انطلاقة عِلْمِ “الاستغراب”
تبدو العملية في ظاهرها كأنّها موجةٌ هجومية حالَّة، جاءت ردًّا على موجةٍ هجومية سالفة، فإذا كان الاستشراق الذي عصفت رِيحُهُ في القرنين الماضيين هو دراسة ثقافات وديانات وحضارات الشرق بعيون غربية؛ فإنّ الاستغراب الذي بدأت نسائمه تهب مع نهايات القرن المنصرم وميلاد الألفية الثالثة هو دراسة حضارة الغرب وثقافته وحاضره وماضيه ومستقبله بعيون شرقية، فهي -إِذَنْ- ظاهرة من ظواهر التدافع الحضاريّ، ومن الطبيعيّ ألا يكون وضع الحضارة الغربية إبَّانَ مَيْعَةِ الصِّبَا وريعان الشباب كوضعها اليوم وهي تعاني تداعيات الهرم والشيخوخة، ففي الأول كانت تطلق السهام وفي الثاني تتلقاها.
التعريف والتحديد
غير أنّ الاستغراب الذي ننشده ينبغي ألا يكون مجرد ردّ على الاستشراق؛ فإنّ ردّ الفعل لا يعدو أن يكون حالة تحاول أن تتخطَّى عقدة النقص، التي ولَّدها الانبهار بالغرب والانهزام النفسيّ أمام هيمنته وصولجانه، ولا أحسب أنّ عِلْمًا يقوم على مثل هذا المركب الشعوريّ المتهافت يمكن أن يقدم نفعًا حقيقيًّا للإسلام أو للشرق أو للإنسانية على وجه العموم، صحيح أنّ الاستشراق نشأ في تربة استعمارية إمبريالية؛ لذلك وقع ما عبر عنه الدكتور حسن حنفي في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” بقوله: “وكان نتيجةً لذلك أن نشأ لدى الأنا الأوربي مُرَكَّبُ عظمةٍ من كونه ذاتًا دارسًا، كما نشأ لدى الآخر اللاأوربي مُرَكَّبُ نقصٍ من كونه موضوعًا مَدْروسًا”، لكنّنا نريد أن نُنْشِئَ علمًا يمهد لتحول حضاريّ يرفع الإنسانية ولا يخفضها، ويرث حضارةَ الإبادةِ تلك، ويقيم حضارةَ تكريمٍ للإنسان .. جنس الإنسان.
ومن هنا فإنّ علم الاستغراب هو “دراسة وتقويم الحضارة الغربية بكل معطياتها في ضوء ما نملكه من الشرع والميزان”، وهذه الدراسة منهجية تتبع المنهج العلميّ الصحيح وآليات المعرفة الصادقة، وهي تقويمية عادلة ومحايدة، لا تنحاز ولا تميل عن الحقيقة، وهي شاملة تستقصي جوانب الثقافة الغربية وتدرس الوعي الغربيّ في أطوار النشأة والتكوين والاستواء، وتتناول الحياة في أوربا وأمريكا بكل مجالاتها السياسية والاجتماعية والمذهبية، تناولا بعيدا عن الانتقائية ومتجردا للحقيقة وحدها، وتذهب إلى الجذور والمصادر التي أمدت الحضارة الغربية المعاصرة بكافّة المكونات اللازمة لبناء العقل وصياغة الفكر.
وهي دراسة مشدودة إلى معايير تقويمية مستمدة من الشرع والميزان، لا من مجرد اقتناعات شخصية أو عرقية أو بيئية، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وهذا عام في كل كتاب وكل ميزان نزل من السماء. وقال سبحانه في القرآن خاصة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48)، أي رقيبا وحاكما؛ يصدق ما جاء في الكتب السابقة من الحق ويكشف ما طرأ عليها من تحريف وتصحيف. وقال في شأن الأمة التي أوتيت الكتاب المهيمن والميزان العادل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143).
بشائر تلوح في الأفق
فيما عدا الدراسات الفردية القليلة التي أشار إلى بعضها كتاب “نحو تأصيل إسلامي لعلم الاستغراب”، من أمثال: رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وغيرهما؛ لم تشهد الساحة الفكرية في بداية اتصال الشرق بالحضارة الغربية نشاطًا في الاستغراب يُذْكَرُ أو يشار إليه بالبنان، أما في الآنِفِ القريب الذي لا يتجاوز نَيِّفًا من العقود فقد نشطت أقلام كثيرة، بدأت كَجَداول متفرقة، ثم أخذت تتجمع في بعض الأنهار الصغيرة، أبرزها موسوعة الاستغراب التي تقوم جامعة قطر بإنشائها، ومجلة الاستغراب التي أسسها وأصدرها المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجية، وقد نُشِرَ منها إلى الآن ستةٌ وعشرون عددًا، والآن تُرَتِّبُ جامعةُ (siirt) بتركيا لمؤتمرٍ دوليٍّ يُعقد بمقر الجامعة في الحادي والعشرين من الشهر الجاري “أكتوبر 2022م”، والوعي بالقضية يمضي في صعود متدرج ونموّ واعد بإذن الله، غير أنّ المشروعَ مشروعُ أمّة، وهو جزء من المشروع الإسلاميّ الكبير، الذي هو -بحسب رؤية الغرب ذاته- المؤهل للصعود.
طلائع شرقية وغربية
وقد لمعت في سماء الاستغراب نجوم شرقية وغربية، وهي نجوم استطاعت -وإن كانت قليلة ومتناثرة- أن تثقب بأشعتها جدار الصمت المطبق. أَذْكُرُ من الشرق على سبيل المثال كتاب “نقد الليبرالية” للباحث المغربيّ الطيب بو عزة، انظر ماذا يقول -مثلا- في ص 130: “ومن هنا فإنَّ النيوليبرالية ليس فيها شيءٌ (نيو) بل هي رؤية تسعى لاستعادة البداية المتوحشة للنظام الرأسماليّ خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر؛ حيث كان للرأسمال كل الحق في طحن المعادن والبشر على حدٍّ سواء؛ من أجل نفخ حافظة النقود”.
وأذكر -على سبيل المثال أيضا- من أهل الغرب علي عزت بيغوفيتش، ومحمد أسد، وموريس بوكاي، ومراد هوفمان، وأسوق هنا مقطعا يمثل أنموذجا لفنّ الاستغراب، ففي كتابه “يوميات ألماني مسلم” ينقل مراد هوفمان عن علماء أصول الدين المسيحيين من أمثال “فون هارناك” و”أدولف شلاتر” و”بول شفارتسناو” اعترافهم بأنّ القرآن قد احتفظ بأقدم وأصدق تفسير عن مكانة المسيح ودوره وطبيعته، ومن ثم أصبح يُذَكِّر المسيحيين ويواجههم بماضيهم”، هذا سوى الكتّاب غير المسلمين الذين نقدوا الغرب، من أمثال “منتوجمري وات” و”إيدموند ج بورن” وغيرهما ممن صدعوا بالحقيقة.
نريد استغراب لا تغريبًا
وإذا كان “التغريب” -الذي هو في حقيقته أحد أصداء الاستشراق- يتمثل اليوم في محاولات إخضاع الثقافة الإسلامية والعربية للهيمنة الثقافية الغربية؛ فإنّ الاستغراب لا يستسيغ ذلك المسلك الهابط، بل إنّ أحد أهداف الاستغراب مواجهة موجات التغريب، وإحباط المحاولات البائسة النكدة التي يقوم بها مِنْ قومنا مَنْ يدَّعون الحداثة، وهم عن روح الحداثة بعيدون، ولكي يكون استغرابا لا تغريبا لابد من قيامه على أسس متينة من الاستقلال والتجرد والثقة بالشرع والميزان، والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق