الخطرُ الأكبرُ على العمل الإسلاميّ من أبنائه لا من أعدائه
في كتابه “دستور الوحدة الثّقافيّة بين المسلمين” يقول الشّيخ محمّد الغزالي رحمه الله تعالى: “اسمع يا أخي: أنا لا أعتبرُ التّتارَ هم مسقطي دولة الخلافة في بغداد، إنّ الخلافة أسقطتها من قبل قصورٌ مترعةٌ بالإثم، متخمةٌ بالملذّات الحرام.
أنا لا أعدّ الصّليبيّين هم مسقطي دولتنا في الأندلس، إنّ المترفين النّاعمين هم الذين أنزلوا راية الإسلام عن هذه الرّبوع الخضرة، إنّ ملوك الطّوائف في الأندلس لم يكونوا أبناء شرعيّين لطارق بن زياد، ولا لغيره من الأبطال الذين باعوا أنفسهم لله فأورثهم الأرضين.
إنّنا نحن قبل غيرنا العقبة الأولى أمام دينٍ عظيم، إنّ التّحدّي الأوّل يجيءُ من داخل أرضنا ثمّ تجيءُ من بعده تحدّيات الأعداء التّقليديّين”.
الانحرافُ عن الخطّ الإسلاميّ
شيئًا فشيئًا تسرّبت القيم العلمانيّة إلى داخل صفوف العاملين في الحقل الإسلاميّ، وامتزجت باقتناعات عدد لا بأس به من قيادات الجماعات الإسلاميّة على اختلاف توجّهاتها، وتسربلت بها تنظيرات منظّريها.
فأصبحت القيم الإسلاميّة سائلةً تُراقُ لأجل الغاية المصلحيّة الموهومة، وغدت الغاية تبرّر الوسيلة، وصار الفصل بين الحكم الشرعيّ والقرار السّياسيّ مستساغًا، وأصبحت المبادئ الإسلاميّة التي كانت من الثّوابت في الخطاب البنائيّ التربويّ لتلكم الجماعات رخوةً لا يستقرّ لها قرار.
والمشكلة لا تكمن في الانحراف عن الخطّ الإسلاميّ فحسب، بل في إسباغ التوصيفات الشرعيّة على هذا الانحراف، فصرنا أمام علمانيّة بلحية وعمامة.
وقد تأخذ التّسويغات طابع القياس على سلوكيّات أنظمة حكم في دول، ويفوت هؤلاء من أبناء الجماعات الإسلاميّة على اختلافها أنّ من يقدّم نفسه بتوصيف “الإسلامي” أو يعلن أنّه يلتزم المنهج الإسلاميّ في عمله سواءً في مواجهة الطّغاة المستبدّين، أو المغتصبين المحتلّين يجب عليه أن ينسجم في سلوكه وأعماله مع المنهج الإسلاميّ الذي يرفض الفصل بين السّياسة والأخلاق، والفصل بين السّياسة والحكم الشرعيّ، والفصل بين السّياسة والوسائل المشروعة رافضًا الميكافيليّة القائمة على أنّ الغاية تبرّر الوسيلة.
إنّ هذا الانحراف عن الخطّ الإسلاميّ يفتك بالعمل الإسلاميّ، وكياناته المختلفة من جماعات وتنظيمات وتيّارات ومدارس أكثر من فتك أعدائهم المتربّصين بهم.
بأسهم بينهم شديد
في حديثٍ صحيح الإسناد ينبغي أن يضعه العاملون في الحقل الإسلاميّ، وقيادات الجماعات الإسلاميّة قبل أفرادها أمام أعينهم كلّ الوقت يقلّبون فيه النّظر ويتذكرونه كلّ حينٍ؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها، وأعطيت الكنْزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمّتي أن لا يهلكها بسَنَةٍ عامةٍ، وأن لا يُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ؛ وإن ربّي قال: يا محمّد، إذا قضيتُ قضاءً فإنّه لا يُرَدُّ، وإنّي أعطيتك لأمّتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها، حتى يكون بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا ويَسْبِي بعضُهم بعضًا”.
إنّ هذا الحديث واضحٌ صريحٌ في أنّ الخطرَ الأكبر على العاملين للإسلام هو من داخلهم لا من أعدائهم، وهو حديثٌ تحذيريّ يبيّنُ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّ هذه الأمّة لا يجتثّها عدوّ ولا يستأصل شأفتها غادر، ولا تمحوها من الوجود كارثةٌ طبيعيّة، بل الخطرُ الأكبر عليها هو من أبنائها أن يغدو بأسهم بينهم شديدًا.
إنّ الله تكفل لأبناء هذا الدّين بأن لا يهزمهم عدوّهم ولو اجتمعت عليهم الدّنيا كلّها إن كانوا على منهج الحقّ آخذين بأسباب النصر، ينصرون الله فينصرهم، ويواجهون عدوّهم صفًّا واحدًا كأنّهم بنيانٌ مرصوص.
أمّا إن تسربّت إليهم الخلافات والنّزاعات من شقوق الانتصار للذّات، وبدأت تنمو داخل جماعاتهم أورام الشّلليّة، واندلعت الحروب الباردة داخل الصفّ الإسلاميّ على أساسٍ مصلحيّ ذاتيّ ضيّق، أو على أساسٍ مناطقيّ بائس، عندها يكون الفتك بالعمل الإسلاميّ وكياناته وجماعاته بأيدي أبنائه لا بطائرات وصواريخ ومؤامرات أعدائه.
إنّ ربّنا تبارك وتعالى بيّن لنا في كتابه الكريم أوصاف عدوّنا، وشرح لنا مواطن ضعفه، فقال جلّ في علاه في سياق الحديث عن يهود بني النّضير: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14).
وانظر إلى بديع الوصف الإلهي في الاقتران بين كَون بأسهم بينهم شديدًا وكَون قلوبهم شتّى، وهي علاقة تبادليّة؛ فعندما تغدو القلوب شتّى متفرّقة يغدو بأس أبناء الكيان الواحد بينهم شديدًا، وحين يكون بأسهم بينهم شديدًا تتعمّق الشّروخ بينهم ولو كانت الصّورة الظاهرة أنّ النّاس يحسبونهم جميعًا قلبهم واحد وتوجّههم واحد.
ولقد كان مآل أعدائنا حين صار بأسهم بينهم شديدًا وغدت قلوبهم شتّى أنّهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر: 1).
فأولو الأبصار المأمورون بالاعتبار هم الذين يعلمون أنّ تسرّب داء أعدائهم إليهم مُهلك لهم، فإذا أصبح بأسهم بينهم شديدًا وقلوبهم شتّى فإنّهم سيخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من الطغاة المستبدّين والمحتلّين الغاصبين.
إنّ هذه صيحةُ نذيرٍ عسى أن يتدارك أولو الأبصار في العمل الإسلاميّ في مختلف الجماعات والكيانات أمر أنفسهم فيتنبّهوا إلى مواضع الخطر الأكبر على العمل الإسلاميّ الذي ينبع من داخلهم قبل أن يأتي من عدوّهم، ولعلّهم يشمّرون عن سواعد العمل العلاجيّ العمليّ الذي لا يقتصر على محض وعظ النّاس في الرّجوع إلى ربّهم ودينهم؛ فهذا وحده -على أهميّته- من دون مصارحات ومكاشفات عميقة ومراجعات منهجيّة سيكون ذرّ رمادٍ في العيون ليس أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق