الاثنين، 31 أكتوبر 2022

عاصفة بهاء طاهر وصافيناز كاظم

 عاصفة بهاء طاهر وصافيناز كاظم

وائل قنديل

اشتعلت الحرب ولم تهدأ بعد، منذ علقت الناقدة والكاتبة المصرية، صافيناز كاظم، على رحيل الأديب الكبير بهاء طاهر، طارحًة رأيها في أعماله الروائية، ومكانته في الوسط الأدبي. .. 

كتبت بأسلوبها المعروف، والذي صار عنوانًا لشخصيتها النقدية وجهة نظر سلبية للغاية في تقييم الأديب الراحل صاحب الجماهيرية العريضة.

كتبت صافيناز في منشور لها على"فيسبوك" عنه "مات بهاء طاهر، كان من كوابيس جيلي الثقافية؛ لو جاملناه نقول روائي متوسط الموهبة، استحلّ لنفسه جوائز كثيرة مغتصبة ممن كانوا أحق". هذه اللغة الفاجومية في الهجاء النقدي اعتبرها بعض جمهور بهاء طاهر شططًا وتطرّفًا ولددًا في خصومة ما لا يعلم تفاصيلها أحد، فاندلعت حملة من الردود العنيفة على الناقدة اشتملت على إساءاتٍ وشتائم بذيئة، بلغت حد الطعن في وطنيتها واتهامها بالإرهاب، إلى آخر تلك القائمة المعتمدة في افتراس الخصوم واستباحتهم منذ خرجت مصر عن مدارها الإنساني والأخلاقي على نحو مفزع مع انقلاب 2013، إذ بات توجيه الاتهام بالتأخون والإرهاب ذخيرًة متاحة وميسّرة لكل من أراد الفتك بمن يختلف معهم.

شخصيًا، أرى في الراحل بهاء طاهر علامة مهمة في مسيرة الرواية العربية، وصاحب منجز إبداعي حقيقي، غير أن ذلك كله لا يمكن أن يدفعني إلى اغتيال كل رأي مغاير في الأديب الراحل، بل والانحدار أسفل من ذلك لاغتيال صاحب هذا الرأي معنويًا، فما بالك لو كان صاحب الرأي المغاير ناقدة وكاتبة بحجم صافيناز كاظم، التي لم تفعل أكثر من حقّها في إبداء رأيها في أحد الكتّاب المهمين وفي أعماله.

ما المشكلة في أن تقول صافيناز كاظم أو غيرها إن بهاء طاهر، أو أي كاتب آخر، متوسّط الموهبة أو حتى عديم الموهبة، وأنه حصل على مكانة وجوائز هناك من كان يستحقها أكثر منه؟. .. بعيدًا عن مسألة التوقيت ومناسبة الرحيل، فإن ما كتبته صافيناز كاظم يبقى رأيًا نقديًا في أديب وأعمال أدبية مطروحه للرأي العام، وهذا هو النقد، أو ما يفترض أنه النقد لولا أننا في مرحلة شديدة البؤس والانحطاط في التعاطي مع كل وجهة نظر تصطدم بالسائد والشائع، المفروض بقوة الإرهاب الإعلامي والسياسي وكأنه أصنام مقدّسة، ممنوع الاقتراب منها أو ذكرها بسوء.

في تاريخ الحياة الثقافية المصرية معارك واشتباكات أعنف من ذلك بكثير، اشتعلت وتوقفت في مجالها الثقافي من دون أن تجد الأطراف المشتبكة فيها نفسها متهمةً بالإرهاب والمس بالوطن ورموزه وتابوهاته وأصنامه. من ينسى معارك الناقد الكبير الراحل فاروق عبد القادر مع السائد والمنتشر بقوة السياسة من أدباء وأعمال أدبية ذات شهرة واسعة وقداسة إبداعية زائفة ومصنوعة أمنيًا وسياسيًا؟ من ينسى أوراقه من الرماد والجمر التي حطّم من خلالها أصنامًا وهدم صوامع للشلل الثقافية؟. من ينسى الفاجومي الراحل أحمد فؤاد نجم ومعاركه المحتدمة ضد أصنام المؤسّسة الثقافية الرسمية، من أدباء وفنانين، مفروضين على الناس بسلطة الواقع السياسي. ومع ذلك، لم يقل أحد إن الفاجومي ليس شاعرًا ، ولم يجرد من وطنيته.

كانت صافيناز كاظم زوجة للفاجومي نجم، وهي أم ابنته، وأيضًا صاحبة قلم شديد الفاجومية منذ عرفتها الحياة الثقافية كاتبةً وناقدةً منذ ستينات القرن الماضي، تكتب بهذه الحدّة وتقول رأيها بمنتهى الوضوح والصرامة، وكانت تأتيها الردود من الخصوم حادّة وعنيفة أيضًا، لكن من دون الطعن في إنسانيتها ووطنيتها وجدارتها كاتبة وناقدة.

حين سئل الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم عن تسميته "الفاجومي" ومعناها، قال "كلمة فاجومى في العامية المصرية بتستخدم للدلالة على الشخص المندفع اللى يقدّر يقول ــ يا غولة عينك حمرا ــ بنفس السهولة اللى يقول بيها كلمة ــ سلامو عليكو". وهذا ما فعلته صافيناز كاظم، الشاهدة على الحياة الثقافية المصرية أكثر من نصف قرن، وهي تتناول بهاء طاهر كاتبًا ومسؤولًا ثقافيًا، قد تتفّق معها أو تختلف، لكن ذلك لا يبرّر استهدافها في منصّات البذاءة والتسفّل، كما لا ينفي أن الجسد الثقافي مصابٌ بسرطان التزييف والشللية منذ منتصف القرن الماضي، وأن هناك من الأسماء من حصل على شهرة ومكانة هو أصغر منهما بكثير.

في ذلك أتذكّر أني أجريت حوارًا مع الروائي الراحل خيري شلبي، نشر في "روز اليوسف" سبتمبر/أيلول 1990 سألته فيه عن تأخر وصول أعماله إلى الجمهور العادي، مقارنة ببعض أبناء جيله، فقال بالنص: "عانيت كثيرًا ومازلت أعاني لكي أبقى حيًا في غابات النشر والدعاية من محترفي التزوير في الحياة الأدبية، فأنا لستُ عضوًا في شلة ولا في حزب، أنا لستُ إلا عضوًا في المجتمع الإنساني القروي المصري، وطوال عمري أعاني من وضعيةٍ غير طبيعية، وبما أنني هكذا فقد حاربني أولئك الذين يحشرون أنفسهم في زمرات السياسة. ورغم حزني في السنوات الفائتة وأنا أشاهد أنصاف وأرباع الموهوبين يعيشون كالملوك، ورغم أنني على كثرة ما كتبت وأخلصت كنت ومازلت أعاني في المسكن والمأكل والمواصلات وتربية الأولاد على أدنى مستوى من الحياة، تحت مستوى الكفاف بكثير لدرجة أنني استوطنت المقابر واتخذتها مسكنًا لي وكنت أحزن وأتمنى أن يجيء علي وقت أكتب فيه دون أن أتحسس علبة سجائري لأطمئن على عدد السجائر الباقية، ودون أن أذعر من جرسون المقهى الذي قد يطالبني بما ليس في جيبي..ولكن لم أخسر نفسي وهذا هو المكسب العظيم".

رحم الله بهاء طاهر، ورحمنا من عصابات الابتزاز والبذاءة التي تنشب مخالبها في كل صاحب رأي مختلف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق