لماذا لا تريد الأنظمة العربيّة انتصار حماس في غزّة؟
يوسف الحمود
كاتب وباحث سوري
تشهد منطقة الشّرق الأوسط تحوّلات وانزياحات هائلة في المواقف والتّحالفات بسبب الصّراع المباشر في غزّة بين الفلسطينيّين ودولة الاحتلال الإسرائيليّ، لأنّه لم يعد صراعاً عربيّاً بالمعنى الإستراتيجيّ ولا السّياسيّ، يعني؛ لم يعد صراعاً تشترك فيه الأنظمة والدّول العربيّة، بل هو صراع ثنائيّ بين جبهة المقاومة الإسلاميّة، وجبهة إسرائيل وداعميها الغربيّين والعرب الأخفياء،
أمّا الشّعوب العربيّة فما زالت يرى 90 بالمئة منهم يرى أنّ قضيّة فلسطين قضية عربيّة تهمّ جميع العرب والمسلمين بامتياز، وذلك من خلال استطلاع أجراه “المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات”، ولعلّ المواقف والاستقطابات في حرب غزّة منذ السّابع من أكتوبر الماضي هي الأبرز بعد مرحلة الرّبيع العربيّ في العشريّة الماضية، وذلك بسبب تحوّلات جديدة ودراماتيكيّة تعبّر عن طبيعة تحوّلات المرحلة الإقليميّة، حيث تتحضّر أكثر الأنظمة العربيّة الوظيفيّة لمرحلة التّطبيع العلنيّ المكشوف مع الكيان الإسرائيليّ، وترسيخ هذا التّطبيع بآفاق مختلفة من التّعاون الأمني والدّبلوماسيّ والاقتصاديّ،
وكان المرحلة الجديدة هي التّطبيع السّعوديّ الإسرائيليّ كما صرّح الرّئيس الأمريكيّ بايدن عدّة مرّات، وقال: بأنّ حرب غزّة تأتي في سياق تعطيل مسار التّطبيع بين الدّولتين، وتُعتبر السّعوديّة رأس القاطرة العربيّة بعد انحلال وانهيار الدّور المصريّ إقليميّاً ودوليّاً، وبالأخصّ في طور ما بعد ثورات الرّبيع العربيّ، وما أفرزته هذه الثّورات والأحداث الكبيرة من تحوّلات وتغيّرات في المشهد الجيوسياسيّ والجيوعسكريّ في كثير من الدّول العربيّة،
وذلك من خلال ارتهان الدّول العربيّة المحورية للدّاعم السّعوديّ والإماراتيّ المساند لمواقف دول الرّدّة العربيّة في تصفية الرّبيع العربيّ والإجهاز على آخر التّجارب النّاجحة كالتّجربة التّونسيّة، ولم يبق من قوى التّأثير والمقاومة الحقيقيّة في الوسط العربيّ إلاّ النّموذج الفلسطينيّ المتمثّل في حماس والجهاد الإسلاميّ والقوى الشّعبيّة، وهم ما يُطلق عليهم في المصطلح الغربيّ “الإسلام السّياسيّ”، وهو مصطلح خارج من القاموس الغربيّ، ولكن سُرعان ما تلقّفته الأنظمة العسكرتاريّة والشّموليّة العربيّة لتُعيد صوغه وتحديده، ثمّ استثماره في خطّ المواجهة مع حركات الإسلاميّين الّتي اُتّهمت بالأسلمة والحركيّة من جانب،
ومع حركة ثورة الشّباب في الرّبيع العربيّ من جانب آخر، وبغضّ النّظر عن طبيعة التّحالف الإستراتيجيّ لحماس والجهاد الإسلاميّ وبعض الحركات الأخرى مع إيران، فإنّها أثبتت قوّة وحضوراً وكفاءة ميدانيّة في عدّة مواجهات ماضية مع إسرائيل منذ حرب 2006م وما بعدها من مواجهات مستمرّة، واستطاعت أن تحدث نوعاً من توازن الرّعب مع الكيان الصّهيونيّ، وهو أكثر ما تخشاه إسرائيل من القوى المقاومة المحيطة بها،
وما حدث في السّابع من أكتوبر 2023م كان زلزالاً كبيراً نسف الأسطورة التّاريخيّة عن الجيش والاستخبارات والقوّة الإسرائيليّة، وأظهر حالة الوهن والضّعف وعدم الاستعداد والاستباق الاستخباريّ والعسكريّ لهذا العدوّ المتغطرس، ممّا أخلّ بمفاهيم القوّة التّقليديّة السّائدة عن الدّولة الصّهيونيّة، وما هو مستوى ومدى قوّتها الحقيقيّة في توازنات ومعادلات الصّراع الواقعيّ،
والآن وبعد مرور أربعة أشهر على العدوان الوحشيّ على غزّة فقد وصلت أعداد الشّهداء إلى 27000 شهيداً و67000 جريحاً ومعوّقاً بأكبر كارثة تاريخيّة معاصرة بعد الثّورة السّوريّة عام 2011م، بل إنّ إسرائيل اعتمدت إستراتيجيّة الأسدين؛ الأب والابن في التّوحّش والقتل والتّخريب الكامل لكلّ شيء ابتداءً من العدد الهائل وأرقام الضّحايا وجنونيّة الدّمار والأرض المحروقة، وتدمير كلّ البنى التّحتيّة والمستشفيات والملاجئ والمعالم التّاريخيّة والمساجد والكنائس بحالة مهولة وغير مسبوقة في الأرض الفلسطينيّة بهذا الحجم من الخراب،
وأصبح في تقديرات الأونروا والمؤسّسات الدّوليّة 90 بالمئة من أهالي غزّة في انعدام الأمن الغذائي، وأكثر من النّصف في حالة مجاعة تامّة، ولم تستطع كلّ الدّول العربيّة والإسلاميّة ولا منظمة المؤتمر الإسلاميّ البائسة من إدخال أيّة مساعدات إلى غزّة رغم مناشدة المؤسّسات الدّوليّة، بينما أدخل الأمريكيّون 230 طائرة شحن مليئة بالأسلحة والذّخائر، وهي أكبر جسر جوّي منذ حرب أكتوبر في 1973م، تشاركت 40 طائرة أمريكيّة و20 طائرة بريطانيّة،
بينما تحوّل أكثر قادة العالم الإسلاميّ إلى مهرّجين ومندّدين بالمذابح والمجاز الإسرائيليّة أمام الإعلام، بل إنّهم تحوّلوا إلى مذيعي نشرة أخبار في القنوات الفضائيّة يردّدون الأخبار وأرقام المجازر والأعداد المتداولة في وسائل الإعلام، بينما بلغت المأساة حدّاً فظيعاً بحيث أصبح رصد القتلى والشّهداء لا يُعدّ إلاّ بالمجازر، لأنّه من الصّعب ذكر الأسماء والتّفاصيل،
ومن بين أكثر من ستين ألف جريح ومعوّق لم يُدخل النّظام المصريّ سوى 1210 جرحى كما جاء على لسان ضياء الدّين رشوان رئيس وكالة الإعلام التّابع للدّولة، بعد أن كذب وزير الصحّة المصريّ خالد عبد الغفّار وقال: أدخلنا 20000 ألفاً من الجرحى، وفي الأسبوع الماضي حملّ ممثّل إسرائيل في محكمة لاهاي الدّولية الدّولة المصريّة مسؤوليّة منع دخول المساعدات الإنسانيّة وقال: بأنّ مصر مسؤولة عن المعبر لا إسرائيل،
وهذا يعني أنّ إسرائيل غير مكترثة حتّى بحماية حلفائها وعملائها المقرّبين، ومشروع حصار غزّة هو استكمال لمشروع حسني مبارك في حصارها بعد فوز حماس في الانتخابات عام 2006م، ممّا جعل حماس تعتمد على إستراتيجيّة الأنفاق العابرة والأنفاق الغائرة في باطن الأرض في عمليّات الإمداد والصّناعة وتحصين مقارّ العمليّات داخل غزّة، ويُمكن تفسير ضعف وانهيار الدّور المصريّ بعاملين رئيسين؛
الأوّل: التّراجع الجيوسياسيّ لدور مصر في قضايا إقليميّة حسّاسة وكبيرة بالنسبة لمصر مثل الحرب في ليبيا والسّودان وتسلّط أثيوبيا على مياه النّيل مع العجز المصريّ المطلق في هذه القضايا المصيريّة،
والثّاني: هو الرّعب التّاريخيّ والسّياسيّ الّذي يعيشه السّيسي من الإخوان المسلمين منذ عمليّة القتل والإبادة الّتي مارسها بحقّ الإخوان والثّورة المصريّة في يوليو 2013م، وهي عداوة صارمة ومستحكمة بين السّيسي وبين الإسلاميّين،
وهذه العداوة والشّراسة لعب فيها السّيسي دور الأصيل والوكيل؛ الأصيل عن نفسه وانقلابه العسكرتاريّ المتوحّش، والوكيل عن أنظمة الحكم العربيّة والخليجيّة الّتي جعلت دوره وظيفيّاً واضحاً من خلال الدّعم السّياسيّ والمالي المقدّم لسلطة القمع والإرهاب مقابل اجتثاث وتصفية الإسلاميّين والرّبيع العربيّ، والمراقب للأوضاع والمسارات السّياسيّة يدرك بوضوح أنّ السيسيّ ودول الطّوق والمحور وأهم الدّول الخليجيّة الفاعلة تريد غزّة منزوعة السّلاح إضافةً إلى ضرورة الانقضاض والقضاء على حماس،
مع إبقاء سلطة فلسطينيّة هزيلة وعميلة لإسرائيل هي سلطة محمود عبّاس، والّتي ما زالت تعتقل الفلسطينيين لمنعهم من مساندة ودعم حماس في فتح جبهة دعم أخرى ضدّ إسرائيل، ولكن كلّ هذا الأمر من محاولة اجتثاث حماس والقوى الإسلاميّة ما كان ليتمّ إلاّ من خلال قوّة قادرة على إنجاز ذلك الغرض وهي القوّة الإسرائيليّة، ومن هنا كانت حرب غزّة وهجوم حماس في السّابع من أكتوبر لحظة تاريخيّة تمّ اقتناصها من الأنظمة القمعيّة والتّطبيعيّة العربيّة للتّخلّص من أهمّ ورقة قويّة في السّاحة، وهي ورقة قوّة حماس والمقاومة الفلسطينيّة الإسلاميّة، والّتي هي مصنّفة ضمن معادلتين لا يمكن القبول بهما عند أنظمة الاستبداد الأوليغارشيّة،
المعادلة الأولى:
أنّ حماس حركة مقاومة إسلاميّة قويّة ممكن أن تهزم إسرائيل حليف الأنظمة العربيّة الوثيق، وتريد هذه الأنظمة إبقاء أكذوبة الجيش الّذي لا يُقهر للاتّكاء عليها في تسويغ وتبرير عمليّة التّطبيع القائمة، وأنّها عمليّة واقعيّة وضروريّة لا يمكن تجاوزها لمصلحة المنطقة العربيّة والأجيال القادمة والسّلام التّاريخيّ العادل والدّائم،
والمعادلة الثّانية:
والمعادلة الثّانية:
أنّ حماس هي حالة حركيّة إسلاميّة، أو ما يُسمّى بــــ “الإسلام السّياسيّ”، وهي محكومة بأنّها من آثار ونماذج الإخوان المسلمين، وهناك مصلحة عربيّة إسرائيليّة مشتركة في القضاء على هذا النّموذج القائم بأي صيغة وثمن مهما كان باهظاً، ولو كان الثّمن مئة ألف قتيل وتدمير غزّة دماراً شاملاً كما حدث ووقع، لأنّ ما ضُربت به غزّة هو عشرات الآلاف من الأطنان المدمّرة والمتفجّرة والقذائف المرعبة والصّواريخ الحديثة والارتجاجيّة، وهو ما يعادل عدّة أضعاف ما نزل من القنابل النّوويّة على هيروشيما وناغزاكي في الحرب العالميّة الثّانية،
وفي مساحة جغرافيّة صغيرة 365كيلو متراً مربّعاً، ونحن نملك من المعلومات والوثائق ما تفيض به القنوات الإعلاميّة العربيّة والعالميّة ووسائل التّواصل وشبكات الصّحف والمواقع الغربيّة، ولكنّنا لا نملك المعلومات والوثائق الاستخباراتيّة للتّعاون المشترك بين هذه الأنظمة وإسرائيل، وما فيها من أنواع الدّعم الأمنيّ واللّوجستيّ والمالي الخفيّ، وهي تحتاج إلى زمن بعد انقضاء الحرب حتّى تتبيّن الحقائق والوثائق على ماهي عليه من الدّقة والوضوح، وربّما كان هذا التّعاون مع إسرائيل هو ما يجعل الغرب شديد الميل للدّكتاتوريّات والملكيّات المطلقة والأوتوقراطيّات العربيّة كالسيّسيّ في مصر وابن سلمان في السّعوديّة وابن زايد في الإمارات وحتّى بشار الأسد رغم جرائمه ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحربّ والهولوكوست المرعب في سوريا.
وهذا المحور الجديد يمكن أن نسميه ” الصّهيوعربيّ “، وهذه الحقيقة أكّدها السيناتور ماركو روبو عضو لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشّيوخ في قوله: “لا يمكننا أن نكون أمّة تدير وجهها إلى الجهة المقابلة عندما يقوم أحد حلفائنا بأمر مروّع، كما أنّه ليس من مصلحتنا الوطنيّة الدّفاع عن حقوق الإنسان”.
إنّ طبيعة المشهد السّياسيّ التّحالفيّ بين الأنظمة وإسرائيل، وبين الغرب وهذه الأنظمة يعطينا مؤشّرات مفزعة وخطيرة لمستقبل الثّورات والحريّات ونضالات الشّعوب لاسترداد حقوقها في ظلّ تحالف وتواطؤ خطير لهذه الأنظمة المستقوية بإسرائيل، وهي تعتقد أنّ بوابّة إرضاء وإسكات الغرب هو التّحالف العميق مع إسرائيل، وهذا ينبغي أن يعطينا دافعاً قويّاً ومستمرّاً على هيكلة إستراتيجيّات ذاتيّة للمقاومة بأنواعها السّياسيّ والعسكريّ والثّقافيّ، ولكن بروح جماعيّة واعيّة لسنن التّاريخ وطبيعة الصّراع والتّدافع في كلّ أبعاد المشهد السّياسيّ والمستقبليّ العربيّ والإسلاميّ والدّوليّ.
وفي مساحة جغرافيّة صغيرة 365كيلو متراً مربّعاً، ونحن نملك من المعلومات والوثائق ما تفيض به القنوات الإعلاميّة العربيّة والعالميّة ووسائل التّواصل وشبكات الصّحف والمواقع الغربيّة، ولكنّنا لا نملك المعلومات والوثائق الاستخباراتيّة للتّعاون المشترك بين هذه الأنظمة وإسرائيل، وما فيها من أنواع الدّعم الأمنيّ واللّوجستيّ والمالي الخفيّ، وهي تحتاج إلى زمن بعد انقضاء الحرب حتّى تتبيّن الحقائق والوثائق على ماهي عليه من الدّقة والوضوح، وربّما كان هذا التّعاون مع إسرائيل هو ما يجعل الغرب شديد الميل للدّكتاتوريّات والملكيّات المطلقة والأوتوقراطيّات العربيّة كالسيّسيّ في مصر وابن سلمان في السّعوديّة وابن زايد في الإمارات وحتّى بشار الأسد رغم جرائمه ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحربّ والهولوكوست المرعب في سوريا.
لأنّ هذه الجرائم يُراد لها أن تعاد مرّةً ومرّةً في كلّ بلد ينحو نحو الدّيمقراطيّة أو الثّورة والتّحرير، وخاصّةً إذا كان إسلاميّاً من ذوي النّزوع السّياسيّ، أو كان مقاوماً يهدّد بقاء إسرائيل ويطالب بإعادة أرضه وحقوقه السّليبة والمغتصبة.ولم يكن دعم الغرب لهذه الأنظمة حالةً تكتيكيّة أو عابرة، بل هي خيارات إستراتيجيّة محسوبة من خلال طبيعة الصّراع وضرورة الاصطفاف الأمريكيّ إلى جانب محور الشّر الاستبداديّ المنقلب على الرّبيع العربيّ،
وهذا المحور الجديد يمكن أن نسميه ” الصّهيوعربيّ “، وهذه الحقيقة أكّدها السيناتور ماركو روبو عضو لجنة العلاقات الخارجيّة في مجلس الشّيوخ في قوله: “لا يمكننا أن نكون أمّة تدير وجهها إلى الجهة المقابلة عندما يقوم أحد حلفائنا بأمر مروّع، كما أنّه ليس من مصلحتنا الوطنيّة الدّفاع عن حقوق الإنسان”.
إنّ طبيعة المشهد السّياسيّ التّحالفيّ بين الأنظمة وإسرائيل، وبين الغرب وهذه الأنظمة يعطينا مؤشّرات مفزعة وخطيرة لمستقبل الثّورات والحريّات ونضالات الشّعوب لاسترداد حقوقها في ظلّ تحالف وتواطؤ خطير لهذه الأنظمة المستقوية بإسرائيل، وهي تعتقد أنّ بوابّة إرضاء وإسكات الغرب هو التّحالف العميق مع إسرائيل، وهذا ينبغي أن يعطينا دافعاً قويّاً ومستمرّاً على هيكلة إستراتيجيّات ذاتيّة للمقاومة بأنواعها السّياسيّ والعسكريّ والثّقافيّ، ولكن بروح جماعيّة واعيّة لسنن التّاريخ وطبيعة الصّراع والتّدافع في كلّ أبعاد المشهد السّياسيّ والمستقبليّ العربيّ والإسلاميّ والدّوليّ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق