. ومن الناحية الأخرى، تبدو مسألة الابتزاز باسم الدين ومصلحة الأمة التي تمارسها نخبٌ عربيةٌ تدور في فلك الرئاسة التركية شيئًا باعثًا على الدهشة الممزوجة بالرثاء أمام هذه القدرة، بل الجرأة، على كيل الاتهامات السهلة للمخالفين بالانسلاخ من قضايا الأمة.
نعم، بالمعيار الإنساني والسياسي، ليس بعيدًا عن الحقيقة أنّ انتصار أردوغان أفضل بالنسبة لملايين المستضعفين، غير أنّ ذلك لا ينبغي أن يكون وقودًا لحالة من الاستعلاء والغطرسة التي يبدو عليها أبواق الوطنية المستعارة، أو المهجنة، ممن لا يتسامحون مع كلّ من لا يرى مثلهم أنّ معركة الانتخابات التركية هي معركة الأمة، وليست شأنًا تركيًا داخليًا، مع الوضع في الاعتبار أنّ تأثيراته تمتد، كغيره من استحقاقات انتخابية في دول ذات أهمية استراتيجية، إلى خارجها.
على أن من الأهمية بمكان هنا التوّقف عند الأسباب التي أنتجت هذه الحالة داخل الشعوب العربية، والتي لا تقتصر على ذلك الجوع الشديد للديمقراطية لدى جماهير عريضة كانت على موعدٍ مع حياة ديمقراطية حقيقية، على غرار المجتمعات الحرّة، لولا أنّ أسرابًا من الأوغاد انقضّت عليها وعليهم، فاختطفتها منهم وطردتهم بعيدًا عنها.
ربما كان التصحر الإنساني الذي اجتاح دول طوق الاستبداد العربي هو الدافع الأكبر لحالة انتحال وطن آخر، على الرغم من أنه لا يخلو من قطاعاتٍ عنصريةٍ تطرح خطابًا ضد الإنسانية يجتذب جمهورًا غفيرًا (نحو 47%) من المصوّتين، ولك أن تتخيّل نازحًا عربيًا يرى في بلدٍ فيه هذه النسبة العنصرية المعادية للأجانب، مكانًا أفضل وأكثر أمانًا من وطنه الأصلي! هذا يعني بوضوح أنّ الأوطان المنكوبة بالطغاة هبطت إلى ما تحت مستوى المجتمعات الإنسانية، بحيث تبدو معها تركيا، حتى لو كان منافس أردوغان قد فاز، أكثر ملاءمةً للحياة من بلدانهم، وهنا البؤس الحقيقي في الموضوع.
ويمكن الزعم هنا إنّ خطاب خصوم أردوغان الذي ازداد عنصريةً ضد اللاجئين، ربما أسهم في شعور مجموعاتٍ من الشعب التركي، حتى من غير مناصري أردوغان، بالخوف من الذهاب إلى أزمةٍ اجتماعيةٍ تهدّد استقرار المجتمع كله، وهو ما انعكس في اتّساع فارق النسب بجولة الإعادة لمصلحة الرئيس التركي، والذي يصبح هنا مدينًا ببعض الفضل للنازحين السوريين، الذين كانوا ورقةً مهمةً في معركة الانتخابات.
وتبقى التهنئة واجبة للشعب التركي على تفوّقه في مضمار الممارسة الديمقراطية، وقبل ذلك على انحيازه للإنسانية ضد العنصرية.
يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: «لا نذكر نظاماً أنحى عليه الأوروبيون باللائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما لا نذكر نظاماً أخطأ الأوروبيون في إدراكه، كذلك المبدأ.. إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطاً، ويمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تراهما في أوروبا»(1).
هذه النظرة الغربية لمسألة تعدد الزوجات لم ينفرد بها توينبي، بل شاركه إياها العديد من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع، وحتى زعماء السياسة أدركوا فائدة التعدد، وقد كتب مارتن بورمان، نائب هتلر، وثيقة بخط يده: إن هتلر كان يفكر جدّياً في أن يبيح للرجل الألماني الزواج من اثنتين لضمان مستقبل قوة الشعب الألماني(2).
وعلى الرغم من ذلك، ينبري مثقفون ومنظمات حقوقية بأمتنا لمحاربة فكرة تعدد الزوجات، باعتبارها أحد أوجه الاستبداد ضد المرأة، وإحدى الممارسات التعسفية الجائرة التي تسلب المرأة كرامتها، وفقاً لمزاعمهم.
التعدد لم ينشأ مع الإسلام
المناهضون للتعدد يتناولونه غالباً من منطلق كونه حلقة في النظام الاجتماعي في الإسلام، ويرتكزون عليه في التلويح بالظلم المزعوم الذي نالته المرأة المسلمة، وكأن الإسلام هو من ابتكر مسألة التعدد.
وهذا إفك مفترى، فالتعدد كان موجوداً في جميع الأمم والحضارات والشرائع السابقة، فعلى سبيل المثال(3): كان قدماء المصريين يبيحون ويطبقون التعدد، منهم رمسيس الثاني، الذي وجدت أسماء زوجاته منقوشة على بعض تماثيله.
كما عرف في الحضارة البابلية والآشورية، وانتشر في فارس بعد زرادشت بغير عدد محدد، وكان موجوداً بغير حد لدى البراهمة في الهند.
وفي اليونان كذلك، وقد كان لفيليب المقدوني سبع زوجات، وكذلك الإسكندر الأكبر، وغيرهما من الملوك.
أما العرب فكان التعدد عندهم معروفاً، ويزيدون فيه على أربع، بهدف تكثير النسل وطلباً للمعونة في الحروب والرعي والتكسّب.
وجاءت به الشرائع السماوية السابقة، فقد ورد أن يعقوب عليه السلام جمع بين أربع، وكان لداود تسع زوجات، ولسليمان كذلك كثير من الزوجات كما ورد في الصحيحين، كما لم يحرم المسيح التعدد، لأنه جاء برسالة مكملة للتوراة، ولم يعارض أي مجلس كنسي في القرون الأولى التعدد حتى حرّمه مجمع نيقية عام 325م.
ورغم ذلك ترى أدعياء حقوق المرأة يهاجمون تعدد الزوجات كتشريع إسلامي، وكأن الإسلام هو من جاء بإقرار التعدد دون أن يكون أمرًا سابقا واقعًا في البشرية.
موقف الإسلام من التعدد
الإسلام قنّن التعدد وحدّده وضبطه، حيث إنه أبطل الزيادة عن أربع، كما ورد في «الموطأ»، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ الثَّقَفِي: «أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً، وَفَارِقْ سَائِرَهُنّ».
كما أنه قيّده بالعدل بين الزوجات، كما نص القرآن الكريم:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3).
وهذا العدل إنما هو في الأمور المادية كالمبيت والنفقة والمعاملة ونحوه، فهو العدل المستطاع المأمور به، وأما استدلال البعض على منع التعدد باستحالة العدل الذي فهموه من قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129)، فهو استدلال خاطئ؛ لأن الله تعالى لن يبيح التعدد المُقيّد بالعدل وهو يعلم أن تحقيق العدل محال، فلذلك ذكر المفسرون أن المراد بالعدل هو الميل القلبي.
وقد روى البيهقي في «السنن الكبرى» بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، قال: في الحب والجماع.
ظلم اجتماعي للمرأة
إن المناهضين للتعدد تحت شعارات حقوق المرأة وكرامتها ورفع الظلم عنها، إنما يوقعون الظلم بحق المرأة، ذلك لأنهم عندما يتحدثون عن الظلم الذي يلحق بالمرأة بسبب التعدد، إنما يتحدثون عن شريحة المتزوجات، فماذا عن بقية النساء، من الأرامل والمطلقات والعوانس، أليس من حقهن أن يحظين بأزواج؟ أليس في ذلك تمييز ضد هذه الشرائح من النساء؟
ولأن الحروب والصراعات غالباً ما تحصد الذكور، فمن ثم تكون محاربة التعدد عقبة في توازن نسبة الذكور للإناث في بعض المجتمعات.
مناهضة التعدد فيه ظلم للمرأة المتزوجة نفسها، إذ إن هذه الدعوات التي تملأ الدنيا صراخاً بأن التعدد يهتك كرامة المرأة، تعزز الفكرة لدى نساء قد تكون حياتهن شاقة بسبب العقم أو المرض، فمع الحاجة الماسة للرجل إلى الزواج، يحدث الصدام، وقد تؤثر الزوجة الأولى حينها أن تطلق -رغم حالتها الصحية وعقمها- على أن يتزوج عليها زوجها، وكل ذلك تأثراً بهذه الدعوة الهدّامة، التي تصور التعدد على أنه انتهاك لكرامة المرأة، بدليل أنه قبل ظهور هذه الدعوات كان الزواج الثاني في هذه الظروف يتم في هدوء وتتعايش معه الزوجة الأولى.
ومن العجيب، أن بعض النساء قد تعلم الواحدة منهن بأن زوجها يخونها، وتبقي على الحياة الزوجية، بينما تطلب الطلاق فوراً إذا ما سعى إلى الزواج الشرعي! لأن الأمر لديها متعلق بمظهرها في مجتمع أصبح يرى التعدد إهانة للمرأة، والسبب هو هذه الدعوات التي تلبس ثوب الحقوق.
لذلك أكثر من ظلمت جراء هذه الدعوة هي المرأة نفسها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
___________________
(1) حضارة العرب، جوستاف لوبون، ص 397.
(2) جريدة «الأهرام» المصرية، 13 ديسمبر، 1960م، نقلًا عن: «قالوا وقلن عن تعدد الزوجات»، محيي الدين عبدالحميد، ص 22، ويتضمن الكتاب العديد من الآراء الغربية المؤيدة للتعدد.
(3) انظر في الأمثلة المضروبة: موسوعة الأسرة تحت رعاية الإسلام، عطية صقر، ج6، ص 36-46.
الزواج في واقع العالم الإسلامي.. بين العُرف والشرع
د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
ما أكثرها! وما أبشعها! تلك الصور الفاسدة من الزواج العرفيّ الذي شاع في هذا الزمان؛ كم إنّنا بحاجة ماسّة، ليس لمراجعة ما يقع وما يشيع منها وحسب، وإنّما لمراجعة تلك الأوبئة النفسية الوخيمة التي لا تمثل الأنكحة الباطلة إلا انعكاساً من انعكاساتها الوبيلة في واقع الحياة! لقد صارت جريمة الزنى تمارَس في مجتمعات المسلمين في صور من الأنكحة العرفية، توشك أن تستقرّ فيها استقرار الزنى الصريح في المجتمعات الجاهلية، فما موقف الشرع منها؟ وهل من سبيل إلى حل هذه المعضلة؟
الزواج العرفيّ.. وحكمه
الزواج العرفيّ زواج تَعَرَّى عن الإجراءات الرسمية القانونية المدنية، فلا تسجيل في دفاتر الدولة، ولا حضور لقاضٍ أو مأذون، ولا استخراج لأوراق رسمية تثبت الزواج، وتضمن حقوق الزوجين وأولادِهما الذين سينحدرون من هذا الزواج، وسُمِّي عُرفيًّا لكونه ينعقد في مجالس غير رسمية، تُسمى عادة بالمجالس العرفية، وليس لجريان العرف به، فإنّ العرف الغالب جرى بعكسه، وقد تباينت صورُه وأشكاله، بدءًا من النّكاح الذي يحضره الشهود العدول والوليُّ ويُجريه ثِقَةٌ يفقه النكاحَ وما يُشترط له، وانتهاءً بتلك الصور الساقطة التي لا يتحقق فيها شرط واحد من شروط النكاح الشرعيّ فضلاً عن الأركان الأساسية.
فإن استوفى العقدُ أركانه وشروطه وَسَلِمَ من المبطلات؛ فهو عقد شرعيّ تترتب عليه كل آثار النكاح، من قيام الزوجية، وحلّ الاستمتاع بين الزوجين، وثبوت النسب للولد، وثبوت المهر والنفقة والتوارث، وانتشار الحرمة بالمصاهرة، وغير ذلك، ويبقى على الزوجين واجبات إن اختلت لا تضر بصحة النكاح، كاتخاذ إجراءات على وجه الاستدراك؛ لضمان الحقوق المدنية للزوجة والأولاد، وحماية الأسرة من مشكلات الضياع في متاهات الحياة خارج التَّرسيم، هذا إذا وقع النكاح مستوفياً الشروط والأركان.
أمّا إذا فقط شرطاً أو ركناً أو تَلَبَّس بمانع فهو نكاح باطل يجب فسخه، وإذا وقع دخول بعقد فاسد كهذا؛ فإنّ هذا العقد يكون شُبهةً، والشبهةُ إمّا أن تسقط الحد وتمحو وصف الزنى، وإمّا أن تسقط الحدَّ ولكن لا تمحو وصف الزنى، وإمّا ألا تقوى على إسقاط الحد أصلاً، ففي الحالة الأولى يَثْبُت المهر ونَسَبُ الولد، وفي الحالة الثانية يثبت المهر أيضاً، وعند الكثيرين يثبت نسب الولد -على خلاف الأصول- احتياطًا لحق الولد، وفي الحالة الثالثة لا ثبوت لمهر ولا نسب، ويثبت حدّ الزنى عليهما بشروطه المعروفة، وفي جميع الحلات يُفسخ العقدُ ويُفَرَّق بينهما في الحال، وتعتدّ المرأة -على خلاف في بعض الحالات- للاستبراء، هذه هي الجمل الثابتة في المسألة، جُلُّها متفق عليه وبعضها راجح رجحاناً قوياً.
ثوابت عقد النكاح بين الشروط والأركان
اختلف الفقهاء في تصنيف الأركان والشروط، لكن من تأمّل أقوالهم لم يجد بينهم في أصل المسألة كبير خلاف، فما لا يَعُدُّه الكثيرون من الأركان أدرجوه ضمن الشروط، والأركان والشروط فئتان متقاربتان؛ لأنّهما تشتركان في أنّ عَدَمَهما يَلْزَم منه عدمُ العقد وبطلانُه، وما لا يَعُدُّه البعض شرطَ صحة وُضِعَ من الأحكام ما يجعله شرط نفاذ أو شرط لزوم؛ مما يجعلنا نخرج بسهولة من الخلافات الجزئية التفصيلية إلى جملة من الثوابت التي لا بد من توافرها في عقد النكاح العرفيّ حتى يصح، وهذا بيانها:
– إيجابٌ وقبولٌ تامّان واضحان متوافقان، ومتصلان في مجلس واحد، ومستوفيان شروط الانعقاد.
– الزوج أو وكيله ووليّ الزوجة أو وكيله، واشتراط الوليّ هو قول الجمهور، وهو الراجح الصحيح، وقول الحنفية يُحْتَرم؛ فمن عمل بمذهبهم فإنّ للوليّ عندهم طلب الفسخ في حالات منها عدم الكفاءة.
– الشاهدان؛ ويشترط في الشاهدين ما يشترط في الشهود في أحكام القضاء في الإسلام.
– الإعلان؛ فلا بد من إعلان النكاح، ولا يكفي الشاهدان لتحقق شرط الإعلان على الراجح الصحيح، ولا سيما إذا وقع تواطؤ على الكتمان؛ لأنّ النكاح وما يترتب عليه من أحكام أمرٌ اجتماعيّ.
– ألَّا يقوم مانعٌ؛ كثبوت الحرمة بين الزوجين بأيّ سبب من نسب أو رضاع أو مصاهرة.
– المهر؛ فالأصل أنّ لها الْمُسَمَّى في العقد أو قبله، فإن لم يُسَمّ مهرٌ ثبت لها مهر المِثْل لا وكس ولا شطط، فإن تزوجت المرأة بلا وليّ بطل الزواج عند الجمهور، أمّا عند الحنفية فيصح، لكن إن زوجت نفسها بأقل من مهر المثل فلوليّها حق طلب الفسخ أو رفع المهر إلى مهر المثل على خلاف بينهم في المذهب، وفي النهاية لا يجوز الاتفاق على إسقاط حقها في المهر.
أنكحة باطلة هي إلى الزنى أقرب
وإذَنْ؛ فكيف يكون نكاحاً ذلك الذي يقع بكثرة مزعجة في أيّامنا هذه، ولا يتوافر فيه شروط وأركان رئيسة لا يمكن القول بصحة النكاح -ولا حتى بسقوط الحدّ أو انتفاء وصف الزنى- مع عدمها وافتقادها، فهذه، مثلاً، فتاة قابَلَتْ شاباً في شارع مشهور فأعجبته وأعجبها، فقررا ألا تغرب شمس اليوم إلا وقد شملهما فراش الزوجية وأحاطهما بغطائه ووطائه، فانعطفا إلى أقرب مقهى، فأجلسها وطلب لها «النسكافيه» ثم خرج مسرعاً؛ فما لبث أن جاءها يسعى ومعه شخصان لا تعرف عنهما أكثر مما تعرفه عن ذلك الذي ستنزلق تحته بعرضها وشرفها بعد ساعة أو أقل، وسرعان ما نطقا بكلمتين مما يتردد في مجالس العقود الشريفة، ثم ما لبث أن أخرج من جيبه قلماً وورقة، وسَطَّر ذلك الإثم، ليُوَقِّع هذان الفاسقان في أدناه؛ ولينطلق بها من فوره إلى مخدعه، وما هي إلا شهور قلائل حتى جاءتني المسكينة لتشكو لي «زوجها!» الذي طار ولم تعرف له أرضاً.
وبعد لأْيٍ وصلت إليه وناشدته الله أن يصلح ما أفسد، فأنكرها وأنكر ما حملته في بطنها معها، ولم تكن تلك الواقعة إلا واحدة مما تعرضنا له في محيطنا على ضيق أرضه وانخفاض سمائه، والنتيجةُ ضياعٌ وهلكة، وفواحشُ تُرتكَب بالتحايل على شرع الله تعالى.
وخلاصة القول: إنّه يستحيل في محكمات الدين وثوابت الملة وعرائس الشريعة الواضحة أن يصح عقد نكاح خلا من الوليّ والشهود العدول والإعلان في وقت واحد، وهذا أغلب ما يقع فيما يسمى كذباً بالزواج العرفيّ، ولا يشفع لبعضها أن جُلبت لها شهود من رعاع الشوارع وصعاليك الأزقة.
أنكحة عرفية جديدة لم تسلم من البطلان
لن أخوض في الخلاف الدائر حول مدى صحة زواج المسيار والزواج مع إضمار نية الطلاق وغير ذلك من ألوان الأنكحة التي شاعت أخيراً، فالخلاف فيها معتبر ومحترم، وإن كان الاحتياط بتركها أولى؛ إذْ الأصل في الأبضاع والذبائح الحرمة على خلاف الأصل العام في سائر العادات، لكنّني سأتطرق إلى موطن الخطر الحقيقيّ، حيث يجري التساهل في الضوابط والشروط التي وضعها القائلون بحل هذه الأنكحة، والأصل أن ما جاز بتَقَحُّم الرخص لا يصح التوسع فيه بتخطي الضوابط، وسأقف فقط عند مثال واحد، وهو أنّ بعضاً ممن يمتطون صهوة الحكم بجواز النكاح مع إضمار نية الطلاق، يسافرون إلى بلد من بلاد شرق آسيا الفقيرة، فينكح الواحد منهم فتاة، ولا يصرح في عقد النكاح بما أضمره من نية الطلاق، ويعيش معها مدة سياحته في هذا البلد، ثم يطلقها بعد أن يعطيها «مهرها!»، ثم يرجع كأن لم يكن شيء! اعتماداً على القول بصحة هذا النكاح ما دام لم يصرح بالتأقيت في عقد النكاح.
فعلى التسليم بصحة الفتوى في أصلها؛ فإنّ هذا النكاح نكاح متعة، وهو باطل بلا ريب، صحيح أنّه لم يُصَرَّح بشرط التأقيت في عقد النكاح، لكنّ العادة جرت في هذه البيئات بهذا، فهو معروف عندهم ومعتاد بينهم، يستقبلون عرباً أثرياء، فيُنكحونهم بهذه الطريقة، والطرفان يعلمان بما يجري، وربما اتفقا عليه قبل العقد صراحة، وحتى لو لم يجر اتفاقهم فقد جرى به عرفهم، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فهذا نكاح متعة يقع بالحيلة، والسيئة تضاعف مع الذريعة؛ لأنّها تلاعب بالشريعة.
العلل والأدواء التي تقود إلى هذه الموبقات
ليس وراء كل هذه الظواهر الرديئة إلا تيارات الشهوات التي تهبّ على المسلمين عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وليس لهذه الأدواء من دواء إلا عبر مسارين متلاحمين؛ الأول: تيسير النكاح، والثاني: بث روح المقاومة للشهوات، حيث إنّها غزوٌ أخطر من الغزو العسكريّ، والله المستعان.
عندما أجد وكالة الأنباء الرسمية التركية «الأناضول» تنشر مؤخراً «معلومة» عن الميليشيات العربية المسلحة المدعومة من «إيران»؛ وتكشف فيها عن أن قوات الدعم السريع في السودان بقيادة «حميدتي» مدعومة من «إيران»،
فإن هذه «المعلومة» تثير مخاوفي كباحث عن تلاعب «إيران» بالأمن القومي السوداني وما يتبعه من مخاطر محتملة على «الأمن القومي المصري»؛
عهدنا مع «إيران» محاولات فاشلة في ملاعبة مصر والسودان بالورقة العقدية أو الإعلامية أو الاقتصادية أو حتى السياسية؛
لكن استحداث الملاعبة العسكرية المباشرة على خطوط التماس فهذه «إستراتيجية خطيرة» لم نعهدها من قبل على آليات المد الشيعي في مصر والسودان.
لم يكن الموقع الإستراتيجي لدولة هاييتي في بوابة خليج المكسيك، على مقربة من الحدود الجنوبية الشرقية للولايات المتحدة بحوالي ألف كلم مربع، وإطلالتها على ممرات مائية إستراتيجية تشبه كثيرا إطلالة تايوان على الممرات المائية في بحر الصين جنوب شرق الكرة الأرضية، ولم تكن العلاقة التاريخية التي تربط الولايات المتحدة بهاييتي منذ تأسيسها عام 1804 كثاني جمهورية في غرب الكرة الأرضية، بعد الولايات المتحدة التي بسطت هيمنتها على مختلف شؤون دولة هاييتي السياسية والاقتصادية والأمنية، ولم يكن الجانب الإنساني وارتفاع معدل هشاشة الدولة وكثرة الكوارث الطبيعية وقوافل اللاجئين الهاييتيين إلى الولايات المتحدة؛ لم تكن هذه الأسباب هي ما جعل الإدارة الأميركية تضع هاييتي على رأس قائمة الدول الهشّة في خطتها الإستراتيجية القادمة لإيقاف الصراع وتعزيز الاستقرار، ولكن الأسباب الحقيقية تكمن في صراع المصالح الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة مع منافسيها، وهي هذه المرة ليست مع الاتحاد السوفياتي، وإنما في مواجهة الصين التي اعترفت الولايات المتحدة بأنها أصبحت المنافس الأكبر لها في المرحلة الحالية.
حذّر الكونغرس من الآثار المترتبة على زعزعة الاستقرار داخل هاييتي ودول البحر الكاريبي، ومن أنه قد يدفع هاييتي لفتح أبوابها للتدخل السياسي من قبل الصين. وكتب المشرّعون أن الحزب الشيوعي الصيني سيسعى إلى الاستفادة من الاضطرابات السياسية في هاييتي لزيادة تهميش المصالح الأميركية والتايوانية
دعم دولي وأميركي متواصل
تعمل الأمم المتحدة في هاييتي منذ عشرات السنين، عن طريق 19 وكالة وصندوقا تابعا لها، بالإضافة إلى منظمة الصحة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمنظمة الدولية للهجرة (IOM). وفي الفترة من 2001 إلى الآن، قدّمت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي حوالي 6 مليارات دولار كدعم إغاثي لهاييتي ضمن برامج الأمم المتحدة السنوية، لا يشمل الدعم المقدّم لمواجهة الكوارث الطبيعية من زلازل وأعاصير، والذي تجاوز 9 مليارات دولار لمواجهة زلزال 2010. الولايات المتحدة قدمت في السنوات العشر الماضية مساعدات لهاييتي بلغت حوالي 5 مليارات دولار، وهذا يُظهر أن الدعم الدولي لم يتوقف، ولكنه لم ينقذ الشعب الهاييتي من دوامة الهلاك التي يغرق فيها، بسبب عجز المجتمع الدولي عن إيجاد حلول قادرة على إيقاف النزاع ومحاربة الفساد والجريمة وتحقيق الاستقرار. فهل كان هذا الفشل السبب في قيام الإدارة الأميركية بوضع هاييتي على رأس قائمة الدول التي ستعمل على معالجة هشاشتها في السنوات العشر القادمة؟
في أعقاب الزلزال الذي ضرب هاييتي عام 2010، وراح ضحيته حوالي 300 ألف شخص، وتسبب في تشريد حوالي 1.5 مليون إنسان؛ قدّمت الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم أكثر من 5 مليارات دولار من المساعدات، تحت عنوان "برامج التعافي وإعادة الإعمار والتنمية على المدى الطويل"، وذلك قدّم للشعب الهاييتي ما يأتي، بحسب تقرير وزارة الخارجية:
توفير ما يقرب من 14 ألف فرصة عمل.
تمكين حوالي 70 ألف مزارع من تحسين غلّات محاصيلهم من خلال إدخال البذور المحسّنة والأسمدة والري والتقنيات الحديثة.
المساهمة في تقوية الشرطة وتوسيعها إلى أكثر من 15 ألفا و300 فرد.
تقديم برامج لتحسين تغذية الأطفال وتقليل نسبة وفياتهم، وتحسين الوصول إلى الرعاية الصحية للأمهات، والمساهمة في احتواء انتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، الذي يزداد بشكل متسارع وصل إلى 8 أضعاف في السنوات الثماني الأخيرة بحسب الأمم المتحدة.
إيصال خدمات الرعاية الصحية الأساسية إلى أكثر من 160 مركزًا صحيًا في جميع أنحاء هاييتي.
يذكر تقرير الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة تعتبر الشريك التجاري الأكبر لهاييتي، وتشارك في قطاعات استثمارية عديدة كالبنوك وشركات الطيران والنفط والشركات الزراعية، بالإضافة إلى مصانع تجميع المعدّات المملوكة للولايات المتحدة. وتعتبر السياحة والإمدادات والمعدات الطبية وتحديث البنية التحتية وإنتاج الملابس؛ من مجالات الفرص الاستثمارية للشركات الأميركية في هاييتي.
إذا كانت الولايات المتحدة تعتقد أنها حققت للشعب الهاييتي الكثير من الإنجازات على نحو ما سبق، فهذا يجعلنا نتساءل من جديد عمّا ستحققه في السنوات العشر القادمة في هاييتي، مما لم تستطع هي والمجتمع الدولي تحقيقه على مدى العقود السابقة؟
تعد جهود الصين في منطقة الكاريبي جزءا من إستراتيجيتها العالمية لإقامة علاقات اقتصادية عميقة وعلاقات دبلوماسية قوية حول العالم، عن طريق بناء مشاريع بنية تحتية كبرى
المنافس الصيني
وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مباشرة مع الصين في دول البحر الكاريبي، بعد التحركات العديدة التي قامت بها هناك، والتي تضاف إلى تحركاتها في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا، وتعزز من قدرات الصين السياسية والاقتصادية في مواجهة الولايات المتحدة.
وكما تدخلت الولايات المتحدة في هاييتي في فترة الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي تسلل إلى تلك المياه الدافئة عن طريق كوبا الماركسية، فإنها تعمل على إعادة تموضعها من جديد في هاييتي في مواجهة التسلل الصيني إلى المنطقة. ففي ربيع عام 2020، وفي خضم جائحة كورونا، أرسلت الصين شحنات من المعدات الطبية لمكافحة فيروس كورونا إلى هاييتي، فيما اعتبرته الولايات المتحدة محاولة من الصين لتعزيز علاقاتها في المنطقة عن طريق التبرعات، ضمن ما يُعرف بـ"دبلوماسية القناع".
كانت الصين قبل ذلك قد قدمت لدولة جامايكا -وهي ضمن جزر الأنتيل الكبرى في خليج المكسيك جنوبي كوبا- قروضًا وخبرات لبناء أميال من الطرق السريعة الجديدة، كما تبرعت في جميع أنحاء منطقة البحر الكاريبي بمعدات أمنية لقوات الجيش والشرطة، وأنشأت شبكة من المراكز الثقافية الصينية، وأرسلت شحنات كبيرة من مجموعات الاختبار والأقنعة وأجهزة التنفس الصناعي لمساعدة الحكومات على الاستجابة لجائحة كورونا.
وقد نظرت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بقلق شديد إلى هذا الوجود الصيني المتزايد في المنطقة، واعتبرته تحدّياً مباشراً لنفوذ واشنطن فيها، حيث يرى المحللون في الولايات المتحدة أن المنطقة لها أهمية إستراتيجية كبيرة كمركز للخدمات اللوجستية والبنوك والتجارة، ويمكن أن تكون لها قيمة أمنية كبيرة بسبب قربها من الولايات المتحدة.
تعد جهود الصين في المنطقة جزءًا من إستراتيجيتها العالمية لإقامة علاقات اقتصادية عميقة وعلاقات دبلوماسية قوية حول العالم، عن طريق بناء مشاريع بنية تحتية كبرى في إطار مبادرة الحزام والطريق الطموحة. وقد بلغت القروض المنخفضة الفائدة التي قدمتها الحكومة الصينية لدول منطقة الكاريبي وفنزويلا على مدى الـ17 عامًا الماضية، حوالي 62 مليار دولار، تم منح الكثير منها مقابل إمدادات النفط الطويلة الأجل.
في الفترة نفسها، استثمرت الشركات الصينية في الموانئ والخدمات اللوجستية البحرية والتعدين والنفط وصناعات السكر والأخشاب والمنتجعات السياحية والمشاريع التكنولوجية، مما ساهم في زيادة التجارة بين الصين ومنطقة البحر الكاريبي بمعدل 8 أضعاف بين عامي 2002 و2019.
وقد صعّدت الولايات المتحدة تحذيراتها للحلفاء في المنطقة بشأن مخاطر التعامل مع بكين، مؤكدة أنها مخاطر محتملة ما بين البناء الرديء والقروض الجائرة والتجسس.
وبعد اغتيال الرئيس الهاييتي جوفينيل مويز قبل عامين، أرسل المشرعون الجمهوريون توم تيفاني و"سكوت بيري" من كتلة تايوان في مجلس النواب الأميركي، خطابًا إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، يحذّر من الآثار المضاعفة المحتملة لهذا الاغتيال على الاستقرار داخل هاييتي وعبر المنطقة الأوسع، ومن أنه قد يدفع هاييتي لفتح أبوابها للتدخل السياسي من قبل الصين. وكتب المشرعون أن الحزب الشيوعي الصيني سيسعى إلى الاستفادة من الاضطرابات السياسية في هاييتي لزيادة تهميش المصالح الأميركية والتايوانية.
عندما تلقّت إدارة الرئيس جو بايدن تكليف الكونغرس -فور استلامه السلطة في البيت الأبيض- بإعداد خطة إستراتيجية تنفيذية لمعالجة الهشاشة لمدة 10 سنوات، لم يكن يعطي هاييتي أدنى اهتمام، وهو صاحب الرأي بأن هاييتي لو غرقت في البحر الكاريبي فإنها لن تؤثر على المصالح الأميركية. إلا أن التغيرات التي حصلت في إستراتيجية الدفاع الأميركية في عهد الرئيس بايدن على الجبهتين الروسية والصينية، وتصاعد المواجهة الأميركية على كلا الجبهتين، أعادت الحسابات من جديد تجاه هاييتي، وخاصة في ضوء التقارير الواردة لها عن النشاط الصيني المتنامي في دول البحر الكاريبي على وجه الخصوص، لتصبح على رأس قائمة الدول الهشة في إستراتيجية الإدارة الأميركية للسنوات العشر القادمة، فماذا وضعت إدارة الرئيس بايدن في خطتها الإستراتيجية تجاه هاييتي؟
59 عامًا على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية... من التحرير إلى المفاوضات
سامي عبد الرحمن
تحتفل منظمة التحرير الفلسطينية هذه الأيام بمرور 59 عامًا على انطلاقها وتكوينها، لتكون جسمًا يمثل الفلسطينيين ويعبّر عنهم بشكل رسمي أمام العالم العربي، قبل أن يتم الاعتراف بها لاحقًا دوليًّا، غير أن هذه المؤسسة تُستغل من أطراف متنفذة في سلطة أوسلو.
أُنشئت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 عقب قرار صدر من القمة العربية الأولى التي عُقدت بالقاهرة، قبلها كانت فلسطين تمثَّل في الجامعة تمثيلًا شكليًّا منذ تأسيسها عام 1945، وتزايد هذا التمثيل وعظم الاهتمام به بعد حرب 1948 وما تبعها من إقامة الدولة الإسرائيلية.
وكلّفَ مؤتمر القمة العربية الأول ممثل فلسطين أحمد الشقيري بتقديم تصور للقمة الثانية عن إنشاء كيان يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، وأسفرت جهود الشقيري من خلال زيارته للعديد من التجمعات الفلسطينية المنتشرة في الدول العربية عن انتخاب "المجلس الوطني الفلسطيني"، الذي يعد بمثابة السلطة التشريعية للمنظمة.
اُختيرت القدس كمقرّ لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما قرر المؤتمر إعداد الشعب الفلسطيني عسكريًّا وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني.
عُرف المؤتمر باسم المجلس الوطني الفلسطيني الأول لمنظمة التحرير، وحضر المؤتمر 242 ممثلًا فلسطينيًّا اختارتهم حكومات عربية هي الأردن وسوريا ولبنان ومصر والكويت وقطر والعراق، وقد انتخب هذا المؤتمر أحمد الشقيري رئيسًا له، وانتخب كل من حكمت المصري من نابلس وحيدر عبد الشافي من غزة ونقولا الدّر من لبنان نوّابًا للرئيس.
اُختيرت القدس كمقرّ لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما قرر المؤتمر إعداد الشعب الفلسطيني عسكريًّا، وإنشاء الصندوق القومي الفلسطيني يرأسه ابن مؤسس البنك العربي عبد المجيد شومان، لجمع الأموال من الحكومات العربية ومن اللاجئين الذين طُلب من كل منهم الإسهام بربع دينار كل سنة (حوالي دولار واحد).
وخرج المؤتمر بالنص التالي: "إيمانًا بحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه المقدس فلسطين، وتأكيدًا لحتمية معركة تحرير الجزء المغتصب منه وعزمه وإصراره على إبراز كيانه الثوري الفعّال وتعبئة طاقاته وإمكاناته وقواه المادية والعسكرية والروحية، وتحقيقًا لأمنية أصيلة من أماني الأمة العربية ممثلة في قرارات جامعة الدول العربية ومؤتمر القمة العربي الأول، نعلن بعد الاتكال على الله باسم المؤتمر العربي الفلسطيني الأول المنعقد بمدينة القدس في 28 مايو/ أيار 1964".
وتضم منظمة التحرير في عضويتها كل من حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وحزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني "فدا"، والجبهة العربية الفلسطينية، وجبهة التحرير العربية، وجبهة التحرير الفلسطينية، وجبهة النضال الشعبي وحزب الشعب الفلسطيني، ومنظمة طلائع حرب التحرير الشعبية (الصاعقة)، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة).
مرحلة ما بعد التأسيس.. الكفاح والثورة والمعارضة
اعتمدت المنظمة بعد انطلاقها على ركنَين أساسيَّين، أحدهما فلسطيني والآخر عربي، تمثلا في موافقة الحكومات العربية على الاعتراف بهذا الكيان ودعمه، وأسفرا عن إنشاء مقر المنظمة في القدس، وتأسيس الدوائر، وفتح المكاتب في العواصم العربية، ونشوء جيش التحرير الفلسطيني والتنظيم الشعبي.
اقتصرت اهتمامات المرحلة الأولى على المسائل المتعلقة مباشرة بمتطلبات النضال السياسي والعسكري والنشاطات التعبوية التي تخدم تلك الاهتمامات، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن المنظمة كانت تنظيمًا معنويًّا مُنع من ممارسة سلطة شرعية كافية على الفلسطينيين.
إلا أن المنظمة بقيادة الشقيري نجحت في أن تحتفظ بوجودها، فقد استمرت واستقطبت اهتمام القوى الفلسطينية، ولئن تحولت دورات المجلس الوطني الثلاث في فترة الشقيري في أقلّ تقدير إلى ندوات واسعة للعمل السياسي، فإن وجود المنظمة نفسه والأنشطة التي حفزتها أسهما في زيادة وزن العمل الوطني الفلسطيني.
عززت هزيمة 1967 مكانة المنظمات الفدائية، وحطّت من مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب ارتباط رصيدها برصيد الأنظمة العربية التقدمية، ولقيت المقاومة الفلسطينية تأييدًا جماهيريًّا.
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية في سنواتها الأولى مستقلة ذاتيًّا، بل كانت في حاجة إلى المداورة بحذر لكي تضمن بقاءها، وهو ما نجح أحمد الشقيري في إنجازه، إذ لم يجعلها أداة في النزاعات العربية، وهو يلمّح إلى ذلك قائلًا: "ولدت المنظمة على فراش مؤتمر القمة، أسيرة الظروف العربية".
إلا أن فترة قيادته شهدت خلافات مع الأردن خاصة، لكن الوساطة العربية أفلحت في وقف الحملات الإعلامية بين الطرفَين، وبادر أحمد الشقيري إلى زيارة الأردن في نهاية عام 1965، غير أن زيارته لم تفلح بل ازدادت حملة الأردن على المنظمة، حتى أنه طالب بحلّها في يونيو/ حزيران 1966 وتشكيل منظمة أخرى وفق أُسُس جديدة، ليصبح الكيان الفلسطيني عاملًا إيجابيًّا.
في 5 يونيو/ حزيران، بدأت "إسرائيل" عدوانها على مصر والأردن وسوريا، واحتلت سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، فأمست فلسطين كلّها تحت سيطرة "إسرائيل"، واجتاحت العالم العربي عقب هزيمة يونيو/ حزيران 1967 موجة من النقد الذاتي.
بعيد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، عُقد مؤتمر الخرطوم في 29 أغسطس/ آب الذي شهد اقتراح أحمد الشقيري إصدار قرارات تطالب بالوفاء بالالتزامات المالية تجاه المنظمة وجيش التحرير الفلسطيني، تمكِّن المنظمة من تحمل مسؤوليتها عن تنظيم الشعب الفلسطيني، وتعزيز جيش التحرير الفلسطيني واستكمال سلطتها عليه، وإنشاء معسكرات لتدريب الفلسطينيين في الدول العربية بالتعاون مع المنظمة، وتمكين هذه الأخيرة من استيفاء ضريبة التحرير من الفلسطيني.
وغادر أحمد الشقيري ووفد المنظمة المؤتمر، ورفضا كافة محاولات إعادتهما إليه إثر رفض القمة العربية لاقتراح "ألا تنفرد أية دولة عربية بقبول أية تسوية للقضية الفلسطينية"، ورفض الموافقة على اقتراح "الدعوة إلى مؤتمر قمة عربي، للنظر في أي حلول مقترحة مستقبلًا للقضية الفلسطينية، وتحضره المنظمة".
عززت هزيمة 1967 مكانة المنظمات الفدائية، وحطت من مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب ارتباط رصيدها برصيد الأنظمة العربية التقدمية، ولقيت المقاومة الفلسطينية تأييدًا جماهيريًّا، بل اكتسبت "صفة تمثيلية" للشعب الفلسطيني في إطار ترجيح فكرة الحرب الشعبية لمواجهة الوجود الصهيوني، لا سيما أن احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة وسّع خطوط مواجهتها، وبينما اتخذ أحمد الشقيري موقفًا متصلّبًا في قمة الخرطوم، كان ياسر عرفات في الأراضي المحتلة (الضفة الغربية) يحاول إقامة بنية تحتية لـ"حركة فتح" لمقاومة الاحتلال.
عام 1996 اُنتخب ياسر عرفات رئيسًا لمناطق الحكم الذاتي أو ما يعرف حاليًّا بـ"السلطة الفلسطينية"، وفي العام نفسه غيّرت منظمة التحرير الجُمل والعبارات الموجودة في ميثاقها الداعية إلى القضاء على "إسرائيل"
تنامت حركة المقاومة الفلسطينية في أعقاب حرب 1967، فأصبح العامل الفلسطيني للمرة الأولى منذ نكبة 1948 مهمًّا وفعّالًا في الصراع، واطّرد العمل الفدائي، وطرحت ظاهرة تعدد التنظيمات الفدائية نفسها في ساحة النضال الفلسطيني، فأُعلن تشكيل تنظيمات جديدة، وجُهِرَ بتلك التي كانت سرّية منها، فبدأت تنضم إلى حركة فتح جماعات فدائية، وحالفت تنظيمات أخرى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورافق ذلك محاولة منظمة التحرير الفلسطينية شقّ طريقها، وتثبيت وجودها في ساحة النضال الفلسطيني.
وتزعّمت حركة فتح، في أعقاب الحرب واستقالة الشقيري، المطالبة بتجديد المنظمة، ورفعت شعار استبدال قادة الكفاح المسلح بـ"ثوار المكاتب"، وأصبحت في تقدير عبد الناصر أخلص الجماعات الفلسطينية، وأقدرها على تولّي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
تبدُّل المسار.. كيف وصلت المنظمة إلى هذا الخيار؟
شهدت بداية التسعينيات من القرن الماضي تكوُّن وضع دولي جديد إثر انهيار موازين القوى عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وحدوث انقسام في الموقف العربي بعد أزمة احتلال العراق للكويت وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية للموقف العراقي، ما أدّى إلى فرض حصار مالي وسياسي على منظمة التحرير الفلسطينية التي فقدت بعضًا من التضامن العربي، إذ انعكست كل المتغيرات الدولية والإقليمية على القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير، وجعلتها تسير في ركب التسوية.
في عام 1991، أتيحت فرصة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة خطتها المتعلقة ببدء عملية سلام ناجحة في الشرق الأوسط، وفي هذا الشأن جاء في تقرير لمعهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية: "في أعقاب عاصفة الصحراء، تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية من حيازة نقاط قوة فريدة، منتصرة في حرب الخليج الثانية، مكّنتها بوصفها قوة عظمى وحيدة أن تحقق أكثر ممّا حققته في الماضي".
تصويت المجلس الوطني الفلسطيني عام ١٩٩٨ بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون
استغلت واشنطن الفرصة الذهبية، ونظمت مؤتمرًا دوليًّا للسلام في مدريد عام 1991، وفي هذا المؤتمر تحدثت "إسرائيل" مع جيرانها العرب أول مرة بحضور الفلسطينيين أيضًا، وكانت رؤية الإدارة الأميركية لعملية السلام في الشرق الأوسط مبنية على ضرورة إيجاد حل ما للصراع العربي-الإسرائيلي، خاصة أن منظمة التحرير التي حملت لواء الكفاح المسلح ضد "إسرائيل" طوال عقدَين ونيف من الزمن، تمّ إلحاقها بعربة التسوية السلمية التي انطلقت في مدريد عام 1991.
وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 على اتفاق "إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي.. أوسلو"، في حديقة البيت الأبيض بواشنطن، الذي كان عبارة عن إعلان مبادئ على إجراء مفاوضات للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة على مرحلتَين.
وفي عام 1996 اُنتخب ياسر عرفات رئيسًا لمناطق الحكم الذاتي أو ما يعرَف حاليًّا بـ"السلطة الفلسطينية"، وفي العام نفسه غيّرت منظمة التحرير الفلسطينية بصورة رسمية الجُمل والعبارات الموجودة في ميثاقها الداعية إلى القضاء على دولة "إسرائيل"، وتعهّد عرفات بمحاربة الإرهاب.
وفي 14 ديسمبر/ كانون الأول 1998، تمَّ شُطب 12 بندًا من أصل 30 وتغيير جزئي في 16 بندًا، في تصويت المجلس الوطني الفلسطيني بأغلبية ثلثَي المقاعد في الجلسة التي حضرها الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون في غزة.
منظمة غير جامعة.. فصائل خارجها
لم تعد منظمة التحرير تحظى بذاك الإجماع السابق فلسطينيًّا، لا سيما بعد توقيع اتفاقية أوسلو وتغيير المبادئ وحذف جميع البنود التي تنص على الكفاح المسلح، فضلًا عن أن تشكُّل حركات مقاومة فلسطينية جديدة محسوبة على التيار الإسلامي مثل حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس ساهم في ذلك.
علاوة على ذلك، إن فشل تنفيذ اتفاقيات المصالحة التي وُقّعت منذ عام 2011 وحتى الآن، والتي يقدّر عددها بنحو 10 اتفاقيات، جميعها يدور حول دمج حركتَي الجهاد الإسلامي وحماس بالمنظمة، وإجراء انتخابات مجلس وطني حيثما يمكن في الداخل والخارج؛ أدّى إلى جعل المنظمة مجرد ورقة تتلاعب بها حركة فتح.
ويوجد حالة من الإجماع فلسطينيًّا على أن المنظمة مجرد جسم صوري يتم استحضاره لتمرير بعض القرارات والإعلانات التي يرغب بها رئيس السلطة محمود عباس، خصوصًا مع عدم إجراء أي انتخابات جديدة وتأجيل الانتخابات الأخيرة بحجّة عدم التمكن من إجرائها في القدس.
في الوقت ذاته، إن وجود بعض الدوائر القيادية في جسم المنظمة كالدائرة العسكرية تثير سخرية الفلسطينيين، خصوصًا أن المنظمة لا تمتلك جيشًا حقيقيًّا كما كانت حينما انطلقت، فضلًا عن ضمّها لأحزاب قد تبدو مجهولة في أوقات كثيرة، وتحضر فقط في أوقات الحديث عن اتفاقيات سياسية وخطابات رئاسية.
بالتوازي مع ذلك، أهملت المنظمة الفلسطينيين في الخارج، حيث شهدت السنوات العشر الأخيرة تحركات قام بها فلسطينيو الخارج لعقد مؤتمرات ولقاءات تضمّ شخصيات فلسطينية وبالشراكة مع فصائل فلسطينية، بحيث تثير قضاياهم وتعمل على تحريك الملف الفلسطيني.
لا يبدو أن ثمة تغييرًا حقيقيًّا في واقع منظمة التحرير بحيث تتحول إلى جسم يعبّر عن الفلسطينيين أولًا، خصوصًا أن المشهد الراسخ خلال العقدَين الماضيَين يدل على أن السلطة هي من تتحكم بالمنظمة وليس العكس.
وتتصاعد بشكل دائم المطالبات الفلسطينية الرسمية والشعبية بضرورة عقد انتخابات حقيقية للمنظمة، تمكّن الفلسطينيين في مناطق الشتات والأراضي المحتلة من اختيار قيادة جديدة تعمل على إعادة الاعتبار للملف الفلسطيني، وتعيد ترتيب وبناء جسم المنظمة.
مستقبل المنظمة.. أين تقف المنظمة اليوم؟
أمام استمرار تحكُّم حركة فتح بقرار منظمة التحرير الفلسطينية، وفشل الفصائل الفلسطينية الأخرى في الضغط عليها لإعادة إنتاج مجلس وطني جديد ولجنة تنفيذية منتخَبة من الفلسطينيين أنفسهم، يمكن القول إن المنظمة ستبقى على حالها الآني، وستبقى مجرد ورقة تستخدمها السلطة وقياداتها.
وتعكس التشكيلة الخاصة باللجنة التنفيذية للمنظمة، والتي تضم رئيس السلطة محمود عباس، وحسين الشيخ الذي يشغل منصب رئيس هيئة الشؤون المدنية المسؤولة عن التنسيق مع الإسرائيليين، والذي خلفَ صائب عريقات في أمانة سر اللجنة؛ واقع المنظمة القائم.
علاوة على ذلك، سعت حركة حماس في أعقاب معركة "سيف القدس" لفتح قنوات اتصال بالفصائل الفلسطينية المعارضة، مثل الجهاد الإسلامي والمبادرة الوطنية والجبهة الشعبية، لإنشاء جسم موازٍ للمنظمة أو على الأقل معارض، في ظل فشل الدخول إلى المنظمة، غير أن ذلك لم يتحقق.
وترى فصائل من ضمنها الجبهة الشعبية، أن مثل هذه الخطوات ستسهم في تفسيخ الفلسطينيين سياسيًّا أكثر، لا سيما أن الشعبية سبق وأن عملت على إنشاء جسم أسمته "جبهة الرفض" ثم سرعان ما أوقفته خشيةً على منظمة التحرير الفلسطينية، في الوقت ذاته إن عددًا كبيرًا من أعضاء فصائل المنظمة يتمسكون بوجودها لاستمرار حصولهم على مكاسب مادية تتمثل في المخصصات المالية، إلى جانب مقاعد وزارية في الحكومة المحسوبة على السلطة الفلسطينية.
وأمام هذه الحالة، لا يبدو أن ثمة تغييرًا حقيقيًّا في واقع منظمة التحرير، بحيث تتحول إلى جسم يعبّر عن الفلسطينيين أولًا، خصوصًا أن المشهد الراسخ خلال العقدَين الماضيَين يدل على أن السلطة هي من تتحكم بالمنظمة وليس العكس، رغم أن السلطة أُنشئت كجسم منبثق عنها.