بعد حوكمة “السناتر”: التعليم في مصر إلى أين؟
منذ زمن بعيد -ربما يذهب إلى ثمانينات القرن المنصرم- والعملية التعليمية في مصر تتعرض من قِبَل المسؤولين عن التعليم لإرباك ممنهج، إلى حدِّ أنّ الناس قد تَسَرَّب إليهم إحساس -بل ربما اقتناع- بأنّ كل وزير من الوزراء المتتابعين على هذا المنصب -المبتَلَى دائمًا- إنّما جاء بأجندة تختلف كُلِّيًّا وجزئيًّا عن السابق واللاحق، ولا تَمُتُّ بأدنى صلة إلى برنامج أو مذهب أو منهج تتبناه الدولة وتعتمده ضمن رؤيتها للتعليم والتربية، ولا عجب؛ إذْ رأى الناس أنّ العملية التعليمية تحولت إلى حقل تجارب شديد العبث والارتجال، ومن أراد أمثلة فما عليه إلا أن يعود بالذاكرة إلى الوراء ليرى كيف أَلْغَوا السنة السادسة الابتدائية وكيف أعادوها، وكيف جرى التغيير والتغيير المضاد كل عام على نظام الثانوية العامّة، وكيف تمّ العدوان على المناهج التعليمية لكثير من المواد الدراسية المؤثرة في تحديد الهوية وفي الحفاظ عليها؟!
دوافع القرار الصادم
لم يكد الناس يلتقطون أنفاسهم بعد سلسلة الصدمات التي بدأت بأزمة الامتحانات التي أشعرت -بل أورثت اقتناعا- بأنّ المسألة التعليمية تحولت إلى مزاد على المكشوف، وانتهت بفضائح الفصول المكتظة والمدارس التي صارت من الإهمال كالخِرَبِ المهجورة، والعجز الصارخ في المدرسين وفي الفصول التعليمية على السواء، لم يكد الناس يفيقون من تلك الصدمات حتى فوجئوا بأمّ الطوارق، حيث أعلن وزير التربية والتعليم رضا حجازي عن حوكمة السناتر التعليمية، ويعني بذلك إخضاع مراكز الدروس الخصوصية للقوننة وللنظام الضريبيّ، مع استخراج رخص رسمية ليس للمراكز وحسب بل للمعلمين أيضا.
ولم يعدم الوزير الجديد صراحة وشفافية؛ فها هو يصرح بأنّ جُمْلَةَ ما تحققه “السناتر” من دخول تصل إلى 47 مليار جنيه، لا تعلم الدولة عنها شيئا، فالدافع -إذن- هو الجباية، وهو التخلص من عبء الإنفاق على الطالب والمعلم والإلقاء بذلك كله على عاتق أولياء الأمور، مع ربح تجنيه الدولة التي تتسول كل غاد ورائح وتلقي شِباكَها وشِراكَها لكل شاردة وواردة، فهل يمكن أن تُؤْتَمَنَ حكومة على العملية التعليمية، إذا كانت هذه دوافعها في اتخاذ قرارات في مسائل دقيقة وحساسة، كتلك التي تتعلق ببناء الجيل وتربية النشء؟! تساؤل جوهريّ يطلق حزمة من التساؤلات لا نهاية لها.
الآثار الخطرة
لن أتحدث عمّا سيترتب على القرار من ضغوط وأعباء على العائل المصريّ؛ ليس استهانة بها؛ فكم هي ثقيلة وقاصمة لفقار الظهر تلك الأحمال المتزايدة على المواطن المصريّ، لكنْ لأنّ هذه الأعباء على ضخامتها سوف تتضاءل أمام الدواهي التي ستصيب النشء والمجتمع كله جَرَّاءَ تقنين وَضْعٍ كهذا؛ ليس فقط بسبب تخلف -أو ربما غياب- دور المدرسة، وإنّما لذلك ولأمور أخرى غاية في الخطورة، يأتي على رأسها أنّ التعليم -الذي هو حقٌّ للناس كالماء والهواء- سيؤول أمره إلى أن يكون {دُولَةً بين الأغنياء}؛ فَيَتَعَرَّى منه كثير من النجباء الأذكياء، ويكتسي به كثير من “المناكيد” الأغبياء، وتحرم البلاد بذلك من مواهب وَارَاها الفقر واللأواء، وتُبْتَلَى بنوائب أظهرها الغنى والثراء، ولاسيما مع اتساع قاعدة المسكنة وسقوط شرائح عريضة من الأسر المصرية تحت خط الفقر.
أمّا المخاطر التي تهدد العملية التعليمية ذاتها -بغض النظر عَمَّنْ سينال حظه منها- فهي كبيرة وخطيرة، فمع تحول التعليم بتلك “السناتر” إلى مجرد وسيلة لتخطي عقبة الامتحان؛ سوف تتضاءل قيمة العلم في ذاته، وتتحول الرغبة فيه إلى رغبة في الخلاص منه، وتصبح العملية التعليمية للجيل كله مجرد قنطرة للعبور إلى الوظيفة أو ما شابهها من المغانم المادية البحتة، ومع وقوع التنافس بين “السناتر” في جذب الدارسين -وهو ما لا فكاك منه- ستنحط الأساليب إلى حدّ التوصل إلى معرفة التوقعات للامتحانات والأسئلة بالرشوة، وتكتمل عندئذ عملية التسليع الكامل للعلم والتعليم والمعلم والمتعلم.
خطر الارتجال
إنّ التعليم ليس عملية ارتجالية تُوكَلُ إلى معلمين يرتزقزن من ممارستهم لفنّ التلقين، أو إلى “سناتر” تمارس الحشر العشوائي للمعلومات بشكل غير مرتب وغير ممنهج، وإنّ تقنين وحوكمة هذه المراكز سيؤدي إلى هذا الارتجال حتمًا، وإلى غياب دور المدرسة بشكل شبه كامل، وتلك قاصمة كبرى لا عاصم منها إلى التراجع السريع عن تلك القرارات الهوجاء، والعمل على رفع كفاءة المعلم في المدرسة وتحسين وضعه الاقتصادي والاجتماعيّ والمهنيّ، وتحسين وترشيد السياسات التعليمية مع الإنفاق الجيد على التعليم والبحث العلميّ، ذلك إذا كانت الدولة تريد صلاحا ورشادا، وإلا فما وظيفتها في الحياة؟!
إنّ العملية التعليمية منظومة تربوية بنائية كاملة ومترابطة، تقوم على أسس وقواعد ومعايير، وتَتَّبع سياسات ومناهج وقيم، وتُوضَعُ لها رؤيةٌ ترتبط بآمال الأمة وطموحاتها وبآلامها وتحدياتها، ويَتَحَدَّدُ من منطلق هذه الرؤية أهدافٌ معرفية ومهارية ووجدانية وتربوية وبنائية ونهضوية وحضارية، ثم يتم تحويل ذلك كله عبر المدارس والمؤسسات التعليمية الكبرى إلى واقع تعليمي وتربويّ متطور ومتجدد، يتجلى أثره في الحياة العامّة، فكيف يوكل ذلك كله إلى “سناتر!” لا غرض لها إلا الارتزاق، وإلى طلاب وأولياء أمور تنتهي أحلامهم عند أرقام تُكتب في الشهادات، كلا والله لا يكون التعليم على هذا النحو إلا مع انتهاج سبيل الهدم والتخريب.
قاعدة راسخة
ويجب ألا ننسى قاعدة ذات أهمية بالغة، تقررها جميع الأنظمة وكافّة الثقافات، وفي مقدمتها النظم الإسلامية والثقافة الشرعية، وهي أنّ الوظائف ذات الحساسية والبعد القيميّ لا يُوكَلُ الإجزاءُ الماديّ عليها إلى التعامل الثنائيّ بين طرفين من الجمهور، كالقضاء والتعليم والسياسة، فهل يمكن – مثلا – أن نجعل دَخْلَ القاضي من جيوب الخصوم المتحاكمين؟! أو رزق السياسي من أقوات الرعية المحكومين؟! بالقطع لا؛ فكذلك المعلم والأكاديميّ والباحث والمخترع والفنان والأديب، وكذلك العملية التعليمية والتربوية برمتها، يجب أن تصون الدولةُ وجوهَ هؤلاء جميعا، وأن تحمي مقام العلم والْحُكم والقضاء من أوهاق والتَّساوم الماديّ الهابط، بذلك ترشد الأمم وترقى الشعوب، وتتحقق لها أحلام الحضارة والمدنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق