الأحد، 30 أكتوبر 2022

قراءة في كتاب عالم والدي

قراءة في كتاب عالم والدي


أسم الكتاب:عالم والدي

الكاتب: د.محمد حامد الأحمري



الدكتور محمد حامد الأحمري يتحدث  عن  كتابه "عالم والدي"


                     قراءة إبراهيم الدويري

 عالم والدي: وفاء وتوثيق لتاريخ لن يعود

يعرف صاحب “مذكرات قارئ” جيدا العهد الوثيق الذي يربط بين الكاتب والقارئ، وهو عهد تحدده مقدمات الكتب أو عتبات النصوص الأدبية؛ إذ في الأولى يصرح نبلاء المؤلفين بمقاصدهم من تآليفهم ويتركون للقارئ حرية المواصلة أو الترك، وفي الثانية يتحتم على الأديب أن يأتي في بداية عمله الأدبي ما يسجن به المتلقي حتى آخر كلمة، وهذا مضمار المسابقة بين أجاويد الأدباء؛ فمنهم المجلي والمصلي والمسلي والتالي والمرتاح ..إلخ، وخيرهم المجلي الذي يحلق بك، ثم المرتاح الذي يريح بصرك وعقلك في البداية فتنصرف راشدا إلى ما تريد وأنت مرتاح البال أنه لم يفتك شيء.


ووفاء من أستاذنا الدكتور الأحمري للعهد المتين المشار إليه، وتنصلا من ضريبة عواصف أمزجة القراء صارح أبو عمرو المتلقي في الأسطر الأولى “قبل القراءة”، وخاطبه  كعادة الجاحظ مع قرائه قائلا: “قارئي العزيز، ما هذا الكتاب الذي تتصفحه إلا عاصفة شجن وذكرى لزمن ولأهله غبر أكثرهم، وعن حال بقاع وأمة سلفت، تركت في الذاكرة مشاهد وفي الأذن صدى سنين بعيدة توارت خلف أمثالها، تردد بين الفن والتاريخ والاجتماع”، (ص 7).


وهذا التصريح الذي سيق لبراءة الذمة كان خير آسر لمحبي الأدب وقراء التاريخ وهواة رصد التحولات الاجتماعية، فلن يجد المتعبون في ملاحقة هذه الضروب الأدبية أحسن من عواصف الذكريات وأعاصير الشجون وأخبار قوم عاشوا على حافة عصرين: أحدهما وَلَّى بطعمه ورائحته ومشاهده البريئة إلى غير رجعة، وآخر استمر يلون الحياة بألوان خداعة المظهر باهتة المخبر تتشابه أوائلها وأواخرها، ولم تعد الأذن فيه تترقب خبرا غريبا يحمله طارق ليل، ولا العين ترقص لرؤية منتج غريب يفاجئ سكان القرى فينسجون حوله القصص ويتسامرون على أخباره الليالي ذوات العدد.


هذا النوع من التواريخ وذلك الضرب من الأخبار وتلك الأشباه من الفنون يميل لها القارئ بالفطرة ويكون أشد تعلقا بها حين تصاغ بأسلوب رفيع يحمل حرارة الوفاء ولذة الذكريات، ويكون الموضوع نفسه ألح على صاحبه إلحاح الفارس المقدام على مضايقة قِرنه، فحينها يأتي الكتاب “مكتمل الفكرة يرمي نفسه على صاحبه ويكرر الطرق على خاطره بلا ملل”.


وجذوة الوفاء ولوعة الفراق  والطَّرْق المتكرر من المقال أو الكتاب على كاتبه كلها هي السر في خلود كثير من الأشعار والآداب العربية، فالطرق المتكرر هو الذي ينشئ صاحبه أدبا كالذي قيل عنه “خير الشّعر ما روّاك نفسه”، وصدق الوفاء ولوعة الفراق هما اللذان  قال عنهما الأعرابي لما سئل “ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق”، وبين هاتين الجذوتين يتربع كتاب ’عالم والدي’ لمحمد بن حامد الأحمري بصفحاته 165، والصادر عن “أواصر” هذا العام 2022.


لئن كان كتاب ’عالم والدي’ يلاحق عوالم انقضت ولن تعود لسرعة تفلتها من قبضة الزمن بقوة دفع الحداثة المعولمة والتحولات الاجتماعية والطفرات الاقتصادية المتدفقة فإن المؤلف استطاع أن يمسك بجوامعها ومعالمها ليخلدها في حروف باقية؛ ففي ’عالَم والدي’ تجد أخبار جد المؤلف الملقب بـ: “القَثردِي” الذي ارتسمت صورته الأولى في ذهن حفيده عن “رجل ضخم أبيض طويل، قصير الثوب، شديد بياض الوجه وكذا اللحية البيضاء معتدلة، لا طويلة ولا قصيرة”، ثم صورته الثانية وهو في مرض الموت، وأخبار عن جدته لأمه دولة بنت محمد بو مُدَّين التي مات زوجها والسبط لما يتجاوز العامين فـ”كانت في جهدها ونجابتها واتساع أعمالها خاصة بعد وفاة زوجها مبكرًا بالنسبة لها ولعمرها جعلها تحمل دورًا كبيرًا وعبئا ثقيلا في حياتها”.


وعلى هذا النسق من رسم صور قلمية للأشخاص وتوثيق للأوضاع الاجتماعية في قرية بجبال السراة ينقلك الأحمري إلى عالم الطفولة الجميل وبداية قدوم المدرسة التي اتخذت من بيت والده مقرا، وعن الألعاب، وعام رؤيتهم للسيارة ومحورية العسكرية في حياة “العرب” هناك بداية تشكل الدولة الحديثة، وعن آداب القهوة وإكرام الضيوف والاحتفاء بهم وفخر القبائل وأهازيجهم بالقصائد المخلدة لمآثرهم، وعن سلاحهم ولباسهم ولهجاتهم ومصطلحاتهم ومساكنهم ومواعينهم وأعراسهم وغرامهم ومواعيدهم العذرية الجميلة، وعن الزراعة وتعاون السكان في حصادها، ولم يغفل أحاديث الآبار وولائم الختان وذكريات الأعياد.


 وهي صور حية تنقل واقعا متحركا بأناسه وعواطفهم وأقوالهم وذممهم وتجارتهم وقروضهم ومواثيقهم ومناخهم، وعن “قدوم الوهابية إلى الحجاز”  وما أحدثته من نقلة في الوعي الديني وعن أوائل الكتب الدينية والأدبية التي عرفها المؤلف وملأت حياته فيما بعد آلاف منها بلغتي الشرق والغرب .


في كل كتاب ومضات كالمعلم له ومن معالم هذا الكتاب عمة المؤلف السيدة عائشة فقصة هذه اللبؤة وأدوار المرأة في القرى تنقل لنا صورة مغايرة عن ما ترسخ في الأذهان في العقود الأخيرة من تغييب المرأة وانزوائها عن المشهد العام في السعودية وغيرها من البلدان المشرقية، فعائشة “كانت أعجوبة في الذكاء” من زوجة جده الأولى وهي من أخوال المؤلف “الخَلَصَة”، قال والده “إنه لم يعرف أخته إلا بعد عودتها من زواجها الأول بسبب فارق السن، وقد سافرت مع زوجها وأبنائها الذين ماتوا جميعًا عداها ربما بسبب المرض، وقد أرسلت لوالدها وإخوانها من أخبر عن حالها ثم عادت وحيدة “بمطرحها” على ظهرها مع المسافرين وهذا كل ما بقي من أسرتها في تلك الرحلة”.


رحلة الترمل والتثكل هذه لم تنل من عزيمة عائشة التي كانت بحق “زعيمة بلا شعب” فهي كما يقول ابن أخيها “من الناس النادرين الذين تفقد وجودك في حضورهم، ويكون غيابك عن نفسك محببا إليك، فحضورها يقضي على حضور غيرها، وليكن من يكن، هي الوحيدة في المكان، ذكاء ونباهة سخرية وجد فأنت لا تعرف ولن تعطيك هي وقتا لتعرف من أنت في حضورها، هي مدار كل شيء والآخرون لا شيء، موهبة بذاك الحضور الشخصي الكبير الذي يمحو وجود غيرها دون أن يشعروا بإساءة ولا لوم لأنفسهم فقد سلبتهم وجودهم وانتهوا، ولن تفكر بهذه الأفكار في حضورها فهذا شعور تستذكره بعد البعد عن تلك المواقف بسنين وراء سنين، مجرد محاولة لتفسير ما كان يحدث، وكنت أحتاج لفيلسوف ليشرح لي تلك الحال القديمة”.


جرأة عائشة لا حدَّ لها فقد اقتحمت ذات ليلة مجلس والدها لتنقذ زواجا لها كادت تعصف به جدالات أخيها ووفد الخاطب حول المهر وتحديده فقد كانت “تتابع النقاش من خلف الباب ففتحت الباب ودخلت هي المجلس، وكن النساء آنذاك لا يغطين وجوههن وقالت مخاطبة والدها وأخاها: “زَوّجُوه زَوّجُوه” قال فكأنها سكبت علينا ماءً باردًا واستحيينا من الرجال أن نناقش في مهر زواجها نيابة عنها، فقد أنهت الجولة وأسقطتنا نحن محاميها من النقاش، فصمتنا وأنهت هي الجدل لصالح زوج المستقبل”.


وكانت ملكة الوادي “ولها قاموس خاص وتسميات وأوصاف لسكان الوادي، وأبدعت لكل رجل وامرأة من القريبين والبعيدين اسمًا في قاموسها مميزًا تناديه أو تناديها به، وتغضب على من لا يعتمد التسمية التي سمت بها الناس في قاموسها الذي فرضته على الوادي وأهله، ومن تخلف عن قاموسها أو حرّف سقط في عينها ولحقه منها اسم معيب. وكان حديثها مزيجًا من الجد والهزل حتى يعسر على السامع والمحدث متابعة انتقالها بين طرفي الجد والهزل، ينصت الناس لها مبهورين ومتعجبين”.


 وثمة قصص أخرى طريفة ينقلها المؤلف عن عمته “لا لأنها تخص عمته، ولا لأنها مدح فقط لها، ولا لإظهار خلاف مع فطرتها وزعامتها”، ولكنه رأى “في الجيل التالي كثيرًا من النساء متعلمات لكنهن أقل جرأة وأقل ثقة، وأقل تفردًا وإنجازًا، مع أنهن درسن كثيرًا، فلم يرقَ بهن تعليمهن إلى الفهم والمشاركة في الحياة إلا نادرًا، وهذه ظاهرة تضعف أحد ركني المجتمع، لأن وجود ركن صامت مستسلم غائب لا يشارك يصنع الضعف العام”


أطلنا الحديث عن الكتاب ولم نصل بعدُ لوالد المؤلف وذلك لأن ابنه نفسه تهيب الحديث عنه لفترة طويلة وهي هيبة تحمل في طياتها توقير البرور  وجلال الإجلال وزفرات الشوق واتهام الكلمات بالقصور عن التعبير عن ما يحمله الابن لوالده حامد، يقول الأحمري : “حاولت من بعد فراقه أن أكتب عنه، وبالرغم من مرور السنين فما زال يشقّ علي أن أكتب عن والدي، وكنت كلما هممت بالكتابة أو بدأت فيها تراجعت، فمكانه من الروح فوق أن أكتب عنه، وأخشى على ذكراه من قول ضعيف، أو عبارة تقل عن قدره”، تغلب صاحبنا على كل هذا فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا على أن صاحبه يعلم “أن الكلام يقلل من مقدار الرجال عندما يكونون فوقه، فتصبح كل كلمة في وصفهم تختزلهم وتصغّر من مقدارهم، وأحيانًا يرفع القول قومًا صغارًا فوق منازلهم” .


حب الأبناء لآبائهم طبيعة البشر السوي وفي تاريخنا أعلام أغرموا بآبائهم كتاج الدين السبكي الذي خلع على والده من الأوصاف ما يراه الشافعية قليلا في حق تقي الدين، ويراه أنصار ابن تيمية فوق قدره بكثير، والأحمري كتب عن أبيه ذكرى لنفسه وإخوانه وذرياتهم شيئا من تاريخهم وكان الوالد واسطة عقد ذلك التاريخ فهو السلطة المطلقة في البيت، وإن غاب ربته أمه وإخوانه بقولها “بوك يقول”، وفي المجتمع كان والده  كما قال الأول: “إن حضر هابوه وإن غاب عابوه”، “وكان شأنه في القبيلة هو هو في البيت، نراه سلطة بين الرجال حاضرة وفي الجمع نافذة نفوذ سلطته فيهم وكأنه في بيته، وعندما كبر بين الناس بجّلوه، وربما في شبابه لحماسته واندفاعه لرأيه ولشدته وزعامته حمّقوه لحرصه على تحقيق رأيه ورؤيته”.


وكما كان الوالد حاضرا بقوة في تفاصيل القرية والقبائل المجاورة كان في ذاكرة ابنه حاضرا بقوة؛ فعلى عاتقه عرف الابن السفر لأول مرة ليكون بعدها أحد الرحالين القلقين أو كما يقول ” ثم سافرت وسافرت إلى اليوم، وشقيت بالسفر وشقي بي، شقاء برفيق كلما مللته حنّ فعاودني وعاودته” وهي شيمة ورثها من أبيه الذي خبر طرق الحجاز ونجد قطعة قطعة، الأب هو الناصح والمحامي والقاضي والتاجر المقرض والمضياف الهش أخباره تتناثر في الكتاب بدقة وانسيابية موزونتين تصاحبهما أفراح وأتراح لكن خبر مرضه ورحيله وانفعال الابن بذلك الرحيل سيبكي القارئ الذي أضحكته صلابة عائشة وقوة شخصيتها.


ذلك عن الوالد في الكتاب فما ذا عن الأم؟ لا شيء يرجع الرجال أطفالا مثل حديثهم عن أمهاتهم وهكذا حديث الأحمري عن والدته فاطمة بنت سعيد بن عبد الله التي كانت توزع عليه مع إخوانه عيدان البشام سواكًا، كما يقول “وتحسنها في أعيننا وأن البشام ريحه وطعمه زين وينظف الأسنان، وما كنت أعلم أنه بعد سنين سوف أفقد صاحبة غصن البشام، حزينًا تأكلني الأحزان بعيدًا، ولم أر بعدها عود بشام، رحمها الله”.


وعن خبرتها وفطنتها ومذهبها في التربية يقول “كانت تتمتع بمعرفة موسوعية عن النباتات واستخداماتها، فقد عاشت بقرب شديد من البيئة، وزادتها الذاكرة تماسكًا معرفيًّا. كنا نجد فيها المأوى كله، البيت واللطف، والحب والرحمة، والصرامة، فمن وجبت عقوبته منا فلا خلاص له، ومن أحسن فسيسمع مكافأته كلمة أو يجدها تمييزًا في طعام أو غيره. على يدها كانت تفرك أوراق الأشجار لتذيقني إياها، وسمعت منها أسماء النباتات، وما أكثرها، وما أكثر تمييزها للطعوم، وإن تعجب فعجب أنها كانت تعرف من سلخ الذبيحة، من شراتها، وهي طعم ورائحة اللحم والمرق، وتقول للأسف هذي شراة فلان”.


  أما عن علاقتها مع والده فقد ذكر بداية التعارف والتعلق والزواج ثم العشرة معه باعتباره رجلا من قبيلة أخرى فقد كان  “يعجبها من يكسر غرور زوجها، ويعلي شأن قبيلتها في وجه زوجها وأمه التي تستمع ولا تقول شيئًا”، هذا في وقت الرخاء أما في الشدة فقد ردت عن الوالد بعض خصومه الذين هجموا عليه بالضرب فهجمت هي  “عليهم بعمود كبير ودخلت المعركة تضربهم بعنف وهم يصرخون من ألم العمود ويلعنونها ولكنها أوجعتهم فتفرقوا عن الوالد”.


هذه الصلبة المدافعة عن الوالد في الشدة والمناكفة له في الرخاء حين رحل عنها وخلا البيت من الزوار والأخبار قالت: “البيت بلا رجل قبر”، كان رجل البيت ودعها في سفره الأخير كأنه أحس بدنو الأجل وقد رحل بالفعل رحمه الله ودُفِن بدنه، وكتاب ’عالم والدي’ بعث لأخباره حتى لا تدفن كالبدن على أن الكاتب يعترف أن “الحقيقة في علاقة الأب بالابن تبقى هناك حيث لا يدركها قريب ولا بعيد، وقد خشيت من عبث الذاكرة بنا فهي تعاملنا عندما نكبر معاملة الأطفال لممتلكاتهم وألعابهم وما يتمنون اقتناءه، فهي تصغّر كبيرًا وتكبّر صغيرًا، وترفع من تافه وتضع من عزيز، والرقابة عليها ميؤوس منها، وكل الذين حاولوا من قبل أفضوا إلى قناعة بعدم الثقة بالذاكرة فهي خَلوف لا تؤتمن على قريب فكيف بما بعد”، ثم في الختام أشهد أن من يستحضر تلك التفاصيل على طول العهد وتقلبات الأحوال قوي الذاكرة وإن تواضع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق