محاولات فاشلة للهروب من "خبر عاجل"
يقلب المرء عينيه بين سيل من الأخبار لا ينقطع، يتلاطم فيه المحلي مع الدولي، والعربي مع الأجنبي، وكأنما دوّار أصاب العالم فجعله يقذف بكل ما فيه من قصص وأخبار عاجلة وغير عاجلة تستقبلها سواء كنت قاعدا أو قائما أو نائما. تقلبها، تقرؤها، يصيبك الهلع من بعضها، ويأخذك بعضها لمرح مؤقت ينتهي مع ورود خبر آخر أكثر هلعا، تزيح وجهك عنه فيباغتك مرة أخرى عبر خدمة الأخبار السريعة على جوّالك. تهرب بجسدك بعيدا عن منطقة النزاع ومصدر الأخبار المفزعة، تلحق ذاكرتك بك، لا تتركك ولا تغادر مخيالك، فهي جزء منك، بل هي الجسر الواصل بين جسدك وعقلك وموطنك.
تتظاهر بعدم الاكتراث، تغلق جوالك، تفتح كتابا، تغرق بين حروفه، يأخذ عقلك وجسدك إلى مساحة أخرى، ربما أقل ضغطا ولكن أكثر إرباكا. تتذكر تلعثمك في نطق الحروف في صفك الأول قبل عقود، بينما أنت الآن غارق في معانيها، تحاول ربط أجزائها كي تفهم ما يدور حولك. تكبر ويكبر خيالك معك، وتتسع حدقة عينيك مع كل خبرٍ "عاجل" قد يبدو لوهلة غريبا، ولكن يتطلب منك أن تطبّع نفسك وعقلك معه حتى لا يصيبك مسّ من الجنون.
لا تهدأ إلا حين تقرأ خبرا عن أن العلماء اكتشفوا سبعة كواكب جديدة بحجم كوكبنا هذا، عليها صخور ومياه، بما قد يشير لوجود حياة وربما كائنات أخرى تشاركنا هذا العالم الفسيح. يسرح خيالك مجددا، تحلم بأن تهرب إلى أحد هذه الكواكب، وأن تعتزل الأرض
يصاحبك الأرق، فتهرب من الواقع إلى الخيال. تمتد يداك إلى رواية لأصلان أو لأورويل أو أورهان باموك، تغوص فيها، تأخذك حبكتها وحكايات شخوصها بعيداً، ولكن ليس بعيدا جدا إلى الحد الذي قد تنسى فيه واقعك، فواقع الرواية الأصيلة قد يكون أشد كآبة وقهرا من واقعك، ويكفيك هنا أن تقرأ "الحرب والسلم" لتولستوي أو "مئة عام من العزلة" لغارثيا ماركيز كي تعرف أن الخيال يكون أحيانا أصعب وأشدّ من الواقع.
لكن المأساة هي أن تصل إلى مرحلة يغلب فيها الواقع كل درجات الخيال في مأساويته ومفارقاته. وقتها لا تملك سوى الصمت والرغبة في الفناء. تذهب بعيدا في إجازة استجمام، تتعهد بأن تنقطع عن العالم، وتتظاهر بالقدرة على عزل نفسك عن مشاكله، ولكن فجأة يرن هاتفك يسألك شخص على الطرف الآخر "نريدك للتعليق على خبر عاجل حضّر نفسك لو ممكن، سنكون على الهواء بعد دقائق". تصارع رغبة داخلية بين الرفض والعودة لمساحة الهدوء والاستجمام أو القبول من أجل متابعة الحدث وشرحه وتحليله.
فحين تقرأ خبرا عن أن استخدام السلاح النووي لم يعد مجرد خيال وإنما أمرا ممكنا، وتشعر بأن الكون على وشك الفناء مع أي ضغطة زر لرئيس متوتر، فلا يمكنك الصمت أو السكوت، وتحاول، أو هكذا توهم نفسك، أن تفعل شيئا أو تقل كلمة قد توقف هذا العبث والجنون. وعندما يباغتك خبر عاجل بمقتل العشرات بينهم أطفال في أحد قوارب الهجرة غير النظامية، يصيبك الألم وتتمنى أن تلغي وسائل الإعلام خدمة الأخبار العاجلة تماما.
وعندما تداهمك الأخبار التي تأتي من مناطق الحروب والنزاع في بلادنا بسقوط عشرات ومئات وآلاف القتلى والمصابين نتيجة لصراع دموي على السلطة في هذا البلد أو ذاك، تشعر بأن الحياة ليس لها ثمن. وعندما يتباهى قادة عرب ومثقفون وإعلاميون ومواطنون عاديون بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، تشعر بأن الواقع قتل الخيال وأزهق روحه. وحين تقرأ خبرا آخر عن أن رئيسا عربيا يقتل شعبه بالغاز السام دون أن يحرك ذلك ساكنا شرقا أو غربا، تصبح الرواية عاجزة عن وصف واقع فاق في انحطاطه كل خيال.
وحين تعرف أن رئيسا آخر ظل عاجزا عن الحركة لسنوات في حين يدير بلاده من فوق مقعد متحرك، كان يأبى تركه، فاعلم أن خيال الروائيين لم يعد قادرا على مجاراة هذا الواقع الكئيب. وحين تشاهد رئيسا لدولة عظمى، أو هكذا يُقال عنها، يهذي بترهات وأكاذيب ويستخدم لغة وقحة، بينما العالم فاغرا فاه لا يحرك ساكنا كما كانت الحال مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فاعلم أن الخيال على وشك أن يهرب من كوكبنا وهو يصب علينا اللعنات.
ولا تهدأ إلا حين تقرأ خبرا عن أن العلماء اكتشفوا "سبعة" كواكب جديدة بحجم كوكبنا هذا، عليها صخور ومياه، بما قد يشير لوجود حياة، وربما كائنات أخرى تشاركنا هذا العالم الفسيح. يسرح خيالك مجددا، تحلم بأن تهرب إلى أحد هذه الكواكب، وأن تعتزل الأرض، وذلك إلى أن تصحو من حلمك على أزيز خبر آخر "عاجل"، ولكن هذه المرة عن شخص فجرّ نفسه هنا أو هناك، يصيبك الهلع، وتطاردك أشباح الواقع خوفا من أن تجد على تلك الكواكب كائنات أخرى أكثر عنفا ودموية، فتعود إلى واقعك، تُطبّع نفسك معه، تسايره، ولو مؤقتا، وأقصى طموحاتك فيه هو أن يتوقف شريط الأخبار العاجلة ولو مؤقتا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق