رهاب الأخلاق.. نهاية الأخلاق أم نهاية العالم؟
- تناول كتاب "نهاية الأخلاق: أخذ إلغاء الأخلاق على محمل الجدّ" (The End of Morality: Taking Moral Abolitionism Seriously) قضية نهاية الأخلاق من جوانب متعددة، طارحا مجموعة من الأفكار والتصورات التي عبّرت بشكل مباشر وصريح عن التحولات الكبيرة التي أصابت المجتمع البشري، في نصف القرن الماضي على وجه الخصوص، والتي انعكست في كتابات طائفة من المفكرين والباحثين الغربيين الذين تبنّوا نظرية "الخطأ الأخلاقي" التي ترى أن جميع الأحكام الأخلاقية خاطئة، وهذا يعني أن على العالم أن يتخلى عن الموروث الأخلاقي، ويضع القوانين والتشريعات التي تعتبر أكثر ضبطا للسلوك البشري من الأخلاق.
والكتاب لا يتحدث عن نهاية الأخلاق كتجسيد لحالة الانهيار الأخلاقي التي يشهدها العالم، وإنما يدعو إلى إنهاء الأخلاق وقطع جذورها الدينية والاجتماعية. وبالرغم من أن هذا الحراك الفكري ظلّ بعيدا -كالعادة- عن أي مساهمات جدية مؤثرة، عربية أو إسلامية، فإن آثاره في العالم عامة، وفي بلداننا ومجتمعاتنا وبيوتنا خاصة، لم تعد تخفى على أحد.
جهود كثيرة تهدف إلى القضاء على الأخلاق وإخراجها من حياة الناس بمرجعياتها الدينية والاجتماعية، دون التفكير في العواقب التي ستترتب على ذلك، والثمن الذي ستدفعه البشرية في المقابل
فماذا يقصدون بالأخلاق؟ وما الذي تتحدث عنه نظرية الخطأ الأخلاقي؟ وما النجاحات التي حققتها؟ وما تقاطعاتها مع الدين والسياسة والقانون والاقتصاد وتغير المناخ..؟ وما علاقتها بالحركة النسوية ونظرية النوع الجنساني، والميول الجنسية وما حققته من إنجازات تشريعية وقانونية لتقنين وشرعنة حرية الانحراف الجنسي بكل أنواعه المعروفة والتي لم تعرف بعد؟ ما المظاهر والتجليات التي تمثلت فيها هذه الأفكار؟ وما الآليات التي ساعدتها على الانتشار والتأثير؟ وما الآثار المترتبة عليها في العالم وفي بلداننا ومجتمعاتنا وأسرنا؟ هل تتطور الأخلاق؟ وكيف؟ وهل هناك جهات رسمية ومدنية مسؤولة عن التعامل مع الأخلاق، رعاية وتطويرا أو محاربة وإنهاءً؟
ما أهمية الأخلاق بالنسبة للمجتمع؟ وهل تغني التشريعات القانونية والدستورية عنها؟ هل يمكن للمجتمع والإنسان حقا العيش بلا أخلاق؟ لماذا إذن احتفت الأديان -وخاصة الإسلام- بالأخلاق كل هذا الاحتفاء، حتى صار المؤمن يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم؟ كيف تتشكل الأخلاق؟ وما الذي يدعو الإنسان إلى الامتثال لها؟ وما دلالاتها؟ وما الذي يترتب عليها؟ ولماذا نحرص دائما على تربية أبنائنا تربية أخلاقية؟
هل يسير العالم نحو نهاية الأخلاق؟ وهل سيتحقق ذلك فعلا كما تحققت مطالب الحركات النسوية والمثلية الجنسية؟ أم سيصطدم دعاة هذا التيار بتيارات معاكسة ترفض الوصول إلى هذه النهاية، وتصرّ على المحافظة على الأخلاق باعتبارها القاعدة الأساسية التي يقوم عليها انسجام وتكامل المجتمع البشري، وتتحقق بها إنسانيته؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في هذه السلسلة، بهدف إلقاء الضوء على هذه التيارات، وفهم طبيعتها، وتفاعلاتها الإيجابية والسلبية، والوقوف على آثارها، وفهم الظواهر اللاأخلاقية المنحرفة التي تغزو العالم، وتتسلل إلى كافة مناحي الحياة ومجالات عملها.
الأسئلة المخادعة
يحتوي كتاب "نهاية الأخلاق: أخذ إلغاء الأخلاق على محمل الجدّ" على 12 فصلا، يمثل كل منها ورقة لأحد المفكرين والباحثين، وتركّز في مجموعها على الفحص النقدي للخيارات التي تطرحها نظرية الخطأ الأخلاقي، وتحاول الإجابة عن الأسئلة التالية:
هل صحيح أنه كلما زاد تحفيز الناس بالاهتمامات الأخلاقية، زاد احتمال أن يكون المجتمع نخبويا وسلطويا وغير أمين؟ هل مناشدة القيم الأخلاقية أداة مفيدة للمساعدة في حل النزاعات، أم أنها تؤدي في الواقع إلى تفاقمها؟ هل يمكن إلغاء الأخلاق من تفكيرنا؟ إذا قبلنا نظرية الخطأ الأخلاقي، فهل سيكون من المجدي الاستمرار في الإيمان بالأخلاق في سياقات الحياة اليومية؟ هل يمكن صياغة الخطاب الأخلاقي بشكل مفيد ضمن لغة مجازية مألوفة، حيث يمكننا نقل حقائق مفيدة ومهمة من خلال الأكاذيب؟ هل التفكير الأخلاقي يدعم أو يقوّض الالتزام بالأهداف النسوية؟ ما الدور الذي تلعبه الأحكام الأخلاقية في معالجة القرارات المهمة التي تؤثر في أزمة تغير المناخ؟
وتكشف هذه التساؤلات بصورة منهجية مخادعة، عن الجوانب الفكرية التي يتم التركيز عليها في البحوث والدراسات واستطلاعات الرأي، لإخراج الأخلاق من حياة الناس، وهدم الأسس التي تقوم عليها، تحت لافتات علمية منهجية. فجميع من ساهموا في إعداد فصول الكتاب، إضافة إلى المحررين اللذين أشرفا على المراجعة والإعداد، هم ممن يقفون إلى جانب نظرية الخطأ الأخلاقي.
بات يثير القلق في بلداننا في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ما تشهده من التحولات الكثيرة التي أثرت على معدلات الالتزام الأخلاقي، لأسباب عديدة، على رأسها دور المؤسسات التعليمية الغربية في بلداننا
صدر الكتاب عام 2018، وهو أحد أهم الكتب التي بحثت بشكل شامل في أضرار وفوائد الفكر الأخلاقي، وما قد يكون عليه العالم بدون أخلاق. وهو من تحرير كلٍّ من: الدكتور ريتشارد غارنر أستاذ الفلسفة الفخري بجامعة ولاية أوهايو بالولايات المتحدة الأميركية، وهو مؤلف كتاب "ما وراء الأخلاق"؛ والدكتور ريتشارد جويس أستاذ الفلسفة بجامعة فيكتوريا في ويلينغتون بنيوزيلندا، ومؤلف كتابي "أسطورة الأخلاق" و"تطور الأخلاق".
وتركز الأوراق التي تناولها الكتاب على "نظرية الخطأ الأخلاقي" التي صاغها الفيلسوف الأسترالي جون ماكي عام 1977، وهو يتخذ موقفا تجاه الأخلاق مشابها للموقف الذي يتخذه الملحد تجاه الدين، حيث يرى أن "العالم ببساطة لم يتم تزويده بالأشياء أو الخصائص أو العلاقات اللازمة لجعل أي خطاب صحيحا".
وترى الدكتورة مها علي حسن محمد يحيى، في كتابها "موضوعية القيم الأخلاقية ونظرية الخطأ في فلسفة جون ماكي الأخلاقية"، أن ماكي من أهم الفلاسفة الذين أثاروا مشكلة موضوعية القيم الأخلاقية في الفكر المعاصر، فقد كانت نظرية الخطأ التي قدّمها بمثابة إنعاش للفكر الأخلاقي المعاصر، بما أثارته من جدل ونقد، حيث استفزت الفلاسفة المعاصرين له، ودفعتهم للبحث عن براهين معقولة لتدعيم موضوعية القيم الأخلاقية.
أردنا من حديثنا عن كتاب "نهاية الأخلاق" ونظرية "الخطأ الأخلاقي"، في هذه الحلقة إبراز أهمية المسألة الأخلاقية، وما تحتله في الفكر الغربي المعاصر، والجهود الفكرية الجادة التي تصب في النهاية في صالح القضاء على الأخلاق وإخراجها من حياتنا بمرجعياتها الدينية والاجتماعية، دون التفكير في العواقب التي ستترتب على ذلك، أو الثمن الذي ستدفعه البشرية في المقابل، حيث تجري بهدوء عملية فصل الإنسان عن أسرته وعن مجتمعه، وتحويله إلى مجرد رقم إلكتروني في تعداد السكان، تدير شؤونه سلطات حاكمة عملت على تحييد المرجعيات الدينية والاجتماعية من حياة البشر، وأفسحت المجال كاملا للتشريعات والقوانين التي يتم إعدادها بما يحقق مصالحها.
وما بات يثير القلق في بلداننا في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، ما تشهده من التحولات الكثيرة التي أثرت على معدلات الالتزام الأخلاقي، لأسباب عديدة، على رأسها دور المؤسسات التعليمية الغربية في بلداننا، والانفتاح المفرط على الموجات الثقافية الغربية المتلاحقة التي بات يتغذى عليها أبناؤنا جيلا بعد جيل، إضافة إلى الدور الذي تقوم به الأجهزة الإعلامية العربية، في النقل الأمين لهذه الثقافة بكل حماسة واستعجال، والدعوة إلى تبنّيها وتعميمها، دون أن تبذل جهدا لفحصها وفهم تفاصيلها ومعرفة انعكاساتها على بنية الدولة والمجتمع والأفراد.
لم تعد مسألة نهاية الأخلاق مسألة فكرية فلسفية، بعد أن اقتحمت كافة المجالات، وبات الكثير من برامج الأمم المتحدة والمنظمات المدنية تغذيها، وتهيئ لها الأجواء، لتتمكن من النجاح في عملية تحويل العالم، والانتقال به إلى مرحلة جديدة قابلة للسيطرة والتحكم بكل تفاصيلها وجزئياتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق