معالم على طريق النهضة
|
خباب بن مروان الحمد
|
الحمد لله ربِّ العالمين ، وصلَّى الله وسلَّم على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلَّم تسليماً كثيراً أمَّا بعد : من يتابع وسائل الإعلام وما تعرضه من أخبار سيجدها في الأغلب تتحدث عن مشاكل المسلمين وقضاياهم المتأزمة ؛ فالمسلمون يعيشون في زمن تكالبت عليهم فيه الأحداث ، وتتابعت عليهم المخاطر، وأصبحوا كل يوم يترقبون حدثاً جديداً ، أو نازلة خطيرة . والعالم الإسلامي ـ بالذات ـ يعيش بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر في دوامة أخبار، وتلاحق أحداث بشكل مذهل. في قلب هذه الأزمات تذكرت كلام القائد الشيوعي الملحد [ لينين] حين قال: عقود تمر على الأمة لا يحصل فيها شيء ، ثمَّ تمر سنون تحصل فيها عقود، وصدق وهو كذوب ! فقد صرنا نعاصر سنوات حصلت فيها حوادث أكثر من عشرات السنين، وكان للمسلمين فيها الحظ الأوفر من المآسي الفظيعة ، والأوضاع المؤلمة. وهكذا تمضي العقود بأيامها ، وتدور الأيام دورتها وتبقى المصائب تتوالى على المسلمين ، ويكون حال أكثر المسلمين حيال تلك الأحداث : المظاهرات والاحتجاجات التي تشجب الصلف الصليبي ـ الصهيوني ، والهتافات الجماهيرية المستنكرة لحمَّامات الدماء التي تجري هنا وهناك في أقاليم المسلمين. وبعد أن فُرِّغَت تلك الشحنات المكبوتة ، وأحرق المتظاهرون الأعلام الأمريكية والصهيونيَّة ، ومع مرور أيام قليلة تنطفئ القضية التي ثِيْرَ لأجلها عقول الكثير من المسلمين ، وتتلاشى جذوة الحماس التي اشتعلت قليلاً في ضميرهم ، وتُتَنَاسى تلك الفواجع ، إلا إذا كانت حديث مجالس يُتَذَكَّرُ بها ظلم قوم بغوا على آخرين، ويظن الكثير منهم أنّه بذلك ينتهي دورهم ، وتنقضي المسؤولية المناطة بهم. ودعنا ـ ياصاح ـ نتصارح ؛ فبعد أن نرى تلك الأخبار ، ومجازر المسلمين، والذلَّة والمهانة التي أصابتنا... بعد هذا كله : هل حرَّك ذلك في قلوبنا شيئاً؟ هل نصرناهم بشيء من أنواع النصرة؟ هل سألنا أنفسنا جادين : كيف نخرج من تلك الأزمات والتيه الذي نعيشه من عشرات السنين؟ إنَّ هذه الأسئلة لم يستشعرها إلا القليل ؛ فقد كان موقف الأغلبية ممن يتابعون الأخبار هو الصمت العجيب وعدم العمل لنصرة أولئك المستضعفين. وقد نجد الفرد منهم يشاهد ذلك لأجل أن يتكلم في المجالس، ويناقش ويحلل ويختلف مع إخوانه وخلاَّنه ، وكأنَّه في اتجاه معاكس ؛فيرفع صوته ، ويرغي ويزبد، لم يتقن إلا فن الصراخ . أو يكون موقف كثير ممن يتابع الأخبار إلقاءهم باللائمة على الآخرين دون أن يراجعوا أنفسهم مراجعة صادقة ، ويروا ماذا فعلوا من التقصير في حق الله من الذنوب والمعاصي ، وما فعلوه في حق إخوانهم من التقصير في حقوقهم ، وعدم بذل الجهود المستطاعة لنصرتهم ، أو أن يكون موقف بعضنا البكاء والتأوهات ودعاوى العجز، وكأنَّ لسان حال الكثير منا : السيل الهادر لا تسده عباءتك. إنها لمأساة حين نصاب بتبلد إحساس عجيب ، وشعور تجاه أوضاع إخواننا غريب، وقد نرى تلك المجازر ثمَّ إذا أطفأنا التلفاز، وارتحنا دقائق ، تابع بعضنا بعد ذلك الأفلام الخليعة ، والمسلسلات الهابطة، وكأنَّ شيئاً لم يكن! وكان من الواجب أن يكون المتابعون للأخبار أكثر الناس عملاً واستشعاراً للمسؤولية ، وأن تغرس في نفوسهم بواعث عمل، ووقود همة، وعزمة إرادة لتغيير الواقع المرير. تُرَى ... ألا تستدعي تلك [المواقف الضعيفة] من المسلمين تجاه أعدائهم، وقفة مراجعة ، وبحثاً عن الإشكاليات التي يقع فيها المسلمون، ووصف الدواء العاجل لدفع العدو الصائل الذي أفسد الدين والدنيا معاً؟! * مواقف سلبيَّة بعد سماع الأخبار : إنَّ من تلك الأزمات والإشكاليات التي يقع فيها المسلمون بعد سماعهم الأخبار، ونقاط الضعف التي حلَّت في سويداء قلوبهم ، غير مستشعرين خطأ المسيرة ، واعوجاج طرق التفكير، ما يلي : [1] تغليب جانب العاطفة والارتجالية في الأعمال ، والعفوية في مواجهة الأحداث وليتها أعمال بطولية تثخن في الأعداء بضوابطها الشرعية ! وإنما هي هتافات وشعارات غلبت على العقل والتفكير المثمر العملي ، يعقبه السكون والخمود والخمول غافلين عن أسباب تلك المصائب التي عصفت بنا ، ومتناسين للحلول العملية التي نقاوم بها تلك المخاطر ، بناءً على الأوامر الشرعية ، والاهتداء بسنة خير البرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وممن شخَّص هذا المرض من علماء المسلمين الشيخ الراحل مصطفى السباعي ـ يرحمه الله ـ ؛ حيث ذكر أنَّ المسلمين ينتفضون انتفاضة وقتية لمصيبة حلَّت بهم ثم يخمدون وكأنَّ الأمر لم يكن، حيث كتب: ((لو هدمت الكعبة لما ضجَّ المسلمون اليوم أكثر من ثلاثة أيام)) هكذا علمتني الحياة [صــ91] وصدق رحمه الله ، فما أشبه الليلة بالبارحة! [2] طيبة القلب الزائدة ، وإحسان الظن بالعدو ولو قليلاً، وتصديق بعض شعاراتهم ، وهذا شيء لا أبالغ فيه ، فكثير من المسلمين كان يظنُّ أنَّ أمريكا أعقل من أن تفعل بهم تلك الجرائمَ الوحشيَّة ، والإهانات النفسية ؛ باعتبارها راعية لمجلس الأمن ، وقوات حفظ السلام ، وأنها ترفع شعارات العدالة والحرية والديموقراطية [الزائفة]! ولذا ظنَّ الكثير منا أنَّ قاتله سيرحمه ولو قليلاً، ويعطيه فرصة شرب الماء قبل الإجهاز عليه ، وهذا ما حدث بالضبط بعد أن قُتل الشيخ أحمد ياسين ـ رحمه الله ـ ؛ فقد ظنَّ الكثير من المسلمين أنَّ اليهود قد يصمتون قليلاً ويرفقون بالمساكين الفلسطينيين ليلملموا جراحهم ، ولتجف مآقيهم من البكاء ؛ ومع ذلك فإن اليهود كانوا أمكر وأخبث ؛ فقد عاجلوا المجاهدين في فلسطين بضربة نوعية أخرى، فقتلوا الدكتور المجاهد عبد العزيز الرنتيسي ـ تقبله الله في الشهداء ـ غيلة ومكراً، ثمَّ أعقبوها بمجازر القصف والتنكيل بإخواننا في غزة وجباليا وغيرها من المدن الفلسطينية الأبية. وهكذا أعداء الدين ؛ فهل بقي لنا مجال أن نحسن الظنَّ بالآخر ؟[ الكافر] أو أن نرفع له لافتات السلام ، ليقابلنا بالود والوئام ؟! إنهم المفسدون في الأرض ولن يُتوقع منهم إلا كل خبث وسوء وإجرام.
هل لَمَحْتُم طيبةً من حية * أو لمستم رقة من عقرب؟!
وصدق الله [ لا يرقبون في مؤمنٍ إلَّاً ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ] التوبة[10].
[3] غلبة الكلام والحديث وقلة العمل ، فنحن نتحدث عما لا نريد ولا نتحدث عما نريد ، فكلامنا كثير في سب المحتل الأمريكي ـ الأوروبي ـ الصهيوني ، وحلفائهم من المنافقين ، ولكنَّ القليل منا من يتحدث عن واجبنا تجاه الأحداث، وهو ـ و للأسف ـ أمر نادر في برمجة تفكيرنا ، ولو طُلِبَ من هؤلاء القوم الذين يغلِّبون الكلام على العمل ، لو طلب منهم القليل لنصرة هذا الدين لوجدت التلكؤ، والتراجع والتقهقر، والحوقلة والاسترجاع، والتفنن في التهرب من المسؤولية والعمل. فما أشبههم بقصة الأعرابي ؛ الذي كان معه بعض الإبل ، فجاءه اللصوص وسرقوها منه فلم يقاومهم بشيء، فلما ذهبوا وساروا بإبله ، شتم اللصوص ، ولعنهم. فسأله أهله عندما رجع إليهم بدون الإبل : ماذا فعلت؟ فقال: "أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل" !! فإذا كان كثير من المسلمين أهل كلام وشجب واستنكار، وقومٌ ينفعلون ولا يفعلون ، ويشجبون ولا يخطِّطُون أو يعملون، فلا غرابة أن يُنشِد اليهود والنصارى ساخرين من المسلمين كما قال حافظ إبراهيم على ألسنتهم مستخفِّين بالمسلمين:
قد ملأنا البـر من أشلائـهم * فدعوهم يملؤوا الدنيا كلاما
لا شكَّ أنَّ هذه المأساة التي يعيشها أبناء الأمَّة الإسلامية المريضة ، ينبغي أن تستدعي أهل العزائم لإحياء قلوب هذا الجيل المسلم ، وإمداده بالشريان الحيوي ، الذي يستقي منه معالم العزة ، وأنوار الرسالة ، حتَّى يتخطى تلك الأعمال العفوية التي لا ترعب كافراً ولا تنصر ديناً .
إننا بحاجة ـ وخاصة دعاة الإصلاح ، وعلماء الأمة وقادتها الربانيين ـ بعد أن نُشَخِّص تلك الأدواء التي تجثم علينا ؛ أن نصف لها الدواء ، فأمَّتنا بحاجة إلى ذلك الطبيب النطاسي ومبضع الجراح الأمين ، الذي يبحث في جذور المرض وتشعباته ، ويرفع أوهاق الخطر عن جسد هذه الأمة الجريحة بكل ثقة وإتقان ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ـ "ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء" أخرجه البخاري في صحيحه . ولهذا يتوجب على من يريد الرفعة لهذه الأمة ، أن يبحث في الوسائل المعينة على عزِّها ، والحلول المثمرة لنهضتها ، وأن يفكر التفكير الجاد لتوظيف مشاكل الأمة بما يخدم مصلحتها ، وقد قيل: رحلة العظيم تبدأ بفكرة. وصدق الإمام حَمْد الخَطَّابي ـ رحمه الله ـ حين قال: "من صدقت حاجته إلى شيء كثرت مسألته عنه، ودام طلبه له ؛ حتى يدركه ويحكمه" معالم السنن للخطَّابي[4/832] ومن هذا المنطلق فإنني سأركز في هذه الأسطر على جواب سؤال أرى أنه من الأهمية بمكان وهو: إنَّ المسلمين منذ سبعين سنة وهم يعيشون في انحدار تلو انحدار ، ونكسات يتلوها نكبات ، مع أنَّ بعضهم قدَّم الدماء والأموال وكل ما يستطيع لنصرة هذه الأمة ، والوضع لم يزدد إلاَّ سوءاً ؛ فالتغول العسكري الغربي يمضي داخل بلاد الإسلام، والنموذج الغربي تلقَّاه الكثير من أبناء جلدتنا بالتبعيَّة المقيتة ، والتقليد الأبله ؛ فكيف السبيل الأمثل لاستعادة القوة، وانفكاك الأزمة ، واسترداد المجد؟؟ وجواباً على ذلك فإنَّ هناك أموراً أسأل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن تكون معينة على تحقيق ذلك ، و لا أدَّعي فيها الكمال، ولكن لعلَّها تكون مقاربة للصحَّة ، ويبقى النقص لازماً فيها . معالم على طريق النصر، وإضاءات للسائرين في قافلة العز [1] ففروا إلى الله: هذا نداء قرآني جليل ، ينبغي تأمله بعمق وشمولية ، فإنَّ من أولى الأولويات في ذلك: أـ إفراد الله بالعبودية الكاملة ، وعدم الاستعانة والاستغاثة إلا به ، فتقوية ركائز الإيمان في قلوبنا سبب معين لنصرتنا على أعدائنا، وقد اشترط الله على من يريد أن ينصره ؛ أن ينصر اللهَ ـ عز وجل ـ[ ولينصرنَّ الله من ينصره] الحج[40]. والمتأمل في حال الكثير من المسلمين يجد العجب العجاب في التفريط بهذا الشأن ؛ فكم هم القوم الذين لا يفردون الله بالعبادة والتوحيد وينزلقون في براثن الشرك ؟ وكم هم القوم الذين يشركون حاكمية الله بحاكمية غيره من الطواغيت والأنداد والقوانين الوضعية والمحاكم القانونية الكافرة ؛ التي لا تحكم بما أنزل الله ؟ وكم هم القوم الذين يتعبدون الله بالبدع والضلالات ، ويلزمون الناس باتباعهم في تلك الخرافات؟ وكم هم القوم الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياء الله بأساليب الأذى والتبكيت؟ وكم هم القوم الذين يتشبَّهون بأعداء المسلمين ؟ إنَّ تقصير الكثير من المنتسبين إلى الإسلام بتلك القضايا المصيرية أمر واضح ، فمتى يترك هؤلاء ذلك الخطل والخلل؟! ولهذا فإنَّ الإمام ابن تيمية لمَّا رأى تكالب الجيش التتري المغولي على بلاد الإسلام وتقتيله المسلمين وكثرة الهزائم المتتابعة عليهم ، نظر بعين البصر والبصيرة أسباب تلك الهزائم فوجد أنَّ من أهمها إصلاح عقائد من تلوث ممن ينتسب للإسلام بدرن الشرك ، وقد حدَّث ـ رحمه الله ـ كيف أنَّه لما هاجم التتارُ بلادَ الشام ؛ خرج أهل الشام يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضُرِّهم ، وقال بعض شعرائهم: ياخائفـين من التـتـر * لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبـر أبي عمـر* ينجيكموا من الخطر قال ـ رحمه الله :"فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً" الاستغاثة [2/276ـ277]
ب ـ الاعتصام بكتاب الله ـ تعالى ـ وسنَّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فإنَّهما الركن إن خانتك أركان، وتقديم أوامرهما ونواهيهما على أي شيء عارضهما أو صرف النظر عنهما. ج ـ تغيير ما بالنفس من معاصٍ وآثام، وحب للفواحش والمنكرات، فإذا أردنا أن ينصرنا الله فلنغير من أنفسنا ؛ وهذه قاعدة ربانية ذكرها الله في كتابه بقوله: [ إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتَّى يغيروا ما بأنفسهم] الرعد[11]، وعن عبد الله بن عمرـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت عاشر عشرة من المهاجرين عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقبل علينا بوجهه، وقال: "يا معشر المهاجرين: خمس خصال إذا ابتليتم بهنَّ ـ وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ ـ : لم تظهر الفاحشة في قوم حتَّى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا ابتلاهم الله بالسنين وشدَّة المؤنة وجور السلطان، ولا منع قوم الزكاة إلا مُنِعُوا القطر من السماء ؛ ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قوم العهد إلا سلِّط عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم] أخرجه الحاكم و البيهقي بسندٍ صحيح، ورواه ابن ماجه في سننه وقال محققه في الزوائد : هذا حديث صالح للعمل به . انظر سنن ابن ماجه [2/1333]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم[106]. تلك حقيقة ثابتة ، فإذا نحن عصينا الله ، وخالفنا أمره سلَّط علينا الأعداء والوباء والضرَّاء [فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم] النور[63]. وما يصيبنا الآن من المصائب والمدلهمات جزء لا يتجزأ من عقوبة الله لنا لتقصيرنا في حقِّه، وليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب [ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم] الشورى[30]. فلا يحقُّ لنا بعد ذلك أن نتساءل : لم لا ينزل الله النصر علينا؟ ونحن مفرطون بأوامره ونواهيه ، وإذا كان ـ سبحانه ـ لم ينزل نصره على العصبة المؤمنة من الصحابة لخطأ ارتكبه بعضهم فلم ينالوا جميعاً ذلك النصر، وحين تساءلوا عن سبب ذلك، عزاه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لأنفسهم قائلاً : [أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم]آل عمران[165]. وقد أُثر عن العباس بن عبد المطلب ـ رضي الله عنهما ـ : "ما نزل بلاء إلا بذنب ، وما رُفع إلا بتوبة " ، ورحم الله أبا الدرداء ـ رضي الله عنه ـ حيث كان يقول للغزاة: "أيُّها الناس ! عمل صالح قبل الغزو ، فإنَّما تقاتلون بأعمالكم "أخرجه ابن المبارك في كتاب الجهاد صـ61 رقم[5] وبوَّب له البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه فقال: [باب: عمل صالح قبل القتال ] [6/24] . ولله درُّ الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم : "عليكم بالتوبة ! فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف". د ـ صدق اللجوء والتضرع إلى الله ، ودعاء الله بقلب وَجِلٍ ؛ فنحن عبيد لله ، وهو ـ سبحانه ـ يحب أن يسمع دعاء عبيده في كشف الضر عنهم وهم منطرحون بين يديه ، أمَّا إذا رأى عبيده قد استغنوا عنه ونسوه فإنه سينساهم مقابلة لهم بعملهم السيئ[نسوا الله فنسيهم] التوبة[67]. وقد أخبر ـ سبحانه ـ عن قوم لما أنزل عليهم بأسه استغنوا عن دعائه والافتقار بين يديه فلم ينقذهم من تلك النازلة ؛ بسبب كبرهم وقسوة قلوبهم، قال ـ تعالى ـ : [فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزيَّن لهم الشيطان ما كانوا يعملون] الأنعام[43] وقال ـ تعالى ـ: [ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجُّوا في طغيانهم يعمهون * ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون] المؤمنون[75] . ومن ذلك كثرة الاستغفار ؛ فإنَّه من أعظم أسباب القوة . قال ـ تعالى ـ على لسان نبي الله هود ـ عليه السلام:[و يا قوم استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوَّة إلى قوتكم ] هود[52] وقال ـ تعالى ـ: [ وأن استغفروا ربكم ثمَّ توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كلَّ ذي فضل فضله]هود[3]. وبهذا الفرار الصادق إلى الله يتميز المسلم الحق عن غيره من أصحاب الرايات الجاهلية ؛ بقوة العقيدة، والتمسك بها ، والذود عن حياضها ؛ فلا رفعة لأهل الإسلام إلاَّ بمفاصلتهم للكافرين. ومن أجل ذلك فهم أعرف الناس بسبل المجرمين ، والذين يريدون أن يحرِّفوا جهادهم وكفاحهم لأجل العرى القومية ، أو الوطنية ، وعندئذٍ فأي فرق بين من يدعي الإسلام ومن يقاتلهم لأجل تلك الرايات العمياء الشوهاء ؟ والمؤمن كيِّس فطن ؛ فليحذر من الملاينة أو المسايرة لذوي التوجهات الخاوية ، فلن تكسب ديناً ولا دنيا ، وليقتدِ برسول الهدى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فلقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ، أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم ـ حاشاه ـ إلى شيء مما أرادوا ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق! إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة ، وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم ، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة [ إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد] البروج[8] ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع . وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية ؛ كي يموهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة؛ فمن واجب المؤمنين ألاَّ يخدعوا ، ومن واجبهم أن يدركوا أنَّ هذا تمويه لغرض مُبَيَّت ، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها "مقطع من كلام الأستاذ سيد قطب،في كتابه ( معالم على الطريق) صـ201 ـ 202 والعيب كلُّ العيب أن يكون الكفار أشد تمسكاً بدينهم وعقيدتهم من المسلمين ، وتُسَيَّر حروبهم ومعاركهم نصرة لعقيدتهم وقيمهم ، مع أنَّ الله ـ سبحانه ـ أمر المسلمين بالاستمساك بهذا الدين والعضِّ عليه بالنواجذ ، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : [فاستمسك بالذي أوحي إليك إنَّه لعلى هدى مستقيم * وإنَّه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون] الزخرف[43 ـ 44] ولعلِّي أُدَعِّم حجتي هذه بشاهد قوي يوضح هذه الحقيقة التي غابت عن أذهان المسلمين ردحاً من الزمن ، وفترة من الدهر ، مختاراً إمبراطورية الشر والفساد [أمريكا] فقد صدرـ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ كتاب بعنوان[الدين في القرار الأمريكي] من تأليف : محمد السماك، يوضح فيه الأيديولوجية العقدية التي ينطلق منها الأمريكيون في قتالهم المسلمين ، وأنَّ مبنى قراراتهم على النبوءات التوراتية عبر تولي رؤسائهم مناصب الحكم وتقاليده مروراً بـ ( ليندون جونسون ـ وجيمي كارتر ـ ورونالد ريجان ـ وجورج بوش الابن) فمثلاً: ـ الرئيس ليندون جونسون قال في عام 1968م، في خطاب ألقاه في العاشر من أيلول ـ سبتمبر ، أمام منظمة يهودية أمريكية :" إنَّ لأكثركم ، إن لم يكن لجميعكم، روابط عميقة مع أرض ومع شعب إسرائيل ، كما هو الأمر بالنسبة إليَّ ؛ ذلك لأنَّ إيماني المسيحي انطلق من إيمانكم . إنَّ القصص التوراتية محبوكة مع ذكريات طفولتي ، كما أنَّ الكفاح الشجاع الذي قام به اليهود المعاصرون من أجل التحرر من الإبادة منغمس في نفوسنا"صــ41. ـ الرئيس ريجان حيث يقول في مقابلة صحفية نُشرت له في جريدة الواشنطن بوست: " إنني أعود إلى النبوءات القديمة المذكورة في العهد القديم، وإلى المؤشرات حول هرمجدون ؛ فأتساءل بيني وبين نفسي ، ما إذا كنَّا الجيل الذي سيرى تحقق ذلك. لا أعرف إذا كنت لاحظت معي أيَّاً من هذه النبوءات مؤخراً، ولكن صدِّقني إنَّها ـ أي النبوءات ـ تصف بالتأكيد ما نمرُّ به الآن"صــ43. ـ الرئيس رونالد ريجان وافق عام1986م على قصف ليبيا باعتبارها عدواً لله ! صــ43. ـ الرئيس جورج بوش الابن تربى تربية ملتزمة مع عقيدة الحركة الصهيونية المسيحية ، ففي مناسبة أداء صلاة الفصح يوم الجمعة 18/نيسان ـ أبريل 2003م، والتي ترأسها القس فرانكلين جراهام، قال بوش في معرض إشادته بالقس جراهام: " لقد غرس في قلبي بذور الإيمان ، فتوقفت عن تعاطي المسكرات واعتنقت المسيح "ومن المعلوم أنَّ هذا القس الخبيث قال في المناسبة نفسها:" إنَّ الفرق بين الإسلام والمسيحية هو كالفرق بين الظلام والنور" صــ59 . وقال كذلك عن الإسلام:" إنه دين شيطاني وشرير " صــ61. وكذلك فإنَّ بوش يجتمع صباح كل يوم ، قبل بدء عمله في البيت الأبيض مع كبار موظفيه ومستشاريه للاستماع إلى موعظة دينية يقدِّمها أحد القساوسة ، تعقبها صلاة ودعاء .. ثمَّ يتوجه الجميع إلى مكاتبهم . صــ61. ولهذا يقول إيكشتاين: "إنَّ سياسة الرئيس بوش تنطلق من إيمانه العميق بمسيحيته ، ومن تمييزه بين الشرِّ والخير ، وتصميمه على وجوب الوقوف في وجه الشَّر ومحاربته...ومن ثمَّ فإنَّ مواقفه تعبِّر عن قناعات شخصية وليست مناورة سياسية ". مما سبق يتبين أنَّ قرارات هذه الإدارة مبنية على قيمها العقدية، ونظمها الفكرية ، فجدير بأبناء المسلمين أن يكونوا أشدَّ قناعة بدينهم وعقيدتهم من هذه الطغمة الكافرة ، وأن يشتد فرارهم إلى الله وإقبالهم عليه أكثر مما مضى، فنصر الله لا يتنزَّل إلا على أهل الإيمان:[إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم] محمد[7] . وإنزاله البركات لا يكون إلاَّ لأهل الإيمان والتقى[ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] الأعراف[96]. [2] [ وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة] : يعجبني كلام ذكره الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ حيث قال: [ إنَّ البعض ينتظر من هذا الدين، مادام منزَّلاً من عند الله ، أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب ودون أي اعتبار لطبيعة البشر ولطاقاتهم الفطرية] (هذا الدين ، 3). وصدق ـ رحمه الله ـ فإنَّ كثيراً من المسلمين يظنون أنَّ الله ناصرهم لأنهم مسلمون فحسب ، ولا يخطر ببالهم أنَّ عليهم صناعة أسباب العزة، والأخذ بعوامل القوة ، والتي تمكِّن المسلمين من الانتصار على أعدائهم ، أمَّا إذا تقوقع المسلمون على أنفسهم ولم يستفيدوا من خبرة أعدائهم في تقوية أنفسهم؛ فإنَّهم لن يستطيعوا أن يرعبوا أعداءهم لأنهم علموا منهم الضعف في المواجهة. ولهذا حثَّ الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إعداد القوة فعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قرأ قول الله تعالى : [ وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل] قال ـ عليه السلام ـ : [ ألا إنَّ القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي] أخرجه مسلم، برقم[1917] في كتاب الإمارة ـ باب فضل الرمي والحث عليه ـ [3/1522] وبيَّن النَّبي- صلى الله عليه وسلَّم- أنَّ " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف" أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ. وطيَّب الله ثرى الشيخ أبي الحسن الندوي حين قال :"وبالاستعداد الروحي ، والاستعداد الصناعي الحربي، والاستقلال التعليمي ينهض العالم الإسلامي، ويؤدي رسالته وينقذ العالم من الانهيار الذي يهدده. فليست القيادة بالهزل ، إنما هي جد الجد، فتحتاج إلى جد واجتهاد، وكفاح وجهاد، واستعداد أي استعداد : كل امرئ يجري إلى يوم الهياج بما استعدا " (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ص206) . وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أن الجهاد لو سقط للعجز، فإنَّ المسلم لا يعذر بعدم الاستعداد له، ومالا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب . (فتاوى ابن تيمية 28/259). والمطالع لأحوال المسلمين اليوم يجد أنهم في ذيل الأمم في هذا الأمر، حتى وصل الحال ببعض ضيقي الأفق ، إلى صد شباب الإسلام عن تعلم العلوم التقنية ، والدخول في الجامعات لدراستها ، وكأنَّ الشاب المستقيم ليس له إلاَّ كلية الشريعة ، أو اللغة العربية ! والحقيقة أنَّ هذا فصام نكد بين العلوم الشرعية والعلوم التقنية الطبيعية ، فإنَّ دين الإسلام دعا إلى الأخذ بأسباب القوة التي ترعب الكفار وترهبهم ، ولا إرهاب مشروعاً للمسلمين تجاه عدوهم في عصرنا الحاضر بعد قوَّة الإيمان إلا بالتعُّلم على الأسلحة المواكبة لعصرنا والمثخنة لأعدائنا، فمتى يتنبَّه دعاة الإسلام لحث طلائع البعث الإسلامي على الانتباه لهذا الأمر وأخذه بعين الرعاية ؟ ولنستفد من تجربة اليابان ؛ فحين رأوا أنهم قد هُزموا هزيمة نكراء على يد الأمريكان ، علموا أنَّ من أسباب ذلك: عدم قدرتهم على مواجهة الأمريكان بالسلاح ؛ لأنهم متخلفون في هذا الميدان ، وقد سبقهم الأمريكان في ذلك بعدة أشواط ، فما كان من اليابانيين إلا أن أرسلوا البعثات للتعلم في بلاد الغرب والنهل من علومهم الطبيعية ، حتى يرجعوا إلى اليابان وينقلوا على أرضها تلك التجارب الغربية الطبيعية فتنهض دولتهم . وحين بعثت أول بعثة يابانية إلى دول الغرب رجعوا إلى بلادهم متحللين من مبادئهم، ذائبين في الشخصية الغربية ؛ فما كان من اليابانيين إلا أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس ليروا عاقبة من تنكر لأمته ووطنه ولم يرعَ المسؤولية التي أنيطت به ! وبعد ذلك أرسل اليابانيون بعثة أخرى وأرسلوا معها مراقباً، يتابعهم أولاً بأوَّل من ناحية ثباتهم على عقيدتهم ومُثُلِهم الوثنية ، وانهماكهم في استقطاب الأفكار والمعلومات الغربية التقنيَّة وتطبيقها على أرض الواقع حتى يرجعوا لليابان ويفيدوا دولتهم الناشئة . وتمضي الأيام وتكون اليابان بعد سبعين سنة من أكبر منافسي أمريكا وأوروبا في مجال التصنيع التقني والذي منه تصنيع الأسلحة الثقيلة ، فهلاَّ يستفيد المسلمون من تجارب غيرهم ! عسى أن يكون ذلك قريباً ! ومن المعلوم قطعاً أنَّ الكفار ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية ، وهي الإيمان بالله والإيمان برسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ؛ ولكنهم أبدعوا وبرعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية . ونعلم ـ كما قدَّمتُ قبل قليل ـ أن المسلمين فرَّطوا بالأخذ بأسباب القوَّة الإيمانيَّة وكذا الأخذ بأسباب القوَّة الماديَّة ، وعليه فإنَّ المنطق العقلي السليم يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية . ولو كان مضيعاً للأسباب المعنوية على الذي ضيَّع الأسباب المادية والمعنوية التي تحقق النصر والتمكين. ولذلك انتصر الكفار على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنسيهم ـ سبحانه ـ وضيَّعهم ، لذا قال عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ لقائده :" إنَّما ننتصر بمعصية عدونا لله وطاعتنا له فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة" فمتى يستقيم الظل والعود أعوج؟!. وقد يتساءل بعضنا : كيف يتمُّ لنا الاستعداد وعندهم الآن صواريخ عابرة القارات ، والأسلحة الذكية، والقنابل النووية والكيماوية والجرثومية والذريَّة ؟! والجواب: إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يطلب من عباده المؤمنين بالتكافؤ مع أعدائهم الكافرين بالعتاد والسلاح ؛ بل طلب منهم إعداد القوة ؛ بشرط أن تكون هذه القوة مرهبة للكفار ومثخنة لهم، ومع الإيمان والصدق والصبر ومعيَّة الله لعباده المجاهدين يتنزل النصر عليهم بالمدد الإلهي من حيث لا يعلمون. وما حوادث المجاهدين الأفغان وإسقاطهم للدب الروسي الأحمر ، وقد كان أقوى قوة أرضية تحكم العالم ، ما كان ذلك إلا دليلاً على أنه لا يشترط في قتال الكفار التكافؤ بالعدة والعتاد ، ولا ننسى قصة أبطال الفلُّوجة الذين قاوموا العتاد الأمريكي وأرغموهم على الانسحاب من هذه المدينة مع أنَّ المجاهدين هناك لم تبلغ قوَّتهم المادِّية عشْر معشار قوة جيش التحالف الصليبي ، وهذا أمر معلوم. إنَّ العدة والعتاد ، ولو كان قليلاً ، إذا اصطحب مع الإيمان الحق ، والإرادة الصادقة فإنَّه لا تقف أمامه أيُّ قوَّة ، وقد قال الله : [إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين] الأنفال[66]. وحين يتجذر هذا في قلوب الصادقين ، فإنَّهم خلال مناوراتهم الحربية ، وتطلعاتهم المستقبلية لتحرير الأراضي المنكوبة ، سيحاولون أنْ يفجروا من الحجر ناراً، ولو كان ذلك بأساليب بدائية ، فإنَّه كما قيل: الحاجة أم الاختراع ، ومع مرور الزمن تتطور تلك التقنيات البدائية ، وتنمو الأفكار التصنيعية للأسلحة والصواريخ ، وما مقاومة إخواننا في فلسطين الأبيَّة عنَّا ببعيدة ؛ فقد بدؤوا بقتالهم لليهود بالحجر والسكين ، ثمَّ بالمقلاع وقنابل المولوتوف، إلى العمليات الاستشهادية ، إلى حوادث تلغيم الأراضي التي يمر عليها اليهود بسيَّاراتهم ودبَّاباتهم،إلى صواريخهم المباركة المسمَّاة بصواريخ قسَّام[1] وقسَّام[2]، وصاروخ البتار ؛ والذي صنِّع ليكون مضاداً للدبابات ، زادهم الله قوة ومدداً. وصدق المولى ـ عزَّ وجل ـ إذ قال: [والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنَّ الله لمع المحسنين]العنكبوت[69] وفي قراءة سبعيَّة:[والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضلَّ أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنَّة عرَّفها لهم] محمد[4ـ5ـ6] إلاَّ أنَّ المأساة الحقيقية في أنفسنا ؛ فكثير منّاَ لم تتعمق لديه تلك المبادئ ، أو تجده يعلم ذلك ولكنَّه يتضاءل عن تلك المعاني الرفيعة، ولا يحاول أن يستعلي بنفسه عن دونية الأرض ويحلق في سماء العزِّ والعزم. قال ابن جوريون في عام 1949م : " كل ما يجيء به العلم الحديث لا يكفي وحده لكسب الحرب. ولن تكون الكلمة الأخيرة للدبَّابة ولا للمدفع ولا للطائرة المقاتلة ؛ إنَّما تكون للإنسان الذي يُسخِّر هذه الوسائل لإرادته" (درس النَّكبة الثَّانية... لماذا انهزمنا... وكيف ننتصر ، للدكتور يوسف القرضاوي صـ68 ). وصدق عباس العقاد بقوله: [ كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة ؛ ولكنه لا يجد من هو أهلٌ للانتصار عليه] الفصول صـ239. أخيراً : لا يريد الكفار إلا غفلتنا عن هذه الأسباب المادِّيَّة ليحكموا الطوق علينا بقوة ، ويستولوا على كامل أقطارنا الإسلامية ، وقد بيَّن الله ـ سبحانه ـ ذلك بأحسن بيان فقال: [ ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة] النساء[102] ؛ فمتى يستفيق عقلاء القوم؟! [3][ ولتسألنّ َعمَّا كنتم تعملون] : إنَّ مما ينبغي على المتطلع لنصرة هذا الدين أن يستشعر المسؤولية الفردية التي كلَّفه الله بها ، فإنَّه محاسب على كل تقصير اقترفه في حق نفسه وأمته. والمصيبة التي حلَّت بالمسلمين أنَّ كلاًّ منهم يلقي باللاَّئمة على الآخر ، ويحاول الكثير منهم أن يختفي من واقع العمل إذا طولب بشيء منه ويظنُّ أنه لم يره أحد ، ولم ينتبه له المسلمون، كالنعامة تغطي وجهها تظنُّ أنَّها إن لم ترَ أحداً فإنَّ أحداً لا يراها . والغريب أننا نطالب غيرنا من كبيرنا إلى من هو أدنى منه بأمور عظام ونحن المطالبون بذلك تجدنا من أوائل القاعدين! فلماذا لا نستشعر بعد ذلك روح المسؤولية ونعلم أننا جميعاً محاسبون لدى الله ـ سبحانه ـ؟ فالمسؤولية لا تخصُّ أناساً بعينهم ؛ وإن كان يشتد وجوبها على آخرين ويعظم في حقِّهم جرم التهاون بها،إلا أنَّها تعمُّ جميع أطياف المجتمع وأشكاله ؛ فالله ـ عز وجل ـ يقول: [ فوربك لنسألنهم أجمعين] الحجر[92] ويقول [ولتسألنَّ عما كنتم تعملون ] النحل [93] ، ويقول: [ يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها] النحل [111] . ولهذا أمر ـ سبحانه ـ محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقتال ، مبيناً له أنَّ المسلم مكلف بذلك ؛ ولو ترك معظم المسلمين هذه الفريضة قائلاً : [فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلاَّ نفسك وحرض المؤمنين]النِّساء[84]. تلك هي صفة الطموح، والذي يحمل همَّ الإسلام بصدق وجد، ويعيش ذلك الهم بين قلبه وأضلاعه، ويستشعر روح المسؤولية ، ويقلل من الكلام والتلاوم ، ويسعى للعمل ؛ فالرجل وإن كان صامتاً فإن عقله يفكر في الأسباب المعينة على نصرة الإسلام ، وطرائق الرقي بهذه الأمة إلى القمة السامقة، والريادة الكبرى ، ومن ثمَّ صُنع ذلك في أرض الواقع ، وإشعال لهيب المعركة. لهذا كان من اللازم أن توظف جميع طاقات المسلمين متحركة داخل دائرة العمل الإسلامي ، وألاَّ يستثنى منها أحد ، فكل يعمل بأقصى جهده وقدر استطاعته ، فهذا خير لنا من أن نبقى متفرجين على مآسينا بلا عمل ولا ترتيب ؛ وهو ما يفرح أعداء الدين. وقد عبَّر عن هذا أحد مشاهير الفلاسفة [إيدموند بورك/1729ـ 1797] بقوله: "إنَّ كل ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي ، دون القيام بعمل ما " اليهود وراء كل جريمة صـ7 . وإذا كنا بهذا الضعف والانكماش ، فسيتفرد أهل العلمنة والنفاق بصناعة القرار، ويعيث أهل الفساد في ديارنا بالشر والزندقة !
وجدير إذا الليوث توارت * أن يلي ساحها جموعُ الثعالب
لكن إذا استشعرنا جميعاً المسؤولية وانخرطنا في عمل جاد يقاوم تحركات الكفار، وبذلنا جهدنا في ذلك ، وركبنا الصعب والذلول ، وعلم الله منا صدق النية وصلاحها، ونَصَرْنَا الله ـ عز وجل ـ ولم ننصر أهواءنا وما تمليه علينا رغباتنا ، فإنه ـ سبحانه ـ سيمنُّ علينا بالنصر العظيم والفتح المبين.
وإذا كانت هناك بقية باقية استعصت علينا ؛ لأن قدراتنا لا تسمح بمقاومتها؛ فإنه ـ سبحانه ـ سيتولى ذلك ، لأنه علم منا جميعاً أننا بذلنا الجهد في اقتلاع أطناب الفساد ، وقد أخبر عن نفسه المقدسة حين رأى جنده في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عدَّة غزوات وقد بذلوا الغالي والنفيس لقتال أعداء الله ، وبقيت هناك بعض الأمور التي استعصت عليهم ، ولم يكن بمقدورهم التمكن منها، فإنه ـ سبحانه ـ تولى ذلك وأنزل الفتح المبين. قال ـ تعالى ـ:[ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كلِّ شيء قديراً] الفتح[21]. ومن تأمل قصة أصحاب الغار وكيف أنهم لما انطبقت عليهم الصخرة ، وكانوا من أعظم الناس إيماناً وحاولوا إزاحتها عن الباب ؛ ليخرجوا ، فلم يقدروا . ثمَّ دعا كل منهم ربَّه وانطرح بين يديه صادقاً ورفعوا أكفَّ الضراعة إلى الملك الرحيم العليم القادر وتوسل كل منهم إلى الله بأحسن عمل صالح فعله في حياته كلها، وبعد أن استنفدوا جهدهم وطاقتهم في طلب إزاحة هذه الصخرة ، ولم يركن أحد منهم ويطلب من الآخر أن يعمل وهو ينظر ؛ بل تحركوا جميعاً للعمل والدعاء ، وحين رأى الله ـ سبحانه ـ تلك العزائم الصادقة ؛ أمر تلك الصخرة أن تنزاح ليُخرج عباده المؤمنين إلى أرضه الفسيحة. وما لم يفكر أبناء الأمة الإسلامية باستعادة مجدهم وتاريخهم العريق فلن يفكر بذلك أحد غيرهم ؛ بل سيخطط أعداء هذه الأمة لتحطيم الإسلام وإبادة أهله ، وقد فعلوا فالتأوه والحزن لا يصنع شيئاً، ولا يغير واقعاً ، ولله درُّ إبراهيم طوقان حين قال: أفنيتَ يا مسكـين عمرك بالتأوه والحـزن
وقعدت مكتوف اليدين تقول:حاربني الزمن ما لم تقم بالعـبء أنت ؛ فمن يقـوم به إذن؟ كم قلتَ : أمراض البلاد ، وأنت من أمراضها والشـؤم علتها ؛ فهل فتشت عن أعراضها؟ والغريب أننا مع كثرتنا وافتخارنا بأننا أمة المليار وربع المليار ، لم نستطع وإلى الآن أن نردع العدو، وأن نكسر شوكته، وأن ننطلق في الآفاق لنشر دعوة الله في أرجاء العالم!
إنها الغثائيَّة التي أخبر عنها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكشف لأمته عن الأسباب العميقة لضعفها حين تضعف ، حيث قال : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن. قالوا وما الوهن؟ - أي ما سببه وما سره فإن معنى الوهن معروف وهو الضعف- قال : حبُّ الدنيا ، وكراهية الموت) أخرجه أبو داود في سننه (2/10 2) بسند جيد . ولهذا فحين رضينا بالدون وأحببنا الدنيا ، وصرنا نرضى بالحياة أي حياة ـ وللأسف ـ ، ولو كانت حياة هزيمة ووهن ، وأصبحت كثرتنا لا تصنع شيئاً ؛ فصرنا كما قال الشاعر:
يثقلون الأرض من كثرتهم * ثم لا يُغنون في أمر جلل
وقد عبَّر عن ذلك الدكتور عبد الودود شلبي حيث قال: "لقد سقط (المجدار) ، ومشت سكة الأجنبي في حقل الإسلام، وتداعت الأمم على المسلمين، كما تنبأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك بأكثر من ألف وأربعمائة عام" (أفيقوا قبل أن تدفعوا الجزية للأستاذ عبدالودود شلبي ، صـ 29).
إنها معادلة صائبة حين نقول: غثائية جماعية = تداعي الأمم.
[4] [ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً]: إنَّ من أخطر ما أصيب به المسلمون في كثير من أعمالهم أن معظمها صار[ ردود أفعال] فما إن تشتعل في قلوبنا حتَّى تنقطع من جديد ؛ لأننا ـ غالباً ـ نتحرك بلا هدف ولا تخطيط ؛ فالأحداث تُسَيِّرُنا وتفرض نفسها علينا ، وكثير منَّا لا يُكَيِّفُهَا حسب خطة عمل ، أو يوظفها لصالحنا، لذا أضحت أفعالنا وقتية ، وتحركاتنا آنية . ولا شكَّ أنَّ هذا خلاف العمل المتكامل ، وكثير من علماء الإدارة يوصون بكلمة قصيرة لكن معناها عميق وهي [ابدأ والنهاية في ذهنك]. إن النجاح الحقيقي أن يعرف الإنسان هدفه في الحياة ، وهدفه من العمل الذي يريد تحقيقه ، ثم يسعى لذلك مرتباً لكل مرحلة منهجيةً يسير عليها، ومعالم يستنير بها ، فلا يكون حاله كحال كثير منَّا يعمل متحمساً في البداية ثم ينقطع في آخر الشوط ، فلم يفلح ولم يصلح . وقد نهى الله عن ذلك بقوله:[ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا] النحل[92] . إنَّ من أهمِّ الأمور التي وصَّانا بها علماؤنا أن يكون للإنسان في ما يريد فعله عزمة بداية ، وعزمة نهاية ؛ فتكون شرارة توقد البداية ، وعزمة تستمر للنهاية . قال الإمام ابن رجب ـ رحمه الله ـ " العزم نوعان: أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق، وهو من البدايات. والثاني: العزم على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها ، وعلى الانتقال من حال كامل ، إلى حال أكمل منه ، وهو من النهايات... وعون الله على قدر قوة عزيمته وضعفها ، فمن صمَّم على إرادة الخير أعانه الله وثبَّته، كما قيل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم)
(مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي ، تحقيق طلعت الحُلواني، 1/344)
ومن هنا فإنَّ على مريد التمكين لهذا الدين أن يواصل سيره فلا يكلَّ ولا يملَّ ، وينكب لمشروعه النُّصروي لهذه الأمَّة انكباباً ينحني له الظهر ولو كانت بدايته مضنية، ولا ضير ؛ فقد نقل الإمام الشوكاني- رحمه الله- في (أدب الطلب) عن أفلاطون كلمة رائعة حيث قال : "وما أحسن ما حكاه بعض أهل العلم عن أفلاطون فإنه قال : الفضائل مُرَّة الأوائل حلوة العواقب ، والرذائل حلوة الأوائل مرَّة العواقب] (أدب الطلب ومنتهى الأرب/ 186) . فلنأخذها قاعدة أنَّ العمل الإصلاحي سيكون شاقاً في بدايته إلاَّ أنَّ ثمرته ستكون يانعة مورقة ؛ ولا بدَّ لذلك من نفس تضيء ، وهمَّة تتوقد ، وليكن لسان الحال كما قيل:
إنَّ عـلـيَّ أن أسـعـى * وليس عليَّ إدراك النجاح
[5] [يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون] : كثير من المسلمين ـ في تقديري ـ لا ينقصهم الوعي ـ وإن كان لا بدَّ من زيادته ـ بقدر ما ينقصهم امتلاك الإرادة والعزيمة والإصرار على تحويل المكتوب في القرطاس إلى واقع حي ، ومن هذا المنطلق فإننا نحتاج إلى أن نفعل ما نقول وما نكتب ؛ فما احترق لسان بقوله : (نار) ، وما اغتنى إنسان بقوله : (ألف دينار)، والحلول التي كتبها كثير منا في الإصلاح ومواجهة الأعداء صحيحة ، لكنَّها عملياً ليست ملموسة على أرض الواقع ؛ ولأضرب مثلاً: أ ـ كثير من الكُتَّاب والعلماء والمثقفين ذكروا أن من أسباب هزائمنا المتوالية : انعدام الهدف ، وعدم وجود خطة استراتيجية لمقاومة الطغاة المعتدين ، فهل بدئ بترتيب شيء من هذا الكلام؟ ب ـ وكثير من العلماء والمفكرين يذكر أن من أسباب هزائمنا عدم الاعتصام بالكتاب والسنة ، ثم نجد بعضاً منهم مفرطاً بهذا الأمر، فينشغل بالبدع والخرافات ، وتقديم العقليات ، والمصالح الموهومة على النصوص الشرعية. ج ـ وكثير ممن يحترق لأمته من أهل الدين والصلاح يقول: إنَّ من أعظم أسباب انتصارنا[وحدة الصف، وجمع الكلمة ، ورأب الصدع ، واتفاق المسلمين] ومع ذلك تجده في مواطن عدة يكون مفتاحاً للتفرق المذموم، ومضياعاً لسنة الاجتماع، ومفرطاً بأدنى الحقوق مثل حقوق المسلم على أخيه المسلم، مشهراً بعيوب من قام بنصرة دين الله ، وتعليم الناس دين الحق. إنَّ هذه نماذج توضح أننا نمتلك رصيداً طيباً من الوعي ، إلا أنه يغاير ذلك تطبيق ما وعيناه على أرض الواقع. إنَّ داء الكلام بلا عمل وتطبيق أمر قدْ حذَّر الله منه ومقت فاعليه قائلاً في محكم التنزيل [ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون]الصف[2] ولهذا فلا يستغرب أن تجد من يكثر الكلام أو النقد الآثم والجدل المذموم أن لا يحسن إلا ذلك، فلا يكون إلا ثرثاراً مهذاراً وليس لديه تجاه تلك النوازل إلا توسيع دوائر الفرقة ، والقدح في أولياء الله المؤمنين والمدافعين عن حياض الأمة وكرامتها فهو كما قيل : جعجعة لا نرى لها طحناً إلا إثارة الفتن. وصدق معروف الكرخي حين قال: ( إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل ، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل ) رواه أبو نُعَيْم في حلية الأولياء[8/361] ، وقال الحسن :( إنَّ هؤلاء مَلُّوا العبادة ووجدوا الكلام أسهل عليهم وقلَّ ورعهم فتحدثوا] وقال الأوزاعي: [ إنَّ المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً ، وإنَّ المنافق يتكلم كثيراً ويعمل قليلاً) . وما أحسن ما قاله عثمان بن عفَّان- رضي الله عنه- موصياً قوماً لقيهم : ( أنتم إلى إمام فعَّال؛أحوج منكم إلى إمام قوَّال) ( تثبيت أفئدة المؤمنين بذكر مبشِّرات النصر والتمكين/ لسيِّد عفَّاني صـ515 ). إنَّ من يتقن فنَّ الكلام فحسب مع الجدل الذي لا فائدة فيه ، فإنَّه ينبغي عليه أن يعلم بأنَّ ذلك ليس من شيمة أهل الإصلاح وَرُوَّاد التغيير، وإنما هو شيمة أهل الكسل والثرثرة :(رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) التوبة[87] وذلك لضعف الإرادة ، وحبُّ الذات والأنانية الَّتي سيطرت على توجهاتنا ، فصار كلٌّ يدَّعي أنَّ منهجه هو الصواب ، وما عداه يضرب به عرض الحائط ولا يبالي. وقد صوَّر حالتنا هذه الشاعر بقوله: كلٌّ يقول : أنا الَّذي
فإذا الَّذي ليس الَّذي يا ويح من لم يفعل ! لقد نامت عدَّة مشاريع على الرفوف ولم تنشر في أرض الواقع بسبب الأنانيَّة وحبِّ التصدر والحديث ، وعشق الرياسة ! فمتى ينتبه دعاة الإسلام لهذا الخلل، ويحاولون إصلاحه؟
[6] [أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم]: من أكبر أسباب هزائمنا انعدام المنهج التخطيطي لدى الكثير من الكوادر القيادية المسلمة ، ومن يقارن حالنا بحال أعدائنا يجد الفرق الهائل والبون الشاسع بيننا وبينهم من ناحية الخطة والتنظيم الحركي والعسكري ، ولذا انتصر كثير منهم علينا ؛ لأننا في الحقيقة واجهناهم بلا خطة ولا تنظيم، وصدق من قال: درجنا على فوضى أضاعت جهودنا *وغالوا بترتيب الجـهود وأقــدموا
وقد يـرجع الحـقُّ المشوَّش خائباً * ويـنتصر البطـلان وهو منـظَّـم فمن اللازم علينا في فترتنا الراهنة أن نعدَّ خطة استراتيجية لمقاومة الاحتلال الصهيو/صليبي ، ولا يتمُّ ذلك إلا بالتأني والدراسة العميقة وقوة التخطيط، وذكاء الترتيب ، وهندسة الأفكار، وبعد النظرة ، وشمول الفكرة ، وألاَّ نهتم بالسرعة في العمل بقدر ما يهمنا قوة إيماننا وفكرتنا والتخطيط لأعمالنا ومحاولة تقسيمها على دوائر العمل والتحضير ، فكثير منا ـ نحن الإسلاميين ـ ، لا ينقصه الزكاء ـ إن شاء الله ـ مع أهمية تعاهده ، بقدر ما ينقصنا الذكاء في العمل، والبراعة في التخطيط ؛ حتى ننجح في عملية المقاومة.
لكن ذلك يحتاج منَّا إلى سرعة تفعيله ، ومبادرة حكيمة في رسمه ، فالأوقات تمضي ، وها هو ابن الجوزي يوصينا قائلاً : ( واعلم أنَّك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب ، ولا تخلد إلى كسل ، فما فات ما فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإنَّ الهمَّة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور)( صيد الخاطر/صـ286). وأختم هذه الفقرة بكلام بديع ذكره الأستاذ المفكر وحيد الدين خان في خواطره قائلاً: [إنَّه من الممكن أن تبني مستقبلاً خيالياً للأمَّة بفيضانات الشعارات والخطب والقصائد الحماسية ، ولكن لا يمكن تعمير مستقبل حقيقي للأمَّة وبدون جهد حقيقي للأمَّة وجهد مخطط طويل الأجل. إنّ َتعمير الأمَّة كزرع البلوط ؛ حيث يجب عليك أن تنتظر قرناً كاملاً بعد زرع بذرة البلوط حتَّى تصبح شجرة مكتملة عملاقة. وإذا كنَّا نريد أن تصبح أمتنا قوية راسخة فلا بد أن نخلق في أنفسنا عزيمة الجهد المخطط الطويل الأمد. أمَّا الذين يريدون أن يصلوا إلى الهدف النهائي بمجرد بدء الهدف، فيجب أن يعرفوا أنَّ جهدهم هذا ليس سوى وثبة نهايتها الموت والفناء، ولا شيء غير ذلك) خواطر وعبر/ صـ7 . [7] [وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمَّرناها تدميرا]: إنَّ من أهمِّ لوازم الجماعة المسلمة التي تريد أن تحقق النصر لأمتها وتكون خير أمَّة أخرجت للناس أن تبتعد كل البعد عن دواعي الترف، والحياة المخملية ، والركون إلى الرفاهية ، وقدْ وصَّى بذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- بعض عمَّاله العرب وهم في بلاد العجم:( إياكم والتنعم وزي العجم، وعليكم بالشمس ؛ فإنها حمَّام العرب، وتمعددوا [1] ، واخشوشنوا ، واخشوشبوا، واخلولقوا) انظر: اقتضاء الصراط المستقيم ـ لابن تيمية ـ رحمه الله ـ . ولهذا لمَّا تربى الرعيل الأول وجيل الصحابة على حياة الخشونة ، والانقشاع من حياة الأثرة والأُبَّهَة ؛ فتحوا البلدان ومصَّروا الأمصار ؛ لأنهم لم يتعلقوا بزخرف الدنيا الفاني، ولا نعيمها الزائل ، فلله درُّهم. قال أبو أمامة- رضي الله عنه- :( لقد فتح الفتوح قوم ما كانت حلية سيوفهم الذهب ولا الفضة إنَّما كانت حليتهم القلابي والآنك والحديد) أخرجه البخاري برقم [ 2909]. ليس المروءة أن تعيش منَعَّماً * وتظل معتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتـنعم إنمـا * خلقـوا ليـوم كريهة وكـفاح قال الشيخ المجاهد عبدالله عزَّام ـ رحمه الله ـ : (لقد رأيت أنَّ أخطر داء يودي بحياة الأمم هو داء الترف الذي يقتل النخوة ، ويقضي على الرجولة ، ويخمد الغيرة ، ويكبت المروءة) ( عبدالله عزَّام لمحمد العامر/ ص119.
ويكفي علماً أن بطر العيش من أسباب هلاك الأمم ، قال ـ تعالى ـ : [ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً ] القصص[58] . فمن الأهمية بمكان أن يعي جيل النصر المنشود هذا الأمر كامل الوعي ، وأن يحذر منه ؛ فكم حذَّر منه أهل العلم والجهاد ، وعلموا أنَّه من أكبر العوائق عن المطالب العلى ، وأنَّه مفتِّر للهمَّة ، مثقل للعزيمة ، فكيف يكون من بُلِيَ به ناصراً لدينه ؟! وهل تسترد الأمجاد والدول بخِرِّيْجِي القصور والفنادق، أم بخرِّيجي المساجد والمعارك والخنادق؟! ولذلك نصر الله رسوله ، وأنجز وعده حين ذاق مرارة الجوع ، وقد أخبر ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ عن نفسه بشيء من تلك المعيشة فقال: (لقد أُخفتُ في الله وما يُخَافُ أحد ، ولقد أوذيت في الَّله وما أوذي أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ـ من بين يوم وليلة ـ وما لي طعام يأكله ذو كبد إلاَّ شيء يواريه إبط بلال) أخرجه أحمد 3/120 بسندٍ صحيح. [8] [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] : لا أظنُّ أنَّ مسلماً يختلف في أهمية أن يكون المسلمون صفَّاً واحداً قبالة أعدائهم ، غير مختلفي القلوب والمنهج ؛ فوحدة الصف وجمع الكلمة من أهمِّ الأمور المعينة على نصر الله ، وقد جاء في صفة الزمرة الأولى التي تدخل الجنَّة أنهم [لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب واحد ] أخرجه البخاري[4/143] فالمنهج الإلهي و القوانين البشرية أوضحا أنَّ الأمة المختلفة والمتناحرة والضعيفة من الداخل لا تستطيع أن تتغلب على الخطر الذي يداهمها من الخارج ، فإنَّ ذلك أمر مستحيل و: (في المنطق الرياضي تنابز القوى الإيجابية تكون المحصِّلة فيها صفراً فكذلك في المنطق الإسلامي تكون المحصِّلة فيها صفراً [ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم] الأنفال[46] ) مابين القوسين مقطع من كلام الدكتور منير الغضبان في مجلَّة البيان عدد[201] صــ55 . ومما يحزن له المسلم في هذا العصر حين يرى ذلك التفرق والاختلاف المذموم بين كثير من فئات الحركات الإسلامية ، وتشكيك كلِّ حركة بالأخرى، وفرض كلِّ حركة على أتباعها نوعاً من الوصاية الفكرية ، فلا تجدهم يقرؤون إلا لمنظري الحركة وعلمائها ، ولو علموا أن أحداً من أتباعهم يقرأ أو يحضر لغيرهم لشنُّوا عليهم حملة عارمة لا هوادة فيها ! وصدق أحد الشعراء حين قال مشخِّصاً اختلاف كثير من أتباع الجماعات الإسلامية ، وتفرقهم وتعصبهم: ومـا شكواي أو شكواك إلا * لفوضى في المجامع وانقسام
تـرى كلاً له أمـل وسعي * وما لاثنين حـولك من وئام لكـل جمـاعة فينـا إمـام * ولكـنَّ الجـميع بلا إمـام وحين رأى الكفار هذا التفرق الذي يدبُّ في أمتنا ، ويفرق بين صفوفها استولوا على كثير من أقطارها لانعدام الوحدة الإسلامية . وهذا ديدنهم في كل حين ، حين يرون أهل الإسلام قد اختلفوا وتشرذموا فرقاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون ، فإنهم سيلتهمون بلاد الإسلام ، وقد نبَّه إلى هذا الملمح الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: ( وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتَّى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصَّب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين ، والمنتسب إلى أحمد يتعصَّب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا، وكلُّ هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه) مجموع الفتاوى[22/254].
فمن الفطنة أن نردم الشقاقات بيننا وأن نتلاقى لقاءً إيمانياً أخوياً ، ولِنُفَوِّتَ على أعدائنا فرصة الفرحة بوقوع الخلافات بين الإسلاميين أو تثميرها واستغلالها لصالحهم. لكن ذلك لا يمنع الاختلاف في وجهات النظر ، ولا يمنع إذا وقع أحد من أهل العلم بخطأ أن يُبَيَّنَ خطؤه ، ففرق بين تبيين الخطأ للناس مع وجود الرابطة الأخوية التي تجمع بين الراد والمردود عليه ، وبين ما إذا أخطأ أحد العلماء أو المجاهدين أو الدعاة أن يكون ذلك بداية للانشطار والتطاحن الفكري، والذي يكون أكثره ليس لله ـ وللأسف ـ بل لحظوظ النفس ورغباتها، أو للحزبية المقيتة. ومن جميل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا المقام: (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتَّبعوا أمر الله ـ تعالى ـ في قوله: [فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا] النساء[59] ، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية ، مع بقاء الألفة والعصمة ، وأخوة الدين . نعم ! من خالف الكتاب المستبين ، والسنَّة المستفيضة ، أو ما أجمع عليه سلف الأمَّة خلافاً لا يعذر فيه ، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع] مجموع الفتاوى لابن تيمية[24/172] . ومن أكبر ما يجمع الناس، ويوحد صفوفهم، بعد الإيمان بالله ـ تعالى ـ وإخلاص العبودية له ؛ الجهاد في سبيل الله ؛ فإنه المصدر الرئيس للرابطة الإيمانية والوحدة الإسلامية ، وتركه والتخلف عنه ينسحب أثره على القاعدين بالسلبية القاتلة ؛ فيكثر جدلهم وتفرقهم ، وتكثر الكتل الحزبية والتجمعات المتفرقة، بسبب القعود عن تلك الفريضة العظيمة. قال العلاَّمة الشيخ ابن تيمية ـ طيَّب الله ثراه ـ :( فإذا ترك الناس الجهاد في سبيل الله فقد يبتليهم بأن يوقع بينهم العداوة حتى تقع بينهم الفتنة كما هو الواقع؛ فإنَّ الناس إذا اشتغلوا بالجهاد في سبيل الله جمع الله قلوبهم وألَّف بينهم ، وجعل بأسهم على عدو الله وعدوهم ، وإذا لم ينفروا في سبيل الله عذَّبهم الله بأن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض] مجموع الفتاوى[15/44ـ45]. وصدق ـ رحمه الله ـ فالواقع خير شاهد على ذلك . [9] [فاصبر إنَّ العاقبة للمتقين]: المتطلب لعزَّة هذه الأمَّة الخيِّرة ينبغي عليه أن يعلم أنَّه إذا عمل لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه أنَّ طريق النصر والتمكين مملوء بالأشواك، ومتشعب الأودية ، ويحتاج لصبر جميل وطويل، فعلى الساعي لذلك أن لا يفرَق من كلام المنهزمين و المخذِّلين والمرجفين؛ فإنَّ هؤلاء قد قطعوا على أنفسهم عهداً للتصدي لأهل الإيمان ، ونذروا أنفسهم لمثل هذه الهمم الدنية ، فعلى من نذر نفسه للهمم العالية ألاَّ يستمع لمقالات هؤلاء المتحذلقين المتفيهقين، وليأخذ بقول الله :[ ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون] الحجر[65] ، وما أجمل قول القائل: لا بد للسـؤدد من أرمـاح
ومـن عديد يتَّقي بالـراح ومـن سفـيه دائم النـباح فالفطن هو من يعرض عن هؤلاء ، لأنَّهم يتمنون أن يلقي بطرفه إليهم ، ويساجلهم ويعارضهم ؛ حتَّى يلهوه عن المقصد الأساس من دعوته ، وقد نبَّه الله نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ فقال له: [ فذرهم وما يفترون] الأنعام[112] .
ولا يخش المرء على نفسه منهم ؛ فمن كان مؤمناً بالله فإنَّه مؤمن بقوله ـ تعالى ـ: [إنَّ الله يدافع عن الذين آمنوا] الحج[38]. فالله ـ عزَّ وجلَّ ـ هو الذي بيده الأمر والحكم، وهو الناصر لعباده ، ومبطل كيد الكفرة والمجرمين ومن أروع ما كتب في ذلك ؛ ما رقمه الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ بقوله : ( ومن رام أن ينصر باطلاً أو يدفع حقَّاً فهو مركوس ، من غير فرق بين رئيس ومرؤوس [وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل] وعند عزائم الشيطان يندفع كيد الرحمن ) أدب الطلب ومنتهى الأرب/ صــ250. ولَعَمْرُ الله ! لن يجد العبد طعم النصر إلا إذا أصابته مطارق الابتلاء ، وتجرع مرارة الأذى فصبر وصابر؛ فإنَّ دين الله لا يقوم إلا على أكتاف أولي الصبر والعزمات ، وحتماً فإنَّ العاقبة للمتقين. قال الإمام ابن تيمية: ( وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا ، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه ، فليصبر، إن وعد الله حق، وليستغفر بحمد ربه بالعشي والإبكار) مجموع الفتاوى[18/295] فعلى أبناء الجيل المسلم أن يتواصوا بالصبر والمصابرة والمرابطة ، وأن لا يزحزحهم عن هدفهم بُهرج المفارق، ولا قلة المرافق، وأن يحذروا كل الحذر من التعجل في طلب النصر ، والتسرع في قطف الثمرة ؛ فليس بشرط أن نرى النصر بأعيننا ولكن لنغرس في نفوسنا العمل لنيله وطلبه ، وقد قال الله لرسوله-عليه الصلاة والسلام- :[ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك] الرعد[40]؛ فالنصر لا يأتي مباشرة إلا إذا سبقته عدة مراحل كانت معينة على تحصيله ، وبمجموع هذه المراحل تتكون عندنا محصلة النصر. لكن علينا أن نربي أبناءنا وأحفادنا لهذا الأمر، ليواصلوا المسير بعدنا ؛ فما نحن إلا معالم يهدي أولها لآخرها: قد هدانا السبيل من سبقونا * وعـلينا هـداية الآتينـا فالمتوجب ألاَّ نستبق الخطى والمراحل، وأن نفقه لكل مرحلة فقهها الواقعي وخطتها المنهجية ، وأن نعي واجب الوقت المخصص لها ، وقد قال الله ـ تعالى ـ: [ وأئتوا البيوت من أبوابها]البقرة[189] فإذا كان ـ سبحانه ـ قد أمرنا إذا دخلنا البيوت أن نأتيها من أبوابها المعروفة فلا نتسلقها ولا نتسورها...فهكذا أمور الحياة جميعاً، وخاصة الوسائل المعينة للارتقاء بهذه الأمة وسيادتها، فإنها لا تأتي خبط عشواء، وإنما بقوة إيمان، وحسن تدبير ، وقوة سياسة. فليس يزيح الكفر رمْيٌ مسدد * إذا هو لم يؤنس برأي مسدد إنها أمور لا تحتمل التأخير ، فكفانا والله تأخراً وتسويفاً عن فعل الصالحات ! والمهم أن نعمل لخدمة هذا الدين ونصرته ، ولا ضير أن يكون عملنا في بدايته بطيئاً ؛ فنحن نريد بطئاً ولكن أكيد المفعول!. [10] [ولا تيأسوا من روح الله إنَّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون]: علينا ألا نقنط ولا نيأس ؛ فإنَّ اليأس من صفة المستعجلين في طلب النصر، وأعظم من ذلك أنه من صفات الكفار كما قال ـ جلَّ جلاله ـ: [إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون]يوسف[87]. و نصر الله لا بد أن يأتي ، وليس صعباً على الله ـ جلَ جلاله ـ أن ينزل الظفر والفوز على المسلمين ، ولكن لله حِكَم من تأخير النصر ؛ ومن أعظمها أن يبتلي عباده ليرى قوة إيمانهم ، وشدة ثباتهم على ذلك ؛ فإذا حصل هذا فإنَّ نصر الله آتٍ [ ولويشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض] محمد[4].ويرحم الله ابن القيم حين قال: والله ناصر دينه وكتابه *ورسوله في سائر الأزمان لكن بمحنة دينه من دينه *ذا حكمه مذ كانت الفئتان والمهم أن لا نيأس ، فاليأس لا يصنع شيئاً ، وهو من صفات العاجزين البائسين ، وكيف نريد من نفس يائسة قانطة أن تنصر دين الله وهي منهزمة في داخلها، ومتحطمة بإرادتها، فلن يكون النصر حينئذ ، فلنرمِ بأغلال اليأس من فوق قلوبنا ولنقرأ :[فإنَّ مع العسر يسراً* إنَّ مع العسر يسراً] الشرح[5] والليـل إن تشتد ظلمته فـإنَّ الفجر لاح
إن كان ليلك أسوداً فالليل في عيني صباح لو كان فجرك غائباً فالفجر في الآفاق لاح وقبل الختام : فتلك عشرة كاملة أرى إن تحققت في واقع المسلمين بصدق وعزم، فإنَّهم سيجنون بعدها العزَّ والفلاح والسؤدد في دينهم ودنياهم ـ بعون الله ـ . وأما من كان ضعيف الهمة ، ساقط العزيمة ، ولم يهتم إلا بدنياه فإنَّ همته لا تدله إلا على أراذل الأمور، وضعيف التجارب ، ويعجبني كلام ذكره الأستاذ سيد قطب- رحمه الله- حين قال: :( إنَّ الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير...فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمنام المريح؟! ولقد عرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيقة الأمر وقدَّره ؛ فقال لخديجة ـ رضي الله عنها ـ وهي تدعوه أن يطمئن وينام: مضى عهد النوم يا خديجة أجل مضى عهد النوم ، وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!] في ظلال القرآن[6/3744]. وما أجمل أن ينطق كلُّ رجل مسلم : لقد مضى عهد النوم وبدأ عهد العمل الشاق لنصرة هذا الدين. وقد أحسن الإمام ابن القيم حين قال: [ لمَّا كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحَّة الدعوى ، فلو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى الخليُّ حرقة الشجي ، فتنوع المدَّعون في الشهود ، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة [ قل إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يحببكم الله ] آل عمران[31] فتأخر الخلق كلُّهم ، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البيِّنة بتزكية [ يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم] المائدة[54]] ا.هـ مدارج السالكين[3/9] ط/ الفقي . وإذا تولينا عن نصرة ركائب الإيمان وفرسان التجديد وعلماء الشريعة الربَّانيين، فإنَّ الله سيستبدل بنا أمة غيرنا تكون هي المهيأة لذلك النصر ، وتذوق طعم العزة ومجد الفتوحات [وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم] محمد [38] إنَّه ـ سبحانه ـ يوضحها ـ حقيقة ناصعة حيث يقول :[يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم] ثمَّ ذكر أوصافهم : [ يحبهم ويحبونه ] [أذلة على المؤمنين] [أعزة على الكافرين][يجاهدون في سبيل الله ] [ ولا يخافون لومة لائم ] ثمَّ بين ـ عزَّ وجل ـ أن :[ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم]المائدة[54].
لئن لم يكن في الأرض أوس وخزرج فلله أوس قـادمون وخـزرج !
بيد أنَّ علينا ألاَّ نمنِّي أنفسنا بالنصر والتغني بأمجاده قبل أن يأتينا ، وأن ننطلق في هذا الوجود بكل همَّة عليَّة ، وعزمة عمرية ؛ لنشر دين الله والتصدي للمردة المحتلين ، وليكون عملنا أكثر من كلامنا وشكوانا ، فإنَّنا في هذه الأيام نتوق إلى ألسن بكم وأيد وضاح ، ونحن في وقت معامع وصولات ، وقعقعات وجولات ، ولسنا في وقت الآهات والحسرات ، فلنخرج من عزلتنا وانكفائنا على أنفسنا إلى مواطن العز والإباء ، ومصانع الرجال، وميادين العمل ؛ فالعزلة في وقتنا هذا ما هي إلا عمل البطالين أو الجبناء ، وقد قيل : إيقاد شمعة خير من لعن الظلام.
وقد روى التابعي الفقيه (عامر بن شراحيل الشعبي) أن رجالاً خرجوا من الكوفة ونزلوا قريباً يتعبدون ، فبلغ ذلك الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم ، فقال لهم : ( ما حملكم على ما صنعتم ؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد ، فقال عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : لو أنَّ الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان سيقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا) الزهد لابن المبارك/ صـ390. فرضي الله عن الصحابي الجليل ابن مسعود ، ما أدقَّ فكره ! ولهذا أقول : لو أنَّ الناس انكفؤوا على عزلتهم أو مشاريعهم الخاصة من زواج ووظيفة وعبادة، فمن سيدعو لدين ربِّ العالمين ، وينشر العلم بين الخافقين؟ ومن يقاتل العدو وينازل الطغاة المعتدين ؟ وخاصة أنَّ عندهم الشيء الكبير من المخططات الخبيثة؛ للاستيلاء على أكبر قدر ممكن على المنطقة الإسلامية ؛ فإن علموا منَّا ضعفاً وتقوقعاً على أنفسنا فإَّن العدو لن يرحمنا ! بل سيلتهمنا لقمة سائغة، ولات حين مندم ! فمزيداً من التفكير الجاد العملي العميق، وإجالة النظر في كتب التاريخ ، والاستفادة من تجارب الماضين واللاحقين، وقد قيل: رحلة العظيم تبدأ بفكرة . ونحن في وقت صعب ومنحنى خطير ، وأمة الإسلام تلتهب حريقاً، وتضطرم ناراً ؛ فإن كنا من أبنائها الصادقين فلنبذل لها الكثير، ولنجاهد بأيدينا وأموالنا وألسنتنا وتفكيرنا ، وبكل شيء نقدر عليه ، فإنَّ:
ذروة الدين جهاد في الصميم * فلنجاهد أو لتلفظنا الحياه
ورحم الله ابن القيم حين كتب: ( وجزى الله من أعان على الإسلام ولو بشطر كلمة خيراً) أعلام الموقعين[4/216ـ217] .
فأدرك يا بن الإسلام أمتك ، وأسرج حصانك ، وشد السير، وصح في الآفاق صيحة ذلك الداعية العراقي : (إنَّ العالم الإسلامي يحترق ؛ فمن استطاع أن يطفئ الحريق ولو بدَلوٍ من الماء ؛ فليفعل] فيا أهل الإسلام: لبُّوا لبيك اللهم لبيك ! وأخيراً : [ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون* وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنَّ الله مع الصابرين] الأنفال[46]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. [1] تمعدد فلان : انتسب إلى معدٍّ ، وتمعدد القوم : تصلَّبوا وتشبَّهوا بمعدٍّ وكانوا أهل قشف وغلظ في المعاش . المعجم الوسيط : 877 : مادة : مَعَدَ. |
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الجمعة، 21 أكتوبر 2022
معالم على طريق النهضة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق