قضيتا الحجاب والعلويين كيف تكشفان طريقة تفكير حزب الشعب الجمهوري؟
ينكشف نهج التفكير للأحزاب السياسية في البلاد بناء على مواقفها من قضايا المجتمع المختلفة سواء كان بالدعم أو الرفض أو التشجيع أو الحياد. الاختلاف الواضح بين نهج حزب الشعب الجمهوري (حزب المعارضة الأول في تركيا الذي أسس الجمهورية) تجاه مسألة الحجاب، ونهج حزب العدالة والتنمية تجاه العلويين يكشف مدى الاختلاف والبون الشاسع في الأسلوب السياسي لكل منهما.
في الواقع، سنتحدث أولاً عن الحجاب الذي أعتبره مثالا كافيا ووافيا لمن يريدون أن يتمعنوا ويروا الفرق بين سياسة هذين الحزبين، لأن موقف كل منهما من الحجاب يُبيّن الاختلاف بين من يتبعون في تفكيرهم التفكير الغربي والنزعة التحديثية البعيدة عن ثقافتنا، ومن يهتم بثقافة وروح العالم الإسلامي ويسعى إلى أن تكون تركيا في مكانتها الرائدة.
لم يتكبد المثقفون والسياسيون من الكماليين واليساريين أي عناء للتحقق من مدى صحة هذه الرواية، وهم يرون المحجبة ضحية يجب إنقاذها حتى إذا تطلب الأمر التضحية بجيل من المحجبات، والتضييق عليهن وممارسة العنصرية تجاههن، ومنعهن من أحلامهن وطموحاتهن واتخاذ قرارات مجحفة ضدهن
متبعًا أسلوب "اليعاقبة" السياسي -هي العلمانية المتشددة في تركيا على غرار حركة اليعاقبة في الثورة الفرنسية- تبنّى حزب الشعب الجمهوري مفاهيم حول المجتمع لم يخضعها أبدا للنظر والمراجعة. وبالرغم من اختلاف النسيج الاجتماعي والسياسي الكبير في تركيا، فإنه غير حريص على قراءة المشهد السياسي جيدا ويتحدث باسم المجتمع حسبما يريد ويرغب وليس وفقًا لما هو موجود بشكل حقيقي.
خير مثال على ذلك استمرار حزب الشعب الجمهوري لسنوات متتالية في سرد قصة أن الحجاب يُقيّد من حرية المرأة ويبقيها أسيرة النظام الأبوي، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد النساء المحجبات بشكل لافت في تركيا، ارتفاعا وصل إلى 53% من سيدات تركيا. فبمجرد إعلان حزب العدالة والتنمية عند توليه الحكم السماح لطالبات المدارس بارتداء الحجاب لمن أرادت منهن ذلك، ارتفع مباشرة عدد المحجبات داخل المدارس بشكل لافت.
لم يكوّن الحزب هذه الرواية عن الحجاب بناء على قناعاته الخاصة أو توجهاته، ولكن توصل إليها عن طريق دراسات معمقة واستبيانات عدة وجهت إلى المحجبات والاستماع إليهن ومعرفة آرائهن. وقد بنى حزب الشعب الجمهوري نظرته من خلال وجهة نظر استشراقية خيالية حول التركية المحجبة، وقولبها في قالب الرجعية والتخلف طالما أنها لا تتشبه بالغرب. ولم يتكبد المثقفون والسياسيون من الكماليين واليساريين أي عناء للتحقق من مدى صحة هذه الرواية، وهم يرون المحجبة ضحية يجب إنقاذها حتى إذا تطلب الأمر التضحية بجيل من المحجبات، والتضييق عليهن وممارسة العنصرية تجاههن، ومنعهن من أحلامهن وطموحاتهن واتخاذ قرارات مجحفة ضدهن.
عندما أدلى "كليجدار أوغلو" بتصريحات حول مسألة الحجاب، تطرق أبرز الكتاب المتخصصين في علم الاجتماع من اليساريين في صحيفة "جمهوريت" إلى هذه المسألة وناقشوها. يتضح من تصريحاته أنه لم يصل لمستوى علم الاجتماع الفهمي ويتشبث بفهم سطحي لعلم الاجتماع التوضيحي بمفاهيمه الخاصة، وكرر في تصريحاته أن الحجاب مجرد "غطاء للرأس"، وتحدث عن التوجهات السياسية لمن يرتدين الحجاب وحصرها في أولئك المنتمين لحرب العدالة والتنمية، وكأن كل هؤلاء المحجبات في تركيا ارتدينه لتوجه سياسي وليس رغبة في تطبيق شرع الله وأوامره للمرأة المسلمة. ولكن السؤال الآن هو: هل تحدث مع هؤلاء المحجبات وسألهن ليعرف توجهاتهن السياسية الحقيقية؟ هل عرف منهن ما هو السبب الذي ارتدين الحجاب لأجله؟ وهل يُعقل أن يكون علم الاجتماع بالنسبة لرئيس أكبر حزب معارض في تركيا أن يكون عبارة عن مجموعة من الأحكام الصدرة مسبقا على فئات المجتمع المختلفة دون وعي أو تعقل؟
المجتمع والأحكام المسبقة
من يتبنون التفكير طبقاً لـ "علم الاجتماع التوضيحي" يفهمون الواقع بناءً على النظريات الموجودة في عقولهم، ولا يهم ما يقوله أو يفكر به من يتحدثون عنه سواء كان فردا أو جماعة أو مجتمعا؛ أما "علم الاجتماع الفهمي" فهو علم يقوم على الإصغاء لما يقوله الأشخاص الذين تتحدث عنهم قبل أن تلجأ إلى نظرياتك الخاصة وتفسر سلوكهم طبقا لها. الفرق واضح، أليس كذلك؟ يمكن ملاحظة الفرق بينهما في الأسلوب المتبع في الخطابات السياسية عند الحديث مثلا عن الأكراد أو العلويين أو المحجبات.
استمع حزب العدالة والتنمية إلى هذه الشرائح من المجتمع في تركيا مثل الأكراد والعلويين والغجر، وتحدث معهم بدلا من الحديث عنهم دون فهم أو معرفة، ولم ينسب إليهم مفاهيمه الخاصة بل عرّفهم ووصفهم كما يريدون هم وبنظرتهم لأنفسهم.
في المقابل، نجد أن حزب الشعب الجمهوري الكمالي تحدث عنهم وعرّفهم وصنفهم بناء على مفاهيمه الخاصة، ومن الجدير بالذكر أن من يسمون أنفسهم بالأكراد بل هم أتراك قلباً وقالباً، كانوا فقط يصدرون أصواتًا يسمى "كارت كورت" (ومن هنا جاءت تسمية الأكراد) أثناء المشي في الجبال، ولذلك نحن نراهم مواطنين أتراكاً بالكامل، مع بعض الاختلافات الشخصية التي يتبنونها. يرى الكماليون أن مطالب الهوية والثقافة التي ظهرت اليوم هي عبارة عن مطالب انفصالية خبيثة؛ وهو لا يعترف بالعلوية أيضًا بل يعتبرها مثل جميع المطالب الدينية رجعية.
نوقشت كل هذه المسائل في فترة الانفتاح الديمقراطي لحزب العدالة والتنمية، الذي كان ملمًا بأصل المشكلة قبل الوصول إلى السلطة، ثم تحدث إليهم بعد ذلك باسم الدولة واستمع إلى مطالبهم. وحظيت قضية العلويين باهتمام خاص وأقيمت لها سلسلة من الندوات وورش العمل بتنسيق "نجدت سوباشي" وإشراف الوزير "فاروق تشليك" ما بين 2009 و2011، لتقدم نموذجا رائدا عن السياسة الحقيقية المبنية على الفهم، مقارنة بالأسلوب السياسي المتبع بين أحزاب المعارضة في تركيا.
اهتمت الدولة بالفئات المهمشة واعترفت بحقوقها ومكنتها من إيصال صوتها. لم تكن الدولة تفرض عليهم صفات من نسج خيالها، بل كانت تتحدث إليهم وتحاورهم من خلال اجتماعات وندوات متكررة، لكن بعض الأحزاب والجمعيات التي كان لديها أحكام مسبقة عليهم لم تكن تقدر مدى أهمية هذه الندوات، حتى أن هناك من اعتبر المشاركين في تلك الندوات "متخاذلين" لكن لم تلتفت الدولة إلى هذا الكلام، لأن هدفها في هذا الأمر كان واضحا دائماً ونصب عينها هو الاندماج مع الشعب والدفع باتجاه التماسك الهيكلي المجتمعي في تركيا، واعتبرت هذا الهدف من أهم خططها التي سعت إليها وحققت نجاحاً كبيراً فيها.
مذهب علوي تحت إشراف الدولة
أبرز اعتراض على هذه الندوات كان الادعاء بأنها تحاول خلق مذهب علوي تحت إشراف الدولة، ولم يكن هذا هو هدف الدولة، كانت الدولة حريصة أن تستمع لهم جيداً وتحاول فهمهم، حتى تستطيع أن تخلق الوسائل التي تسهم في أن يكونوا جزءا أصيلا من النسيج الاجتماعي لتركيا وأن يندمجوا فيه دون قلق.
بيت الجمع
جدير بالذكر أن الأتراك العلويون يؤدون عباداتهم في غرفة كبيرة تسمى "بيت الجمع" وهم لا يبنون المساجد، ويفسرون ذلك بأنه لم يكن هناك مساجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (حسب معتقدهم)، كما يبررون ذلك كون علي بن أبي طالب قتل في المسجد، وطلبوا من الدولة التركية بناء العديد من هذه البيوت لهم.
كان من المستحيل على الدولة الموافقة على مطلب "اعتبار بيوت الجمع من دور العبادة" لأن هذا ليس من صلاحياتها. ولا ينبع ذلك من رفض فكرة اعتبار "بيت الجمع" كمكان للعبادة، وإنما الموافقة على بناء هذه البيوت يعني ضمناً وكأن العلويين يدينون بدين آخر غير الإسلام وهو الأمر الذي لا تعتقده الدولة، التي ترى أن العلويين مسلمون ولكن بفهم مختلف.
بعد الحديث مع العلويين وجدنا أن من أكثر ما يغضبهم أنهم يرون أن المسلمين السنة لا يعتبرون العلوية من الإسلام، وإذا اعترفت الدولة ببيوت الجمع مكانًا منفصلًا للعبادة سيكون هذا بمثابة تصريح رسمي منها بأنهم بالفعل ليسوا مسلمين. ومن بين الحلول المتعلقة بمسألة العلويين، ترك الرئيس أردوغان القرار للعلويين فيما يتعلق بـ "بيوت الجمع"، وبهذا يكون قد رد على مطالبهم بشكل دقيق للغاية. وهذه الحلول المهمة هي نتيجة للندوات التي زُعم أنها لن تجدي نفعًا وانعكاسٌ لخلفية فكرية واسعة وأسلوب سياسي متفهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق