الثلاثاء، 13 فبراير 2024

بيني وبينك.. المعاطفُ البيضاء

 

بيني وبينك.. المعاطفُ البيضاء

لم تكنْ ترتدي المعطفَ الأبيضَ هذه المرّة، للحروب أحكامُها، لا شيءَ في الحربِ يُشبِه الحياة، كلّ ما فيها يضعك أمام الموت، أو يضع الموتَ أمامك. الحربُ وجعٌ لا ينتهي، كارثةٌ تجثمُ على الصّدور قبلَ الدُّور فتتشظّى، تُحطّم الأحلام، تقتلُ الآمال، وتجعل يومَ الخلاصِ بعيدًا.
في الحرب تظهر معادن الأطبّاء الحقيقيّة، يظهرُ البطلُ، ذلك الّذي ينثر الحَبَّ للحياة الهاربة من جسدِ طفلٍ أو امرأةٍ أو شيخٍ أو شابٍ من أجل أنْ يدفعها إلى دخول الجسد مرّة أخرى بعدَ أنْ كادتْ تُخلِي مكانَها للموت المُتربّص بها في كلّ حين.
هذه المرّة خلعتْ معطفَها لا للضنّ به، بل لأنّ قماش المعاطف البيضاء قد شَحّ حتّى لم يعُدْ موجودًا، وما ضَرّها ألا يكون معطفُها أبيضَ ما دام قلبُها أبيض، ما دام هذا القلبُ ينبضُ بهذه السّمات البطوليّة الّتي عَزّ نظيرُها.
وإذَنْ فقد خلعتْ هذه الطّبيبة بطّانية الصّوف الّتي كانتْ تحمي جسدها النّحيل المُتعَب الّذي لم يرتحْ ساعةً واحدةً طَوال الأشهر الماضِية إلا ما اقتنصَتْه في غفلةٍ من رقابتها هي لا رقابة الآخرين، من وقتٍ مُنتزَعٍ من بين أنياب الواجب من أجل أنْ تستعدَّ في راحةٍ مسروقةٍ لعملٍ لا ينتهي، وتعبٍ يتجدّد.
كان الرّصاصُ يأتيها من كلّ مكانٍ، خلعتِ البطّانيّة لكي تُحرّرَ حركَتَها، فمهما كانتْ هي سريعةً في عَدْوها فإنّ الرّصاص أسرع، خلعتِ البطّانيّة، وانحنتْ وما كان لهذه القامة الرّفيعة العالية أنْ تنحني لولا أنّها الحرب، ولولا أنّه نداء الواجب الّذي لا يُمكن أنْ تُصمّ عنه أذنَيك، وركضَتْ، وإلى أين؟ إلى جريحٍ آخَر عَبْرَ ممرّ رصاصٍ يركضُ في كلّ الاتّجاهات ويُغطّي كل الدّروب، من أجل أنْ تُنقِذَ هذا الجريح من رصاصةٍ واحدةٍ استقرّتْ في موضعٍ قاتِلٍ من جسده. كم هي آثِمةٌ هذه الرّصاصات، كم هي لعينةٌ هذه الحرب، وكم هي مُقدّسةٌ هذه المَهَمّات الّتي يقوم بها ذوو المعاطفِ البيضاء.
ركضَتْ بالفعل لتُخرِجَ رصاصةً من جسدٍ ينزفُ عبرَ موجاتٍ من الرّصاص في بحر الموت المُتلاطِم حتّى لا يغرقَ فيه، مَنْ رآها وهي تركضُ إلى ذلك الاتّجاه خلال هذا الموت سيُدرِك كم هو عظيمٌ أنْ تُنقِذَ روحًا لا تعرفُ صاحِبَها ولا يعرفُك، ولا تنتظر من أحدٍ شكرًا على ما تفعل، ولا يدفعك أحدٌ من الأساسِ على أنْ تُقدِمَ على هذا العمل البُطوليّ الجُنونيّ، ولكنّه ضميرٌ يَقظان، وقلبٌ حَنّان، وإنّ الطّبيبَ في النّهاية إنسان، إنسانٌ تمثّلتْ فيه معاني الإنسانيّة في أبهى صُورها، وأسمى تجلّياتها.

AymanOtoom@

otoom72_poet@yahoo.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق