«الظاهر بيبرس» يزيل «دولة انطاكية الصليبية» في ساعة
كيف أزال الظاهر بيبرس في ساعة يوم 4 رمضان 666 هجرية دولة انطاكية الصليبية التي تزيد مساحتها عن فلسطين التي يحتلها الصهاينة.
انطاكية من أكثر مدن الشام تحصينا تحيط بها المرتفعات من الجنوب والشرق ويكتنفها نهر العاصي من الغرب وتكثر بها الغابات والمستنقعات من جهة الشمال ويحرسها سور مرتفع بالغ التحصين طوله 12ميلا وبه 360 برجا وتقع قلعة انطاكية على قمة الجبل داخل اسوار المدينة وقد زاد الصليبيون في تحصينها كثيرا.
ولم ينجح الصليبيون في احتلالها قبل 175سنة الا بعد حصار طويل ومعارك دامية استمرت أكثر من ثمانية أشهر مع أهل السنة من الاتراك والعرب والاكراد.
وتعتبر انطاكية من المدن المقدسة في عالم النصرانية ولذلك اتجهت اليها جيوش الصليبيين قبل القدس، وكانت انطاكية من أغنى وأبهى الامارات الصليبية.
وقد انساق امير انطاكية الصليبي بوهمند السادس وراء حميه هيثوم ملك الارمن في التحالف مع المغول بقيادة هولاكو ضد المسلمين وشاركت قواته معهم في احتلال بغداد سنة 656 وحلب سنة 658 هجرية كما كان بنفسه مع كتبغا وحميه هيثوم في احتلال دمشق سنة 658 وشاركت قواته في التنكيل بالمسلمين مثل المغول.
وقد انتقم الظاهر بيبرس من ملك الارمن هيثوم سنة 664 هجرية فأرسل الجيش الى بلاده في جنوب جبال طوروس ودمرها وعاد ومعه 40 ألف اسير وغنائم لا تحصى.
وقد ارتقى السلطان الظاهر بيبرس بتدريب الجيش المسلم ورفع قدرته القتالية حتى بلغ درجة لم يبلغها من قبل لا في عهد نور الدين ولا في عهد صلاح الدين.
خرج الظاهر بيبرس بجيشه من مصر في 3 جمادى الاخرة 666 هجرية دون ان يفصح لأحد من قادته عن هدفه ووصل الى يافا فتسلمها من الصليبيين بدون قتال.
ثم سار شمالا وحاصر قلعة الشقيف واستولى عليها ثم تسلم بيروت سلما من الصليبيين الذين وقع الرعب في قلوبهم فطلبوا منه الامان فأجابهم الى طلبهم.
وتوجه بيبرس بجيشه الى طرابلس الصليبية وقتل الصليبيين خارجها ودمر قراها وقطع اشجارها وغور مياهها وانهارها بهدف اضعافها حتى يسهل فيما بعد فتحها وتسلم بيبرس من فرسان الاسبتارية الصليبيين حصن الاكراد وانطرطوس وصافينا بالأمان بعد ان وقع الرعب في قلوبهم ثم ارتحل بيبرس من عند طرابلس في 24 شعبان دون ان يعرف أحد هدفه الحقيقي فوصل الى حمص ومنها الى حماة وقسم جيشه الى ثلاثة اقسام للإطباق على انطاكية.
قسم أمره ان يستولي على ميناء السويدية وهو ميناء انطاكية ليمنع وصول أي نجدة او حملة قادمة من الغرب لنجدة انطاكية او من دولة قبرص الصليبية.
وقسم يطوق انطاكية من الشمال ليمنع اي مساعدة من جانب الارمن في جنوب جبال طوروس.
وقسم قاده بيبرس بنفسه للهجوم على انطاكية وانتزاعها من الصليبيين.
وفي يوم الاربعاء أول رمضان 666 أصبح بيبرس امام انطاكية فخرج قائد الصليبيين سيمون بفرقة لمواجهة جيش بيبرس فانزلوا به الهزيمة واسروه واحضروه امام بيبرس فطلب منه ان يعود الى المدينة ليطلب من أهلها تسليمها بالأمان حقنا لدمائهم فعاد سيمون الى انطاكية وترك ابنه رهينة لدى بيبرس.
ولم ينجح سيمون ومن معه من رجال الدين بإقناع الصليبيين بالتسليم بالأمان.
وفي الساعة الرابعة من يوم السبت 4 رمضان 666 أمر بيبرس جنوده بالهجوم وتسلق الجنود اسوار انطاكية بطريقة اسطورية غير مسبوقة وكأنهم الفهود والنمور مما يدل على التدريب الشاق المسبق والعالي لهذه العملية الفريدة.
وبسرعة البرق فتحوا الابواب وتدفقت قوات البطل الظاهر بيبرس الى داخل انطاكية وشرعت في حصد الصليبيين بلا هوادة ولم يبقوا من الصليبيين احدا.
اما نساء وابناء الصليبيين فقد أصبحوا رقيقا للمسلمين وبلغوا من الكثرة ان سعر الغلام انخفض الى 12دينار والجارية الى 6 دنانير والجاموسة درهمين.
اما الاموال من الذهب والفضة والحلي فبلغت من الكثرة حدا انها وزعت على الجنود بالطاسات وليس بالعدد لان انطاكية كانت اغنى الامارات الصليبية.
واستسلمت للظاهر بيبرس سائر القرى والحصون التابعة لأنطاكية وحصل منها على غنائم اخرى وفيرة.
اما امير انطاكية بوهمند الذي كان في طرابلس فلم يعلم بسقوط إمارته الا من الرسالة التي ارسلها اليه الظاهر بيبرس يشرح له تفاصيل هذا الفتح الذي تم كما قال في رسالته في التاريخ المشار إليه.
رسالة بيبرس إلى الامير بوهمند السادس
«قد علم القومص الجليل [المبجل المعزز الهمام، الأسد الضرغام، بيمند فخر الأمة المسيحية، رئيس الطائفة الصليبية كبير الأمة العيسوية بيمند المنتقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية [منه] من البرنسية إلى القومصية، ألهمه اللَّه رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده.
ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له في عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر، وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من بساط الأرض، ودارت الدوائر على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال، واستخدمت الأولاد، وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار، ولم يترك إلا ما يصلح لأعواد المجانيق [إن شاء اللَّه] والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والمواشي، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب واستخدم الخديم وركب الماشي».
«هذا وأنت تنظر نظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا:
على هذا الصوت، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود. وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت ماشية إلا وهي لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهي في ملكنا جارية، ولا سارية إلا وهي في أيدي المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير التي هي في رؤوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التي هي في التخوم مخترقة وللعقول خارقة. وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر.
وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا نبعد عنك، وأن بعدنا فسنعود على الأثر. وها نحن نبلغك بما تم، ونفهمك بالبلاء الذي عم»
«كان رحيلنا عنك عن طرابلس يوم الأربعاء رابع عشرين شعبان، ونزولنا أنطاكية في مستهل شهر رمضان. وفى حالة النزول خرجت عساكرك المبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كندا اسطبل، فسأل مراجعة أصحابك.
فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك وأعيان أعوانك فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك في إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأن رأيهم في الخير مختلف، وقولهم في الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر اللَّه عليهم الموت رددناهم وقلنا: «نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول في الإنذار والآخر» فرجعوا متشبهين بفعلك ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففي بعض ساعة مر شأن المرشان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان».
«وفتحناها بالسيف في الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من أخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شيء من الدنيا، فما بقي أحد منا إلا وعنده شيء منهم ومنها. فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنهاية فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهي توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهن تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسرت ونشرت، وصحفها من الأناجيل المزورة قد نثرت، وقبور البطارقة قد بعثرت. ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس والمدبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء الملوك وقد دخلوا في المملكة. ولو شاهدت النيران وهى في قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان قد زلَّت كل منها وزالت، لكنت تقول: «يا ليتني كنت ترابا، ويا ليتني لم أوت بهذا الخبر كتابا »، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفى تلك النيران بماء عبرتك . ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك وقد أخذت في السويدية بمراكبك، فصارت سوانيك من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذي أنطاك أنطاكية منك استرجعها، والرب الذي أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض أقتلعها. ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد اللَّه منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام وهو: دير كوش، وشقيف تلميس، وشقيف كفردنين، وجميع ما كان من بلاد أنطاكية، واستنزلنا أصحابك من الصياصي وأخذناهم بالنواصي، وفرقناهم في الداني والقاصي، ولم يبق شيء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما سمى بالعاصي، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فهو أجراها بما سفكناه فيه دما».
«وكتابنا هذا يتضمن البشرى لك بما وهبك اللَّه من السلامة وطول العمر، بكونك لم تكن لك في أنطاكية في هذه المدة إقامة، وكونك ما كنت بها فتكون إما قتيلا، وإما أسيرا، وإما جريحا، وإما كسيرا. وسلامة النفس هي التي يفرح بها الحي، إذا شاهد الأموات، ولعل اللَّه ما أخرك إلا لأن تستدرك من الطاعة والخدمة ما فات. ولما لم يسلم أحد يخبرك بما جرى خبّرناك، ولما لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها باشرناك بهذه المفاوضة وبشّرناك، لتتحقق الأمر على ما جرى. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغي لك أن تكذب لنا خبرا، كما أن بعد هذه المخاطبة يجب أن لا تسأل غيرها مخبرا»
هذه الرسالة ليس فيها مبالغة فقد اجمعت عليها المصادر.
التسامح الكبير مع الصليبيين جرى زمن عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين.
فلما جاء سلاطين المماليك وعلى رأسهم بيبرس وجدوا أن تلك السياسة لا تنفع مع الصليبيين الذين كانوا لا يتركون مسلما حيا في حالة انتصارهم بل قتلوا حتى الحيوانات العائدة للمسلمين بما فيها القطط والكلاب مثلما حدث في القدس.
عندئذ عاملهم بيبرس بنفس سياستهم. والبادئ أظلم.
والظاهر بيبرس كان أمامه خيار قرأني هو قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) النحل: اية ١٢٦.
وقد اختار الظاهر بيبرس الخيار الأول في الآية الكريمة بهدف أن يردع الغرب الصليبي عن تنظيم حملة صليبية كبيرة وإرسالها الى الشام. وقد نجح في تحقيق هذا الهدف فلم يجرؤ الغرب على تنظيم وإرسال حملة صليبية جديدة طوال العصر المملوكي كله رغم مناشدات وخطط المئات من البابوات والدعاة النصارى ورجال الدين المهووسين بالحروب الصليبية للسلطات الحاكمة في الغرب لتنظيم هذه الحملة.
بيبرس والباطنية الإسماعيلية
قال عز الدين بن شداد من مآثر بيبرس: (ما فعله بالإسماعيلية، فإنه قهرهم وقسرهم واستعبدهم، حتى صار يبعثهم لقتل من عاداه وناوأه، ممن بعُد وقرُب)
ومن أمثلة ذلك تنفيذ أمره لهم بقتل أمير صور الصليبي فيليب دي مونتفرات سنة ٦٦٧ هجرية.
تاريخ الملك الظاهر/ص ٣١٣
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق