الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

ما الجديد في إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي؟ (1/2)

 ما الجديد في إستراتيجية بايدن للأمن القومي الأميركي؟ (1/2)

أخيرًا، صدرت عن إدارة الرئيس جو بايدن -الأسبوع الماضي- وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي طال انتظارها، بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على صدور وثيقة الموجهات الإستراتيجية الرئيسية لإدارته مارس/آذار 2021، وبعد مرور نحو  نصف مدته الرئاسية التي تنتهي أواخر عام 2024. صدرت الوثيقة بعد طول انتظار من المختصين والمتابعين والمراقبين، في سياق محلي وعالمي يموج بالكثير من التطورات الاستثنائية التي وصلت حد الرعب النووي.

فما الجديد الذي اشتملت عليه إستراتيجية الرئيس بايدن للأمن القومي الأميركي؟ وهل قدمت حلولًا لاحتواء التصعيد ومنع الانفجار؟ أم أنها ستسهم في زيادة التصعيد العسكري، ومضاعفة الأزمة الاقتصادية والغذائية التي يعيشها العالم حاليًا، وتفاقم من اضطراباته النفسية الناجمة عن التفكير في احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، ولكنها نووية هذه المرة؟

ترى الإستراتيجية أن حاجة العالم إلى القيادة الأميركية كبيرة كما لم تكن في أي وقت مضى، وأن الولايات المتحدة تخوض حاليًا منافسة إستراتيجية كبيرة لتشكيل مستقبل النظام الدولي، وأنه لا توجد دولة في وضع أفضل للنجاح في هذه المنافسة من الولايات المتحدة

أهمية الإستراتيجية

كان من المفترض صدور وثيقة الإستراتيجية نهاية العام الماضي، إلا أن تطورات الأزمة الأوكرانية والحشود العسكرية الروسية على حدودها، وانتهائها بالحرب الروسية على أوكرانيا، وانخراط الولايات المتحدة والدول الغربية اليومي في متابعة تفاصيل هذه الحرب ساعة بساعة، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي والإنساني اللازم تسبب في تأخير صدورها، خصوصًا أن إدارة الرئيس بايدن لم تكن مجرد مراقب لهذه الحرب، بل كانت شريكا أساسيا أسهم عن قصد في إشعالها وتصعيدها، على نحو ما عرضنا له في سلسلة مقالاتنا (حرب الولايات المتحدة في أوكرانيا).

وإستراتيجية الأمن القومي الأميركي عبارة عن وثيقة أساسية تصدر عن البيت الأبيض، وتعبّر عن رؤية الرئيس للاهتمامات والمخاوف والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة، وكيفية التغلب عليها في أثناء فترة رئاسته، وهي عبارة عن تصورات أولية عامة، وليست خطة تنفيذية، بل مجرد موجِّهات أو خريطة طريق، يسهم في إعدادها المسؤولون والخبراء والمستشارون العاملون في البيت الأبيض والوزارات المختلفة، تسترشد بها الإدارة التنفيذية في إعداد خططها السنوية، وفي إعداد جداول عمل الرئيس الداخلية والخارجية.

وبالإضافة إلى كون الإستراتيجية الموجه العام للخطط التنفيذية للإدارة الأميركية، فإنها تمثل نقطة الالتقاء بين البيت الأبيض والكونغرس، التي على أساسها يقوم الكونغرس -بعد إجازتها- بالموافقة على موازنات الرئيس اللازمة لمشروعات الإستراتيجية. كما توضح للشعب الأميركي والنخب السياسية والإعلامية والتكنوقراطية التوجهات العامة للإدارة الأميركية، بهدف استمالتها وكسب تأييدها الذي يتمثل في الدراسات التحليلية وقياسات الرأي العام.

وتتشابه إستراتيجيات الأمن القومي الأميركي للإدارات المتعاقبة -بقدر كبير- في المحاور والقضايا الرئيسية، وتقسيماتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والصحية العامة، وتوزيعاتها الجيوسياسية، مع وجود مساحة للرؤية الخاصة للرئيس وفريق إدارته والمنطلقات الفكرية التي يتبناها حزبه، وتصوراته للتعامل مع المتغيرات والتحديات، بما لا يتعارض مع القيم العامة للدولة الأميركية ومكانتها الدولية، مع شيء من التقديم والتأخير، والتباينات اللغوية والأسلوبية.

نجاح إدارة بايدن النسبي في تعزيز الديمقراطية داخل الولايات المتحدة، سيظل يقابله الفشل الذريع على الصعيد الخارجي، حيث تستخدم الولايات المتحدة الديمقراطية بطاقة حمراء تشهرها في وجه الدول الشمولية المعروفة باستبدادها، وانتهاكها لحقوق الإنسان وقتما دعت مصالحها إلى ذلك

وقفات مع الإستراتيجية

أولًا: العقد الحاسم

نصت الإستراتيجية، التي جاءت في 48 صفحة، في هدفها العام على "الاستفادة من العقد الحاسم (عقد العشرينيات الحالي) لتعزيز المصالح الحيوية لأميركا، وتمكين الولايات المتحدة من التفوق على منافسيها الجيوسياسيين، والتصدي للتحديات المشتركة، ووضع العالم بثبات في طريق يسير نحو غد أكثر إشراقًا وتفاؤلًا".

ويوضح هذا الهدف تطابق رؤية الإدارة الأميركية للعقد الجاري، التي تتطابق مع خطة الأمم المتحدة لتحويل العالم، المعروفة بخطة التنمية المستدامة، والتي أسهمت الشركات الخاصة ومؤسسات المدنية الأميركية بدور كبير في إعدادها وتوجيهها، ومن المفترض أن تتحقق أهدافها الـ17 بحلول عام 2030، ومن بينها محاربة الفقر، والتنمية الصحية، والمساواة والتمكين، والمناخ.

وترى الإستراتيجية أن الولايات المتحدة حاليًا في السنوات الأولى لعقد حاسم لأميركا وللعالم، حيث سيتم فيه تحديد شروط المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى.

ثانيًا: رؤية الولايات المتحدة لنفسها

ترى الإستراتيجية أن حاجة العالم إلى القيادة الأميركية كبيرة كما لم تكن في أي وقت مضى، وأن الولايات المتحدة تخوض حاليًا منافسة إستراتيجية كبيرة لتشكيل مستقبل النظام الدولي، وأنه لا توجد دولة في وضع أفضل للنجاح في هذه المنافسة من الولايات المتحدة، وأن التحديات المشتركة التي تؤثر على الناس في كل مكان تتطلب تعاونًا عالميًا متزايدًا، وأنه لا توجد دولة في وضع أفضل للقيادة بقوة من الولايات المتحدة الأميركية، التي ستقود العالم بقيمها، وستعمل على قدم وساق مع حلفائها وشركائها ومع جميع أولئك الذين يشاركونها مصالحها، وأن الولايات المتحدة لن تترك مستقبلها عرضة لأهواء أولئك الذين لا يشاركونها رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن.

هذه النظرة المتعالية المفرطة في الغطرسة، جعلت الولايات المتحدة أكثر استبدادًا وظلمًا وبطشًا من الأنظمة الشمولية، التي تنتقدها وتوجه سهامها باتجاهها على الدوام، وجعلت الولايات المتحدة تكيل كما تشاء، وتضع المعايير كما تشاء، وتصمم الديمقراطية والعدالة والحرية والحقوق كما تشاء.

ثالثًا: أهداف وإنجازات وتحديات

تحدد إستراتيجية الأمن القومي أهدافها العليا في ما يأتي:

  • حماية أمن الشعب الأميركي.
  • توسيع الازدهار الاقتصادي والفرص.
  • تكريس القيم الديمقراطية في قلب أسلوب الحياة الأميركي والدفاع عنها.

أما الهدفان الأول والثاني، فهما مما يتم تأكيده باستمرار في إستراتيجيات الأمن القومي لدى الإدارات المتعاقبة، ولكن الجديد هنا هو الهدف الثالث، الذي يرد لأول مرة على هذا النحو، انعكاسًا لأزمة الانتخابات الرئاسية، واقتحام البيت الأبيض من قبل الجماهير المؤيدة للرئيس السابق دونالد ترامب. ومن هنا جاء تأكيد إستراتيجية الرئيس بايدن الديمقراطية باعتبارها جوهر الهوية الأميركية، التي لطالما كانت مصدر إلهام للناس في جميع أنحاء العالم، مشددة على أن حكومة بايدن ستعمل على تعزيز سيادة القانون في الولايات المتحدة، وحماية المساواة والكرامة لجميع الأفراد.

تعترف الإستراتيجية بأن الديمقراطية الأميركية لم ترتقِ دائمًا للمُثل الأميركية، حيث تعرضت في السنوات الأخيرة للتحدي من الداخل، مما يقتضي تصحيح الأخطاء، وتلبية الاحتياجات العامة بشكل أفضل، وتوسيع دائرة الفرص، مؤكدة أن الولايات المتحدة ستستمر في الدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، للارتقاء إلى فكرة أميركا المنصوص عليها في الوثائق التأسيسية.

ربما تستطيع إدارة بايدن تحقيق نجاح نسبي على صعيد تعزيز الديمقراطية داخل الولايات المتحدة، ولكن هذا النجاح سيظل يقابله الفشل الذريع على الصعيد الخارجي، حيث تستخدم الولايات المتحدة الديمقراطية بطاقة حمراء تشهرها في وجه الدول التي تتعامل معها، وقتما دعت مصالحها إلى ذلك. فالولايات المتحدة لا تتردد في التعامل مع الأنظمة الشمولية المعروفة باستبدادها وانتهاكها لحقوق الإنسان، ومصادرتها لحرية التعبير، بل وتعتبرها ضمن شركائها الدوليين، ما دامت تتعاون مع الإدارة الأميركية سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا وترعى مصالحها، حتى لو كانت هذه الدول أكبر خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها: الصين وروسيا.

وقد أتاح تأخير إعلان الإستراتيجية لإدارة بايدن أن تضمنها جملة مما تعتبره إنجازات استثنائية حققتها منذ توليها الرئاسة وحتى الآن، مثل:

  • أضاف اقتصادنا 10 ملايين وظيفة ووصلت معدلات البطالة إلى أدنى مستوياتها تقريبًا.
  • إعادة وظائف التصنيع بسرعة إلى الولايات المتحدة.
  • بدء العمل على بناء الاقتصاد من الأسفل إلى الأعلى ومن المنتصف إلى الخارج.
  • الاستثمار في الأجيال المقبلة لتطوير البنية التحتية في أميركا.
  • الاستثمارات التاريخية في الابتكار لزيادة قدرتنا التنافسية للمستقبل.
  • تنشيط شبكة التحالفات والشراكات الأميركية في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي، وتعمل هذه الشراكات على تضخيم قدرة الولايات المتحدة على الاستجابة للتحديات المشتركة.

والتحديات المشتركة هي:

  • الصين التي تمثل التحدي الأكبر والأكثر خطورة، حيث تمتلك النية، وبشكل متزايد، على إعادة تشكيل النظام الدولي لصالح نظام يميل لصالحها.
  • روسيا التي تزعزع السلام في أوروبا، وتؤثر على الاستقرار العالمي، وتهدد باستخدام الأسلحة النووية.
  • التحديات العابرة للحدود، كالأوبئة والتغيرات المناخ والإرهاب.

ورغم أن الحديث عن هذه التحديات استغرق المساحة الأكبر من الإستراتيجية، فإنها لم تقدم جديدًا يتناسب مع الواقع المضطرب الذي يشهده العالم حاليا، وتداعياته المتوقعة، ولا مع المكانة التي وضعت الإدارة فيها نفسها بوصفها مسؤولة عن تحقيق السلام والاستقرار في العالم، وهذا ما سنتناوله في المقال القادم، بإذن الله.

(يتبع…)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق