الخميس، 20 أكتوبر 2022

الحكّاء (34) | لا تبرح حتى تبلغ


الحكّاء (34) | لا تبرح حتى تبلغ

(1)

إنْ تحسب المخاطر قبل أن تبدأ فلن تبدأ أبدًا

يتعين عليك أحيانًا أن تخوض في الأمر بعزيمة من حديد، وبقلب شجاع، وبنفس جاهزة لتقبُّل النتائج كيفما تكون، وهي في العادة تكون باهرة، وقد كنا نعدّها مستحيلة.

وهذه الحكاية قد تكون أغرب من الخيال، لكنها وقعت بالفعل، وهي خير دليل على ما ذكرت.

عندما تفشل لا تتوقف، عُدَّ أخطاءك، وادرسها جيدًا، ثم ابدأ من جديد، لا تبرح حتى تبلغ

(2)

صبيحة الثالث عشر من أغسطس/آب 1961، يستيقظ الناس فيما كان يعرف بألمانيا الشرقية على صياح الجنود السوفياتيين في وسط برلين، وهم يباشرون وضع الحواجز الصخرية لبناء جدار يفصل الشطر الشرقي الواقع تحت سيطرة السوفيات عن الشطر الغربي الواقع تحت سيطرة الأميركيين.

تنشط الدبابات السوفياتية في دورياتها لقمع أي حركة تمرد يقوم بها الراغبون في الهروب من جحيم ألمانيا الشرقية إلى نعيم ألمانيا الغربية.

"يواكيم رودولف" طالب هندسة يبلغ من العمر 22 عامًا، يقرر أن يخوض مغامرة الهروب، يصل إلى الحقول الصغيرة القريبة من الجدار الفاصل، يزحف بين أغوارها وأشجارها، تنصفه الأقدار، ويصل إلى نقطة بعيدة عن المراقبة العسكرية، وينجح في الوصول إلى الشطر الغربي.

لم يكن الجدار في ذلك الوقت قد اكتمل طوله، ولم تكن الحراسة حوله قد اشتدت، إلى أن ترصد السلطات السوفياتية تزايد حالات الهرب، فتزيد من إجراءاتها الأمنية، لتصبح الأمور كأن الناس قد حكم عليهم بالبقاء داخل ذلك السجن.

تستقر أمور يواكيم في ألمانيا الغربية، ويستكمل دراسته للهندسة، وتسير الأمور بشكلها الروتيني، إلى أن تفاجئه زيارة ذات صباح من زميلين له، يطلبان مساعدته في تهريب رفاق لهم من ألمانيا الشرقية، يخبرانه أنهما يلجآن إليه باعتبار أنه صاحب تجربة في الهرب من هناك.

(3)

تجاوب صاحبنا سريعًا معهما، وأبلغهما موافقته، ليشرع الثلاثة في وضع خطتهم، يتوصلون إلى أنه لا حل سوى حفر نفق يمر تحت الجدار، وبالفعل يبدؤون عملهم بالحصول على خرائط تفصيلية لبرلين بالكامل، بهدف تحديد مسار النفق، من أين يبدأ وإلى أين ينتهي.

يقودهم البحث إلى مصنع قديم يقع بالقرب من الجدار، يمكن أن يبدأ الحفر من داخله ليمر من تحت الجدار، يطلبون من صاحب المصنع السماح لهم باستخدامه مكانًا للتدرب على عزف موسيقى الجاز التي يحبونها، تمر أيام قليلة ليكتشف صاحب المصنع القصة بأكملها، غير أنه يوافق على مساعدتهم، فهو كذلك من الذين هربوا من ألمانيا الشرقية.

تنتقل خطتهم إلى المرحلة التالية، يتتبعون خريطة برلين بحرص، يعثرون على شقة يمكن أن ينتهي الحفر إليها في الشطر الشرقي، يتواصلون مع شخص يثقون به يعيش هناك ليتحرك نحو الشقة، ويجد طريقة لإقناع أصحابها، لكنه يكتشف أن الشقة مهجورة، وينجح في التسلل إليها كما اللصوص.

وحتى يبدأ العمل الجدي في الحفر مطلوب أن ينضم للعمل مزيد من الشباب، وهو أمر ليس سهلًا، فألمانيا الغربية حيث سيبدأ الحفر يعيش بها جواسيس سوفياتيون، وهو ما يضيّق دائرة البحث لتقتصر على المعارف والموثوق بهم.

(4)

ينضم إليهم 3 آخرون من زملائهم في كلية الهندسة، هربوا كذلك من الجانب الشرقي، ليشكل الجميع فريق العمل، وتبدأ أولى عمليات الحفر في ليلة التاسع من مايو/أيار عام 1962 من داخل المصنع.

الغريب أن الفريق لم يكن يدري كيف سيكون شكل النفق، وإلى أين يجب أن يتجه الحفر، لكن أحيانًا يكون كل ما عليك هو أن تبدأ، ثم تُصحح مسارك لاحقًا، وهو ما حدث، فقد حدد الفريق هدفه المرحلي بالحفر رأسيا للوصول إلى عمق 1.3 متر، ومن ثَمَّ التحرك أفقيًّا نحو الشرق، بعد دراسة الموقف حينئذ، وتحديد المسار المطلوب.

لكن التحرك أفقيًّا يبدو أكثر صعوبة مما توقعوه، فالتربة ليست سهلة الحفر كما ظنوا، والعمل خلال الحفر يتطلب منهم الحركة بظهورهم، والدفع بأرجلهم للمناورة داخل نطاق النفق بحيزه الصغير، لكنهم بإصرار يواصلون عملهم، ويتخذ الأمر شكلًا روتينيًّا عبر الحفر وحمل التراب والطين المستخرج بواسطة هيكل "كابينة" هاتف عمومي قديمة من بقايا الحرب العالمية الثانية، ونقله إلى مكان بعيد.

تمر الأسابيع والحفر لم يحقق غير مسافة ضئيلة للغاية، تفتك آلام الظهر بهم جميعًا، وتغطي أجسادهم الجروح والندبات، ليبدأ التفكير في طريقة أخرى لتحريك الأمور نحو الأمام بوتيرة أسرع وأفضل، تدور مناقشات حامية بينهم، ثم يتفقون على ضرورة البحث عن وسيلة لجني الأموال، بغرض شراء معدات أقوى، وتوظيف أيد عاملة مأمونة.

وصل إلى أسماع الفريق أن هناك محاولة أخرى لشق نفق آخر، ينطلق أيضًا من ألمانيا الغربية نحو الشرقية، غير أن القائمين عليه قد قرروا التوقف عن استكمال أعمال الحفر لأنهم لا يملكون ما يكفي من الأدوات والمال، فيتواصل الفريقان ويقرران التعاون لاستكمال الحفر في هذا النفق الأخير الذي من المفترض أن ينتهي أسفل كوخ ريفي مهجور في ألمانيا الشرقية.

(5)

بعيدًا عن موقع الحفر بآلاف الأميال، تحديدًا في نيويورك الأميركية، يفكر فرانك ريوفين مذيع نشرات الأخبار الشهير في إعداد قصة خبرية عن واحدة من حكايات الهروب عبر جدار برلين، يتصل فرانك الذي يعمل في قناة "إن بي سي" (NBC) بمراسل القناة في برلين الغربية بيرس أنديرتون، ويطلب منه البحث عن قصة هروب مناسبة، لتكون هي الأولى التي تبث عبر شاشات الإعلام الأميركي.

تلتقي محاولات بحث مراسل الشبكة بين المعارف الموثوق بهم ببحث الفريق عن تمويل لعملية الحفر، يقود الفريق المراسل إلى مكان النفق، فيطلب المراسل تصوير عملية الهروب بالكامل كونه سبقًا صحفيًّا لقناته، يستغل الفريق الفرصة، ويطلب مقابلًا ماليًّا للسماح بالتصوير، توافق الشبكة الأميركية على العرض.

يعود الفريق للحفر من جديد مع عمالة جديدة وأدوات حفر حديثة، ليعمل الجميع يوميًّا 8 ساعات، وبحلول شهر يونيو/حزيران، وفي اليوم الثامن والثلاثين من الحفر يكتشف الفريق أنه قد شق 50 مترًا تحت الأرض، وصار أكثر قربًا من الحدود.

المفاجأة الجميلة هي سماع أصوات الحركة والزحام والسيارات فوق منطقة الحفر، مما يؤكد أنهم تجاوزوا الجدار، تزداد حماستهم، لكن المفاجأة المخيفة أنهم قد وصلوا إلى حرم قاعدة عسكرية، وذلك لم يكن في الحسبان، فقد سمعوا أصوات الجنود أكثر من مرة، وهو ما يعني أن الجنود يمكنهم سماع ما يحدث في النفق، لتزداد تحدياتهم تحديًا آخر؛ إذ عليهم الآن الحفر بحذر شديد حتى عبور تلك النقطة الخطرة التي يمكن أن تمثل نهاية الأمر برُمَّته.

يتجاوزون القاعدة، يفرحون بذلك إلى أن تصدمهم كارثة أخرى، فقد كسرت إحدى مواسير المياه تحت الأرض، وانسياب المياه داخل النفق يعني انهياره بالكامل وضياع المجهود المبذول، بعدما أصبحوا على بعد 50 مترًا من نقطة الوصول إلى الشقة المقصودة في الجانب الشرقي.

يقرر الفريق المخاطرة وإبلاغ شركة المياه في ألمانيا الغربية بأمر الأنبوب المكسور، يترقب الجميع الخطر الناتج عن ذلك البلاغ، لكن المفاجأة مرة أخرى أن الشركة تقوم بالإصلاح من دون الانتباه لما يحدث.

صحيح أن الأنبوب قد أصلح، لكن النفق لا يزال مغمورًا بالمياه، والتهوية فيه ضعيفة جدا، وذلك يعني أن جفافه قد يحتاج إلى شهور طويلة، لتتوالى الأحداث بصورة درامية، فقد وصل إلى أسماع الفريق أن هناك محاولة أخرى لشق نفق آخر، ينطلق أيضًا من ألمانيا الغربية نحو الشرقية، غير أن القائمين عليه قد قرروا التوقف عن استكمال أعمال الحفر لأنهم لا يملكون ما يكفي من الأدوات والمال.

يتواصل الفريقان، ويقرران التعاون لاستكمال الحفر في هذا النفق الأخير الذي من المفترض أن ينتهي أسفل كوخ ريفي مهجور في ألمانيا الشرقية.

(6)

واحد من الفريق المشترك يعمل بحماسة على أمل أن تنجح حبيبته في الهروب من ألمانيا الشرقية، وتوكل إليه لاحقًا مهمة التنسيق مع الراغبين في الهروب، بعد أن دلّتهم حساباتهم أنهم سينتهون من الحفر يوم السابع من أغسطس/آب.

يلتقي الشاب بعد أن عبر إلى ألمانيا الشرقية بالمجموعة التي يُفترض أن تكون أول الهاربين، لكنه يشك في رجل منهم يعمل مصففًا للشعر، لكن المغامرة تستمر، وينتهي الحفر بالفعل، وينجح الفريق في الوصول إلى نقطته المرغوبة، ينقصه فقط أن يحفر بضعة أمتار قليلة لإسقاط كميات من التراب والنفاذ عبر أرضية الكوخ لاستقبال العائلات وإدخالها إلى النفق، يستكمل الشاب المكلَّف بالتنسيق التواصل مع من يفترض بهم الهروب، وإبلاغهم بالموعد والمكان.

وبالفعل، وفي الموعد المحدد يبدأ الراغبون في الهروب التحرك نحو الكوخ الريفي والخوف يعتصر قلوبهم، لم ينم أي منهم ليلته الماضية من التفكير فيما سيحدث، وعلى الناحية الأخرى كان المهندسون في حالة من الخوف بسبب المهمة.

تتعقد الأمور فجأة، فالرجل الذي شكَّ فيه الشاب هو بالفعل مخبرٌ تابع للشرطة السوفياتية، وقد أبلغها باليوم وساعة الهروب المحددة، وأنه من المتوقع أن يهرب 100 شخص، في واحدة من أكبر عمليات الهروب من ألمانيا الشرقية، مما دعا الشرطة السوفياتية إلى التحرك نحو الكوخ، ومهاجمة محاولي الهرب والقبض عليهم جميعًا.

وكما يحدث في أفلام السينما، وبعد دقائق من القبض على الذين يحاولون الهرب، ينجح فريق الحفر في النفاذ إلى الكوخ من أسفل، فيُفاجؤون بالهدوء الذي يسود المكان، وقد كانوا يتوقعون غير ذلك، يطلّ أحدهم من النافذة ليجد رجلًا بزي مدني يقف بالقرب من الكوخ، فيتأكد في تلك اللحظة أنه تابع للشرطة السرية.

يصاب الفريق بالرعب، ويتحرك سريعًا عائدًا عبر النفق حاملين معهم كل الأدوات الدالة عليهم، بعد دقائق تقتحم الشرطة المكان.

لم يكن الشاب الذي ينتظر حبيبته على علم بما حدث، بل ربما كان الوحيد الذي لم يدر أن العملية بأكملها قد فشلت، يتحرك في طريقه للعودة إلى برلين الغربية عبر الحدود باعتباره حاملًا لجواز سفر من ألمانيا الغربية يتيح له التنقل، ليُفاجأ بوجود حبيبته عند نقطة التفتيش الحدودية جالسة بين رجلين، ليعرف حينئذ أن أمره انتهى.

يخضع لتحقيق مطول دام أكثر من 24 ساعة من دون طعام أو ماء أو نوم، حتى يصيبه الإرهاق، ويبدأ الاعتراف بكل شيء، وتحصل الشرطة منه على 50 صفحة من الأجوبة، وينتهي الأمر به محكومًا عليه بالسجن 7 سنوات، أما الأحكام على بقية المقبوض عليهم فراوحت بين السجن سنوات والتفريق بينهم وبين أطفالهم قسرًا.

(7)

عندما تفشل لا تتوقف، عُدَّ أخطاءك، وادرسها جيدًا، ثم ابدأ من جديد، لا تبرح حتى تبلغ، وهذا ما فعله الفريق، الذي يرفض الاستسلام، ويقرر العودة إلى النفق القديم من داخل المصنع، مع تقليل عدد العاملين، وتقليل دائرة الهروب، وفي سبتمبر/أيلول تعود أعمال الحفر من جديد، وفي 14 من الشهر نفسه يصل الحفر إلى واحدة من النقاط القريبة من الشقة المتفق عليها، ينتظر الفريق خطوة واحدة فقط وهي الصعود إلى الشقة عبر النفق، لكنَّهم يفكرون في ضبط الأمور هذه المرة قبل الصعود إلى أعلى وتكرار المأساة الماضية.

يبدأ البحث عن شخص يمكنه الاتفاق مع الأشخاص المفترض هروبهم والاتفاق معهم على إشارة سرية بمجرد أن يرونها يعرف كل منهم أن ميعاد الهروب قد حان، ويبدؤون التحرك نحو مكان النفق الذي أُبلغوا به سابقًا بالفعل.

يقع الاختيار هذه المرة على صديقة أحد أعضاء الفريق التي تمتلك جواز سفر من ألمانيا الغربية، يعطيها حرية في الحركة، ترتدي الفتاة أزياء أنيقة ونظارة شمسية، وتتنكر في مظهر يشبه العاملات في السينما، لتبعد عنها الأنظار.

تنجح الفتاة في إبلاغ العائلات المقصودة الراغبة في الهروب بالموعد والمكان، وتغادر ألمانيا الشرقية حتى لا يقبض عليها إذا افتُضح أمرها كما حدث في المحاولة الأولى.

(8)

يقف يواكيم وزميله هاسو داخل الشقة التي وصلا إليها من النفق، ومع كل منهما مسدس في انتظار ظهور أحد، يسمعان صوت أقدام تقترب، يزداد خوفهما، حتى يتبين أنها عائلة من أب وأم وفتاة صغيرة، لتكون أولى البشائر، تنزل العائلة نحو النفق بالفعل، ليجدوا في استقبالهم على الناحية الأخرى فريق تصوير صحفيًّا من الشبكة الأميركية مسجلين لحظة وصولهم وأجسادهم مغطاة بالطين والتراب.

يبدأ الأفراد المسجلون في قائمة الهروب التوافد والمرور عبر النفق، حتى تصل زوجة أحد أعضاء الفريق ومعها طفلتها الرضيعة التي أنجبتها داخل السجن حينما قبض عليها وهي حامل بينما كانت تحاول الهروب مع زوجها.

يعبر الجميع بسلام، وتحصل الشبكة الأميركية على فيلمها الكامل للهروب من النفق، يواجه الفيلم أزمة في البداية مع الرئيس الأميركي جون كينيدي الذي يشاهد الفيلم ويرفض عرضه خشية وقوع أزمة دبلوماسية مع السوفيات، لكن بعد شهرين من تصويره يوافق على عرضه، بعدما أصبح جميع المشاركين في القصة بأمان داخل ألمانيا الغربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق