لا عَدوى ولا طِيرة.. كيف واجه المسلمون الأوبئة والطواعين على مر القرون؟
محمد شعبان أيوب
سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون، فقال: "عذابٌ يبعثُه الله على من يشاء وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلدِه صابرا مُحتسبا يعلم أنه لا يُصيبُه إلا ما كتبَ الله له إلا كانَ له مثل أجرِ شهيد".
في تاريخنا القديم حوادث لا حصر لها من مواجهات وحروب طويلة بين البشر، سُفكت فيها الدماء، واحتُلت فيها الأوطان، وصار الناس بين عشية وضحاها بين الظفر أو الهزيمة، لكن ثمة تاريخ آخر من الصراع الخفي واجه فيه الإنسان عدوا أشد شراسة وأعظم أثرا، كان العدو هذه المرة شيئا غير مرئي ولا معروف المصدر، تمثل في صور من الطواعين والأوبئة قتلت الملايين، وأنهت حضارات، وسحقت أمما، وفرَّقت بين الوالد وولده. وقد ورثنا هذه الحقائق التاريخية في كتابات ونقوش وحكايات ألقت في وجداننا شعور هؤلاء القدماء الراحلين، من الخوف والحاجة والحرمان والصدمات، وضعف الإنسان على ما وهبه الله من قوة وإرادة، فضلا عما تخلّله من الإيمان الراسخ بأن قدر الله نافذ في أرضه وخلقه، وأن مشيئته سبقت خطط الناس وآمالهم وأحلامهم.
وفي زمن لم يزل فيه عالم الميكروبات والفيروسات المسببة للأوبئة مجهولا، جنح الناس إلى الدعاء والصلوات والسحر والقوى الغيبية، كل حسب اعتقاده وميله؛ لتعينهم على تلك الجوائح المُهلِكة، أو كما كتب المؤرخ الأميركي "ويل ديورانت": "كان الناس من أقدم الأزمنة يحاولون التغلّب على المرض والطاعون بالسحر والصلوات…، فحملوا مرضاهم وقرابينهم إلى هيكل أسكليبيوس ومينِرڤا (إلهَي الطب والحكمة على الترتيب)، وترك الكثيرون منهم فيهما الهدايا شكرا على نعمة الشفاء"[1].
يبدو الإنسان هو الإنسان مهما ارتقت به مدارج الحضارة، وأخذته العصور السحيقة إلى الوسيطة إلى الحديثة وما بعدها، فهو كائن ضعيف أمام الأمراض القاتلة والجوائح المهلكة. كيف واجه المسلمون إذن هذه الأوبئة القاتلة عبر 14 قرنا؟ وكيف كان سلوكهم أثناء تلك المآسي؟ وكيف عَبَروا من تلك المحن؟ وما أبرز آثارها وندوبها التي خلّفتها فيهم؟
الطاعون في المُدوَّنة الشرعية
اتكأ عالم الإسلام منذ نشأته الأولى على وعي ديني عميق بالحياة والإنسان والغيب، وعلى علاقة وثيقة بالإله المهيمن، وقد استمد المسلمون من القرآن الكريم وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الوعي، ولذلك عندما مرَّت الطواعين والأوبئة بهم، كان تعاطيهم معها استنادا إلى ما ذكره النبي في عدد من المواقف والأحاديث. ففي الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام البخاري، يقول النبي: "الطاعون رِجس أُرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلَكم، فإذا سمعتُم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا، فرارا منه"[2].
في هذا الحديث نرى أن النبي بيَّن ضرورة وإلزامية الحَجْر أو العزل الصحي لمرضى الأوبئة المعدية، وهو بُعد وقائي صحي سبق إليه الإسلام حضارات عديدة. وقد حرص المسلمون منذ أقدم عصورهم على تطبيق هذا الحديث في جوائح الطواعين والأوبئة، إذ أتى أول وباء في صورة طاعون "عَمْواس" الذي وقع في بلاد الشام سنة 18هـ أثناء خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومات فيه عدد من الصحابة مثل "أبي عبيدة عامر بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل"[3] كما روى الطبري في تاريخه.
وكان عمر بن الخطاب قُبيل طاعون عمواس والجابية قد انتقل من المدينة المنورة لتفقد أحوال المسلمين في الشام، ووقف عند أعتاب الجابية، وحينها أدرك أن ثمة طاعونا متفشيا فيها، فتردّد في الدخول، وهمَّ بالرجوع حين استشار كبار الصحابة من المهاجرين الأوائل، وواجهه قائد الجيش الإسلامي في جبهة الشام أبو عبيدة بن الجراح قائلا: "أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيتَ إن كان لك إبلٌ هبطت واديا له عُدوتان؛ إحداهما خصيبةٌ والأخرى جدِبةٌ، أليس إن رعيتَ الخصيبة رعيتَها بقدَر الله، وإن رعيتَ الجدبةَ رعيتَها بقدر الله؟ فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتُم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم به فلا تخرجوا فِرارا منه)، قال: فحمد اللهَ عمرُ، ثم انصرف"[4].
والحق أن اجتهاد عمر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما ممن عادوا إلى المدينة المنورة حينذاك مبتعدين عن الطاعون وأرضه كان صائبا ومتوخيا الرأي الشرعي والطبي الصحيح؛ فقد توفي أبو عبيدة بن الجراح وكثير من الصحابة في عمواس والجابية وغيرها من مناطق الشام التي أصابها الوباء حينذاك، في حين سلِم الآخرون. ولدى المدونة الحديثية العديد من الأحاديث الصحيحة التي تحض على الحجر الصحي أو الابتعاد عن المرضى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أيضا، أن النبي قال: "لا يُوردن مُمِرضٌ على مُصحّ"[5]، ويبدو أن هذا الحديث قد أُشكل معناه لدى عدد من الصحابة مع الحديث الآخر الشهير: "لا عَدوى ولا طيرة".
لكن إذا عدنا إلى "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للعلامة ابن حجر العسقلاني، نجده يقول إن أبا هريرة راوي حديث "لا عدوى ولا طيرة" عاد عنه بعدما ثبت عكس ذلك لديه، أي ثبوت حقيقة العدوى[6]. على أن عددا من العلماء أثبتوا صحة الحديث، مع تفسيره بأنه "لا عدوى" تعني الأمر بعدم العدوى، أي لا يُعدِ بعضُكم بعضا، وليست "لا" نافية لأصل العدوى كما ظنَّ بعض الناس[7]، وهو رأي يتفق مع الطب الحديث.
في إشكالية هذا الحديث بالتحديد، ورد سؤال للعلامة ابن تيمية جاء فيه أن رجلا مريضا مبتلى سكن في دار بين قوم أصِحَّاء، فقال بعضهم: لا يُمكننا مجاورتك ولا ينبغي أن تُجاور الأصحاء، فهل يجوز إخراجه؟ فأجاب ابن تيمية: "نعم، لهم أن يمنعوه من السكن بين الأصحاء، فإن النبي قال: (لا يُورد مُمرض على مُصح)، فنهى صاحب الإبل المِراض أن يوردها على صاحب الإبل الصِّحاح، مع قوله: (لا عدوى ولا طِيَرة). وكذلك رُوي أنه (لما قدم مجذوم ليُبايعه صلى الله عليه وسلم، أرسل إليه بالبيعةِ ولم يأذن له في دخول المدينة)"[8].
أدرك النبي بُعدا آخر شديد الأهمية، وهو ما تسببه الأوبئة والجوائح المَرَضية المُهلِكة من الخوف والقلق والرعب في نفوس الناس، فطمأنهم بأن الطاعون من أقدار الله النافذة، وأنه رغم كارثيته رحمة لعموم المؤمنين الصابرين، بل إن لهم أجر الشهادة إذا رضوا بقضاء الله وقدره، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من طريق عائشة -رضي الله عنها- أنها سألت النبي عن الطاعون، فأخبرها أنه "عذابٌ يبعثُه الله على من يشاء وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلدِه صابرا مُحتسبا يعلم أنه لا يُصيبُه إلا ما كتبَ الله له إلا كانَ له مثل أجرِ شهيد"[11].
الدعاء والتضامن وقت الأزمات
انتشرت الأوبئة بعد طاعون "عمواس" في كل العصور والبلدان الإسلامية، وأشهرها عصر الدولة الأموية، حيث سُمي بالطاعون الجارف، إذ أهلك الآلاف من الناس في مدينة البصرة جنوب العراق سنة 69هـ، وقال عنه ابن الجوزي: "وفي هذه السنة وقع الطاعون الجارف بالبصرة، فماتت أم ابن معمر الأمير (أمير البصرة)، فما وجدوا مَن يحملها حتى استأجروا لها أربعة أنفس، وكان وقوع هذا الطاعون أربعة أيام، فمات في اليوم الأول سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني واحد وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث ثلاثة وسبعون ألفا، وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليلا مِن الآحاد"[12].
وبسبب خطورة هذه الطواعين، دأب الناس على اتخاذ الإجراءات الاحترازية عند وقوعها، وعلى رأسهم الخلفاء وأبناؤهم، حيث يقول المؤرخ والمحدث الطبري: "كان الخلفاء وأبناء الخلفاء يتبدون ويهربون من الطاعون، فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام بن عبد الملك أن ينزل الرصافة قيل له: لا تخرج، فإن الخلفاء لا يُطعنون، ولم نرَ خليفة طُعن، قَالَ: أتريدون أن تُجرِّبوا بي؟! فنزل الرُّصافة وهي برية (على نهر الفرات ببلاد الشام)، ابتنى بها قصرين"[13].
بعد ذلك بقرون، نزل ببغداد طاعون مُهلك سنة 478هـ/1085م، وعجز الأطباء عن إيجاد علاج له، ونقل ابن الجوزي -مؤرخ بغداد- عن الأطباء أنهم قالوا في ذلك الطاعون: "ما رأينا مثل هذه الأمراض، لا تلائمها المبردات ولا المسخنات، واستمر ذلك إلى آخر رمضان، فمات منه نحو عشرين ألفا ببغداد، وكان المرض يكون خمسة أيام وستة ثم يأتي الموت، وكان الناس يُوصون في حال صحتهم، وكان الميت يلبث يوما ويومين لعدم وجود غاسل وحامل وحافر، وكان الحفَّارون يحفرون عامة ليلتهم بالروحانية ليفي ذلك بمن يُقبر نهارا، ووهب المقتدي (الخليفة العباسي) للناس ضيعة تسمى الأجمة، فامتلأت بالقبور".
لكن المأساة تفاقمت، فقلّت الأقوات واللحوم والألبان، وانتشرت أمراض أخرى مثل الجدري وغيره، وكل ما استطاعت السلطات الرسمية فعله في ذلك الوباء أنهم أمدُّوا "الفقراء بالأدوية والمال، ففُرِّق ما لا يُحصى، وعُهِد إلى أطباء المارستان (المستشفى) بمراعاة جميع المرضى"[14]. وكانت إستراتيجية الخلفاء والسلاطين على الدوام في مثل هذه الحالات تقديم العون المادي السريع، وإعلان ونشر التكافل الاجتماعي بتوفير الأطعمة والأشربة والأدوية بل والأموال، للفقراء والمحتاجين ممن أوقف الوباء أرزاقهم وأعمالهم [15].
في تلك الأجواء التي تساقط الناس فيها بسبب الطاعون، رأينا الأبعاد الإيمانية حاضرة، إذ حرصوا على إعلان التوبة والدعاء والاستغفار والإنابة، وهرعوا إلى الصوفية والأولياء والصالحين ليحضوهم على الدعاء لعل الله يسمع دعواهم ويرفع ما نزل بهم من البلاء. وكتب المقريزي في تاريخه عن الطاعون الذي وقع عام 749هـ/1348م: "وَقدم كتب نَائِب (أمير) حلب بِأَن بعض أكَابِر الصلحاء بحلب رأى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي نَومه وشكا إِلَيْهِ مَا نزل بِالنَّاسِ من الوباء، فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمُرهُم بِالتَّوْبَةِ وَالدُّعَاء وَهُوَ: اللَّهُمَّ سكِّنْ هَيْبَة صدْمَى قهرمان الحروب بألطافك النَّازِلَة الْوَارِدَة من فيضان الملكوت حَتَّى نتشبث بأذيال لطفك، ونعتصم بك عَن إِنْزَال قهرك. يَا ذَا الْقُوَّة وَالْعَظَمَة الشاملة، وَالْقُدْرَة الْكَامِلَة، يَا ذَا الْجلَال وَالْإِكْرَام. وَأَنه كُتب بهَا عدَّة نسخ بعث بهَا إِلَى حماة وطرابلس ودمشق"[16].
حين اشتد الوباء، نادى السلاطين والأمراء باجتماع الناس في مصر في الأماكن الخالية الفسيحة والجوامع والزوايا للصلاة والقنوت والدعاء، ويقول المقريزي في ذلك: "وفي شعبان تزايد الوباء في القاهرة، وعظُم في رمضان (749هـ)، وقد دخل فصل الشتاء، فرسم (أُمر) بالاجتماع في الجوامع للدعاء…، ونودي أن يجتمع الناس… بعامة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريون إلى مصلى خولان بالقرافة، واستمرت قراءة البُخاري بالجامع الأزهر وغيره عدة أيام، والناس يدعون الله تعالى، ويقنتون في صلواتهم"[17]. وفي طاعون سنة 790هـ رأينا الإجراءات ذاتها، حتى إن القاضي أمر مجموعة من الفقهاء بقراءة "البخاري بالجامع الأزهر، ودعوا الله عقب ختمه برفع الوباء، ثم اجتمعوا يوم الجمعة بالجامع الحاكمي ففعلوا مثل ذلك، ثم اجتمعوا أكثر مِن عددهم الأول فاستغاثوا بالجامع الأزهر، وكان وقتا عظيما فارتفع الوباء… بعد أن بلغ في كل يوم ثلاثمائة نفس"[19].
يبدو أن الصلاة والدعاء والقنوت لرفع الطاعون كانت أمورا بديهية وضرورية في مثل تلك الحالات التي اعتبروها نوازل وكوارث مفجعة، بل حضَّ عليها الفقهاء وعلماء الشريعة، ففي فقه الحنفية يقولون: "وينبغي أن يكون القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة ويُكبَّر له، وفي الأشباه: يقنت للطاعون لأنه مِن أشد النوازل، بل ذكَر أنه يُصلي له ركعتان فُرادى، وينوي ركعتا رفع الطاعون، والطاعون مصيبة وإن كان سببا للشهادة كملاقاة العدو ومحاربة الكفار؛ فإنه قد ثبُت سؤال العافية منها مع أنها ينشأ عنها الشهادة، قال صلى الله عليه وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية"[20].
الإجراءات والمؤلفات الطبية
من الإجراءات التي اتبعها بعض الفقهاء والعلماء وعلية القوم وحضُّوا عليها أيضا في محاربة الطاعون، أنهم كانوا يأمرون الناس بعدم التجمُّع في الأماكن العامة المغلقة، مثل المدارس والحمامات وغيرها، مثل الشيخ الفقيه عز الدين بن جماعة الذي "كان ينهى أصحابه عن دخول الحمام أيام الطاعون"[21]، والحمام هنا يُقصد به الحمامات العامة المخصصة للاغتسال والاحتجام وغيرهما، لكثرة من يخالطها من الناس، ولكونها أماكن مغلقة تسبب انتشار العدوى. وكانت الدعوة إلى عدم مخالطة المرضى شائعة في تلك العصور، فقال بها الأطباء مثل الفقهاء، فقد قال ابن حجر العسقلاني في تعليقه على حديث "فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد" أن الأمر بالفرار هنا لأن الداء ينتقل من جسد إلى جسد بواسطة الملامسة والمخالطة وشم الرائحة، فتنتقل أمراض كثيرة من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالطة[22].
تعرَّض المؤلفون في الحضارة الإسلامية لموضوع الأوبئة، وألَّفوا في ذلك عدة مؤلفات ما بين كبير وصغير، منها ما تناول الأمر من جانب طبي، ومنها الشرعي الديني، فضلا عن السرد التاريخي والأدبي. ومن ذلك رسالة الكندي في "الأَبْخِرَة المـُصْلِحَة للجو من الأوباء"، و"كتاب الطواعين" لابن أبي الدنيا، و"نعت الأسباب الموَّلِّدَة للوباء في مصر" لابن الجزار، ورسالة "النبا عن الوبا" لابن الوردي الذي قضى في طاعون سنة 749هـ/1348م، وكتاب "مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء" لمحمد التميمي.
ويُعد كتاب "بذل الماعون في فضل الطاعون" لابن حجر العسقلاني من أشهر هذه المؤلَّفات، وقد تناول ابن حجر في كتابه مبدأ الطاعون، والتعريف به، وبيان كونه شهادة، وحكم الخروج من البلد الذي يقع به والدخول إليه، وما يشرع فعله بعد وقوعه، ثم اختتم بالإشارة إلى أشهر الطواعين التي وقعت في التاريخ الإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن ابن حجر فَقَد ابنتين له بسبب الطاعون، فضلا عن معاصرته لطاعون ثان وقع بالقاهرة[23].
وهناك كتاب "مِجَنَّة الطاعون والوباء" لإلياس اليهودي بن إبراهيم الإسباني، وألَّف هذه الرسالة سنة 915هـ/ 1509م للسلطان العثماني بايزيد الثاني، وهو طبيب ذكر أن له شرحا على "القانون" لابن سينا، ويبدو أنه من يهود الأندلس الذين هاجروا إلى الدولة العثمانية واستقروا بها. وقد ذكر أنه ألّف رسالته بعد وقوع زلزال شديد، خشي أن يقع بعده وباء وطاعون حسب كلام أرسطو. وقد بيَّن فيها أسباب الوباء والطاعون، وعلاماتهما، وطريق علاجهما ومداواتهما. وقد كُتبت النُسخة سنة 996هـ/1588م في ولاية بودين العثمانية، التي تقع اليوم ضمن أراضي جنوب شرق أوروبا[24].
ينصح أبي بكر الرازي في كتابه، عموم الناس بأمرين لافتين لمواجهة الطاعون أو الوباء، الأول أكل الأطعمة سريعة الهضم، والثاني بتطهير البيوت والأماكن المغلقة وتعقيمها عن طريق رش الخل فيها. (مواقع التواصل الاجتماعي)
ونظرا إلى أن الأوبئة والطواعين أهلكت مئات الآلاف بل الملايين من الناس دون قدرة منهم على فعل شيء، ظهر جدل فقهي حول مسألة التداوي وجدواها أمام هذه الأوبئة، ونقل العلامة مرعي الحنبلي هذا الجدل في كتابه "ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون"، فيه خلاصة أقوال الفقهاء والعلماء والأطباء وضرورة التداوي حتى إذا لم يكن الدواء ناجعا، ونقل في ذلك رأي العلامة ابن حزم الأندلسي الذي جاء فيه: "صحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصحيح الطب والأمر بالعلاج به، وأنه قال: (تَدَاوَوا فَإِنَّ الله تَعَالى لَم يَخْلُق دَاء إلَّا خَلَقَ لَه دَوَاء إلَّا السَّام)"، والسَّام: الموت.
خصص أطباء الحضارة الإسلامية حديثا مفصَّلا أيضا حول الأدوية والأطعمة التي تساعد على تقوية الجهاز المناعي القادر على محاربة الطاعون، ففي كتاب "الحاوي في الطب" لأبي بكر الرازي، أحد أشهر أطباء المسلمين، نراه ينصح عموم الناس بأمرين لافتين لمواجهة الطاعون أو الوباء العام، الأول أكل الأطعمة سريعة الهضم، مثل الفواكه كالرمان والإجاص (الكمثرى) والعدس والقرع، كما رأيناه ينصح بتطهير البيوت والأماكن المغلقة وتعقيمها عن طريق رش الخل فيها[26]. وفي كتابه "الشامل في الصناعة الطبية"، ينصح طبيب الحضارة الإسلامية اللامع علاء الدين بن النفيس بإلقاء ثمرة الأترُج (Citron) -وهي نوع من الفاكهة الحمضية- في مواقد النار داخل البيوت، فإن دخانها من أفضل المعقّمات والمطهرات من الأوبئة والطواعين على حد وصفه[27].
عرف المسلمون الحجر الصحي بمعناه العام، ودعوا إليه، لكننا رأينا أحد علماء الجزائر وأطبائها وفقهائها في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهو حمدان خوجة، يدعو إلى الكرانتينة (الحجر الصحي المخصوص) ويدافع عنها، ويهاجم رأي الفقهاء المغاربة الناقدين والرافضين لإجراءاتها بحجة أنها من أعمال الكفار، مبيّنا أن فعلها يتوافق مع الأحاديث النبوية وفعل الصحابة، وذلك في رسالته القيمة "إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحتراز عن الوباء"[28].
تلك بعض من المشاهدات التي وقعت في أزمنة الأوبئة والطواعين، كان المسلمون فيها على الدوام ملتزمين بالآراء الشرعية التي تتوافق مع الإجراءات الطبية السليمة من الحجر الطبي، وعدم السماح للمرضى بالخروج من حَجْرهم، والصبر على هذه الجائحة، والبحث عن العلاج النافع لدفع الوباء أو لتقوية الجهاز المناعي وتطهير المنازل، وكلها رغم مرور القرون عليها لا تزال أصولا وآليات معترفا بها، ومعتَمدا عليها في التداوي والعلاج حتى يومنا هذا.
المصادر
- ول ديورانت: قصة الحضارة 10/194.
- صحيح البخاري 4/175.
- تاريخ الطبري 4/60.
- ابن الجوزي: المنتظم 4/224، 225.
- صحيح البخاري 7/138.
- ابن حجر: فتح الباري 10/160.
- عبد الفتاح أبو غدة في تحقيقه: المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص47.
- مجموع الفتاوى 3/117.
- ابن القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/213.
- صحيح البخاري 4/175.
- البخاري 4/175.
- ابن الجوزي: المنتظم في التاريخ 6/25.
- تاريخ الطبري 7/207.
- ابن الجوزي: السابق 16/240.
- ابن الجوزي: السابق 16/257.
- المقريزي: السلوك 4/86.
- المقريزي: السابق.
- ابن حجر: إنباء الغمر 1/231.
- ابن حجر: إنباء الغمر 1/345.
- حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص377.
- ابن حجر: السابق 3/115.
- ابن حجر: فتح الباري
- محمود زكي: الأوبئة والجوائح في التراث العربي.
- محمود زكي: السابق.
- مرعي الحنبلي: ما يفعله الأطباء ص41، 42.
- الرازي: الحاوي في الطب 4/428.
- ابن النفيس: الشامل في الصناعة الطبية 1/151.
- حمدان خوجه: إتحاف المنصفين ص15.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق